قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } قيل : نزلت الآية في رجلين اغتابا رفيقهما ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا أو سافر ضم الرجل المحتاج إلى رجلين موسرين يخدمهما ، ويتقدم لهما إلى المنزل فيهيئ لهما ما يصلحهما من الطعام والشراب ، فضم سلمان الفارسي إلى رجلين في بعض أسفاره ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام فلم يهيئ لهما شيئا ، فلما قدما قالا له : ما صنعت شيئاً ؟ قال : لا ، غلبتني عيناي ، قالا له : انطلق إلى محمد صلى الله عليه وسلم فاطلب لنا منه طعاماً ، فجاء سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله طعاماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق إلى أسامة بن زيد ، وقل له : إن كان عنده فضل من طعام وإدام فليعطك ، وكان أسامة خازن محمد صلى الله عليه وسلم على رحله ، فأتاه فقال : ما عندي شيء ، فرجع سلمان إليهما وأخبرهما ، فقالا : كان عند أسامة طعام ولكن بخل ، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة ، فلم يجد عندهم شيئاً ، فلما رجع قالا : لو بعثناك إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، ثم انطلقا يتجسسان ، هل عند أسامة ما أمر لهما به محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فلما جاءا إلى محمد صلى الله عليه وسلم قال لهما : مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ، قالا : والله يا محمد ما تناولنا يومنا هذا لحماً ، قال : بل ظللتم تأكلون لحم سلمان وأسامة ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن } وأراد : أن يظن بأهل الخير شرا { إن بعض الظن إثم } قال سفيان الثوري : الظن ظنان : أحدهما إثم ، وهو أن تظن وتتكلم به ، والآخر ليس بإثم وهو أن تظن ولا تتكلم . { ولا تجسسوا } التجسس : هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من عيوب الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تناجشوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً " . أنبأنا أبو بكر محمد بن محمد بن علي بن الحسن الطوسي بها ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الإسفرايني ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، أنبأنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا يحيي بن أكثم ، أنبأنا الفضل بن موسى الشيباني ، عن الحسين بن واقد ، عن أبي أوفى بن دلهم ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورات المسلمين ، يتتبع الله عورته ، ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . قال ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والمؤمن أعظم عند الله حرمة منك . وقال زيد بن وهب : قيل لابن مسعود : هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمراً ، فقال : إنا قد نهينا عن التجسس ، فإن يظهر لنا شيء نأخذه به { ولا يغتب بعضكم بعضاً } يقول : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوء مما هو فيه .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري ، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول : فقد بهته " .
أنبأنا أبو الطاهر الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده " أنهم ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فقالوا : لا يأكل حتى يطعم ، ولا يرحل حتى يرحل ، فقال النبي : قد اغتبتموه . فقالوا : إنما حدثنا بما فيه ، قال : حسبك إذا ذكرت أخاك بما فيه " . قوله عز وجل : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه } قال مجاهد : لما قيل لهم : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً قالوا : لا ، قيل : فكرهتموه أي فكما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الزجاج : تأويله : إن ذكرك من لم يحضرك بسوء بمنزلة أكل لحم أخيك ، وهو ميت لا يحس بذلك .
أجبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا الفريابي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج ، حدثني صفوان بن عمرو ، حدثنا راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير ، عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ولحومهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " . قال ميمون بن سيار : بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل ، قلت : يا عبد الله ولم آكل ؟ قال : بما اغتبت عبد فلان ، فقلت : والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : ولكنك استمعت ورضيت به ، فكان ميمون لا يغتاب أحداً ولا يدع أحداً يغتاب عنده أحدا . { واتقوا الله إن الله تواب رحيم* }
{ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم } وهو أن يظن السوء
13 15 بأهل الخير وبمن لا يعلم منه فسق { ولا تجسسوا } لا تطلبوا عورات المسلمين ولا تبحثوا عن معايبهم { ولا يغتب بعضكم بعضا } لا تذكروا أحدكم بشيء يكرهه وإن كان فيه ذلك الشيء { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } يعني إن ذكرك أخاك على غيبة بسوء كأكل لحمه وهو ميت لايحس بذلك { فكرهتموه } إن كرهتم أكل لحمه ميتا فاكرهوا ذكره بسوء
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن " قيل : إنها نزلت في رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اغتابا رفيقهما . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ضم الرجل المحتاج إلى الرجلين الموسرين فيخدمهما . فضم سلمان إلى رجلين ، فتقدم سلمان إلى المنزل فغلبته عيناه فنام ولم يهيئ لهما شيئا ، فجاءا فلم يجدا طعاما وإداما ، فقالا له : انطلق فاطلب لنا من النبي صلى الله عليه وسلم طعاما وإداما ، فذهب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( اذهب إلى أسامة بن زيد فقل له إن كان عندك فضل من طعام فليعطك ) وكان أسامة خازن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه ، فقال أسامة : ما عندي شيء ، فرجع إليهما فأخبرهما ، فقالا : قد كان عنده ولكنه بخل . ثم بعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة فلم يجد عندهم شيئا ، فقالا : لو بعثنا سلمان إلى بئر سُمَيحة{[14107]} لغار ماؤها . ثم انطلقا يتجسسان هل عند أسامة شيء ، فرآهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) فقالا : يا نبي الله ، والله ما أكلنا في يومنا هذا لحما ولا غيره . فقال : ( ولكنكما ظلتما تأكلان لحم سلمان وأسامة ) فنزلت : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " ذكره الثعلبي . أي لا تظنوا بأهل الخير سوءا إن كنتم تعلمون من ظاهر أمرهم الخير .
الثانية- ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) لفظ البخاري . قال علماؤنا : فالظن هنا وفي الآية هو التهمة . ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها ، كمن يتهم بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك . ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى : " ولا تجسسوا " وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه ، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك . وإن شئت قلت : والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها ، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب . وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج ، وأونست منه الأمانة في الظاهر ، فظن الفساد به والخيانة محرم ، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث . وعن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ) . وعن الحسن : كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام ، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت .
الثالثة- للظن حالتان : حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها ، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن ، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات . والحالة الثانية : أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده ، فهذا هو الشك ، فلا يجوز الحكم به ، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا . وقد أنكرت جماعة من المبتدعة تعبد الله بالظن وجواز العمل به ، تحكما في الدين ودعوى في المعقول . وليس في ذلك أصل يعول عليه ، فإن البارئ تعالى لم يذم جميعه ، وإنما أورد الذم في بعضه . وربما تعلقوا بحديث أبي هريرة ( إياكم والظن ) فإن هذا لا حجة فيه ، لأن الظن في الشريعة قسمان : محمود ومذموم ، فالمحمود منه ما سلم معه دين الظان والمظنون به عند بلوغه . والمذموم ضده ، بدلالة قوله تعالى : " إن بعض الظن إثم " ، وقوله : " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " {[14108]} [ النور : 12 ] ، وقوله : " وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا " {[14109]} [ الفتح : 12 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان أحدكم مادحا أخاه فليقل أحسب كذا ولا أزكي على الله أحدا ) . وقال : ( إذا ظننت فلا تحقق وإذا حسدت فلا تبغ وإذا تطيرت فامض ) خرجه أبو داود . وأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح ، قاله المهدوي .
الرابعة- قوله تعالى : " ولا تجسسوا " قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما " ولا تحسسوا " بالحاء . واختلف هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ، فقال الأخفش : ليس تبعد إحداهما من الأخرى ، لأن التجسس البحث عما يكتم عنك . والتحسس ( بالحاء ) طلب الأخبار والبحث عنها . وقيل : إن التجسس ( بالجيم ) هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور . وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه . وقول ثان في الفرق : أنه بالحاء تطلبه لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولا لغيره ، قال ثعلب . والأول أعرف . جسست الأخبار وتجسستها أي تفحصت عنها ، ومنه الجاسوس . ومعنى الآية : خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين ، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله . وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم ) فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها . وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم ) . وعن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به . وعن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) . وقال عبد الرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف ، وهم الآن شرب فما ترى ! ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه ، قال الله تعالى : " ولا تجسسوا " وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم . وقال أبو قلابة : حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس ، فخرج عمر وتركه . وقال زيد بن أسلم : خرج عمر وعبد الرحمن يعسان ، إذ تبينت لهما نار فاستأذنا ففتح الباب ، فإذا رجل وامرأة تغني وعلى يد الرجل قدح ، فقال عمر : وأنت بهذا يا فلان ؟ فقال : وأنت بهذا يا أمير المؤمنين ! قال عمر : فمن هذه منك ؟ قال امرأتي ، قال فما في هذا القدح ؟ قال ماء زلال ، فقال للمرأة : وما الذي تغنين ؟ فقالت :
تطاولَ هذا الليل واسْوَدَّ جانبُهْ *** وأرَّقَنِي أن لا خليلَ ألاَعِبُهْ
فوالله لولا الله أني أراقبه *** لزُعْزِعَ من هذا السرير جوانبُهْ
ولكن عقلي والحَيَاء يكُفُّنِي *** وَأُ كْرِمُ بعلِي أن تُنَالَ مراكبُهْ
ثم قال الرجل : ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين قال الله تعالى : " ولا تجسسوا " . قال صدقت .
قلت : لا يفهم من هذا الخبر أن المرأة كانت غير زوجة الرجل ، لأن عمر لا يقر على الزنى ، وإنما غنت بتلك الأبيات تذكارا لزوجها ، وأنها قالتها في مغيبه عنها{[14110]} . والله أعلم . وقال عمرو بن دينار : كان رجل من أهل المدينة له أخت فاشتكت ، فكان يعودها فماتت فدفنها . فكان هو الذي نزل في قبرها ، فسقط من كمه كيس فيه دنانير ، فاستعان ببعض أهله فنبشوا قبرها فأخذ الكيس ثم قال : لأكشفن حتى أنظر ما آل حال أختي إليه ، فكشف عنها فإذا القبر مشتعل نارا ، فجاء إلى أمه فقال : أخبريني ما كان عمل أختي ؟ فقالت : قد ماتت أختك فما سؤالك عن عملها فلم يزل بها حتى قالت له : كان من عملها أنها كانت تؤخر الصلاة عن مواقيتها ، وكانت إذا نام الجيران قامت إلى بيوتهم فألقمت أذنها أبوابهم ، فتجسس عليهم وتخرج أسرارهم ، فقال : بهذا هلكت
الخامسة- قوله تعالى : " ولا يغتب بعضكم بعضا " نهى عز وجل عن الغيبة ، وهي أن تذكر الرجل بما فيه ، فإن ذكرته بما ليس فيه فهو البهتان . ثبت معناه في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما الغيبة ) ؟ قالوا : الله ورسول أعلم . قال : ( ذكرك أخاك بما يكره ) قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته ) . يقال : اغتابه اغتيابا إذا وقع فيه ، والاسم الغيبة ، وهي ذكر العيب بظهر الغيب{[14111]} . قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان . فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه . وعن شعبة قال : قال لي معاوية - يعني ابن قرة - : لو مر بك رجل أقطع ، فقلت هذا أقطع كان غيبة . قال شعبة : فذكرته لأبي إسحاق فقال صدق . وروى أبو هريرة أن الأسلمي ما عزا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ، فسكت عنهما . ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال : ( أين فلان وفلان ) ؟ فقالا : نحن ذا يا رسول الله ، قال : ( انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار ) فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ! قال : ( فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ) .
السادسة- قوله تعالى : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " مثل الله الغيبة بأكل الميتة ، لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه كما أن الحي لا يعلم بغيبة من اغتابه . وقال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر ، وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس . وقال قتادة : كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا . واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب بذلك جارية . قال الشاعر :
فإن أكلوا لحمي وفَرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا{[14112]}
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما صام من ظل يأكل لحوم الناس ) . فشبه الوقيعة في الناس بأكل لحومهم . فمن تنقص مسلما أو ثلم عرضه فهو كالآكل لحمه حيا ، ومن اغتابه فهو كالآكل لحمه ميتا . وفي كتاب أبي داود عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) . وعن المستورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها من جهنم ومن كسي ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم ومن أقام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة ) . وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ) . وقوله للرجلين : ( ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما ) . وقال أبو قلابة الرقاشي : سمعت أبا عاصم يقول : ما اغتبت أحدا مذ عرفت ما في الغيبة . وكان ميمون بن سياه لا يغتاب أحدا ، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده ، ينهاه فإن انتهى وإلا قام . وذكر الثعلبي من حديث أبي هريرة قال : قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا في قيامه عجزا فقالوا : يا رسول الله ما أعجز فلانا فقال : ( أكلتم لحم أخيكم واغتبتموه ) . وعن سفيان الثوري قال : أدني الغيبة أن تقول إن فلانا جعد قطط{[14113]} ، إلا أنه يكره ذلك . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وذكر الناس فإنه داء ، وعليكم بذكر الله فإنه شفاء . وسمع علي بن الحسين رضي الله عنهما رجلا يغتاب آخر ، فقال : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس . وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال : إياه فارحموا . وقال رجل للحسن : بلغني أنك تغتابني فقال : لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي .
السابعة- ذهب قوم إلى أن الغيبة لا تكون إلا في الدين ولا تكون في الخلقة والحسب . وقالوا : ذلك فعل الله به . وذهب آخرون إلى عكس هذا فقالوا : لا تكون الغيبة إلا في الخَلْق والخُلُق والحسب . والغيبة في الخلق أشد ، لأن من عيب صنعة فإنما عيب صانعها . وهذا كله مردود . أما الأول فيرده حديث عائشة حين قالت في صفية : إنها امرأة قصيرة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ( لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته ) . خرجه أبو داود . وقال فيه الترمذي : حديث حسن صحيح ، وما كان في معناه حسب ما تقدم . وإجماع العلماء قديما على أن ذلك غيبة إذا أريد به العيب . وأما الثاني فمردود أيضا عند جميع العلماء ، لأن العلماء من أول الدهر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين بعدهم لم تكن الغيبة عندهم في شيء أعظم من الغيبة في الدين ، لأن عيب الدين أعظم العيب ، فكل مؤمن يكره أن يذكر في دينه أشد مما يكره في بدنه . وكفى ردا لمن قال هذا القول قول عليه السلام : ( إذا قلت في أخيك ما يكره فقد اغتبته . . . ) الحديث . فمن زعم أن ذلك ليس بغيبة فقد رد ما قال النبي صلى الله عليه وسلم نصا . وكفى بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ) وذلك عام للدين والدنيا . وقول النبي : ( من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرضه أو ماله فليتحلله منه ) . فعم كل عرض ، فمن خص من ذلك شيئا دون شيء فقد عارض ما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
الثامنة- لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى الله عز وجل . وهل يستحل المغتاب ؟ اختلف فيه ، فقالت فرقة : ليس عليه استحلاله ، وإنما هي خطيئة بينه وبين ربه . واحتجت بأنه لم يأخذ من ماله ولا أصاب من بدنه ما ينقصه ، فليس ذلك بمظلمة يستحلها منه ، وإنما المظلمة ما يكون منه البدل والعوض في المال والبدن . وقال فرقة : هي مظلمة ، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه . واحتجت بحديث يروي عن الحسن قال : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته . وقالت فرقة : هي مظلمة وعليه الاستحلال منها . واحتجت بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليتحلله منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيد على سيئاته ) . خرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال وسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون له دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) . وقد تقدم هذا المعنى في سورة " آل عمران " عند قوله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " {[14114]} [ آل عمران : 169 ] . وقد روي من حديث عائشة أن امرأة دخلت عليها فلما قامت قالت امرأة : ما أطول ذيلها فقالت لها عائشة : لقد اغتبتيها فاستحليها . فدلت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظلمة يجب على المغتاب استحلالها . وأما قول من قال : إنما الغيبة في المال والبدن ، فقد أجمعت العلماء على أن على القاذف للمقذوف مظلمة يأخذه بالحد حتى يقيمه عليه ، وذلك ليس في البدن ولا في المال ، ففي ذلك دليل على أن الظلم في العرض والبدن والمال ، وقد قال الله تعالى في القاذف : " فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " {[14115]} [ النور : 13 ] . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ من بهت مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في طينة الخبال ]{[14116]} . وذلك كله في غير المال والبدن . وأما من قال : إنها مظلمة ، وكفارة المظلمة أن يستغفر لصاحبها ، فقد ناقض إذ سماها مظلمة ثم قال : كفارتها أن يستغفر لصاحبها ، لأن قول مظلمة تثبت ظلامة المظلوم ، فإذا ثبتت الظلامة لم يزلها عن الظالم إلا إحلال المظلوم له . وأما قول الحسن فليس بحجة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من كانت له عند أخيه مظلمة في عرض أو مال فليتحللها منه ] . وقد ذهب بعضهم إلى ترك التحليل لمن سأله ، ورأى أنه لا يحل ما حرم الله عليه ، منهم سعيد بن المسيب قال : لا أحلل من ظلمني . وقيل لابن سيرين : يا أبا بكر ، هذا رجل سألك أن تحلله من مظلمة هي لك عنده ، فقال : إني لم أحرمها عليه فأحلها ، إن الله حرم الغيبة عليه ، وما كنت لأحل ما حرم الله عليه أبدا . وخبر النبي صلى الله عليه وسلم يدل على التحليل ، وهو الحجة والمبين . والتحليل يدل على الرحمة وهو من وجه العفو ، وقد قال تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " {[14117]} [ الشورى : 40 ] .
التاسعة- ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر ، فإن في الخبر [ من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ] . وقال صلى الله عليه وسلم : [ اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس ] . فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه . وروي عن الحسن أنه قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب الهوى ، والفاسق المعان ، والإمام الجائر . وقال الحسن لما مات الحجاج : اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته - وفي رواية شينه - فإنه أتانا أخيفش أعيمش ، يمد بيد قصيرة البنان ، والله ما عرق فيها غبار في سبيل الله ، يرجل جُمَّتَه ويخطُر في مشيته ، ويصعد المنبر فيهدر حتى تفوته الصلاة . لا من الله يتقي ، ولا من الناس يستحي ، فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون ، لا يقول له قائل : الصلاة أيها الرجل . ثم يقول الحسن : هيهات ! حال دون ذلك السيف والسوط . وروى الربيع بن صبيح عن الحسن قال : ليس لأهل البدع غيبة . وكذلك قولك للقاضي تستعين به على أخذ حقك ممن ظلمك فتقول فلان ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي ، ليس بغيبة . وعلماء الأمة على ذلك مجمعة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : [ لصاحب الحق مقال ] . وقال : [ مطل الغني ظلم ] وقال ] [ لي الواجد{[14118]} يحل عرضه وعقوبته ] . ومن ذلك الاستفتاء ، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي ، فآخذ من غير علمه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ نعم فخذي ] . فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها ، ولم يرها مغتابة ، لأنه لم يغير عليها ، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها . وكذلك إذا كان في ذكره بالسوء فائدة ، كقوله صلى الله عليه وسلم : [ أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم{[14119]} فلا يضع عصاه عن عاتقه ] . فهذا جائز ، وكان مقصوده ألا تغتر فاطمة بنت قيس{[14120]} بهما . قال جميعه المحاسبي رحمه الله .
العاشرة- قوله تعالى : " ميتا " وقرئ " ميتا " وهو نصب على الحال من اللحم . ويجوز أن ينصب على الأخ ، ولما قررهم عز وجل بأن أحدا منهم لا يجب أكل جيفة أخيه عقب ذلك بقوله تعالى : " فكرهتموه " وفيه وجهان : أحدهما : فكرهتم أكل الميتة فكذلك فاكرهوا الغيبة ، روي معناه عن مجاهد . الثاني : فكرهتم أن يغتابكم الناس فاكرهوا غيبة الناس . وقال الفراء : أي فقد كرهتموه فلا تفعلوه . وقيل : لفظه خبر ومعناه أمر ، أي اكرهوه . " واتقوا الله " عطف عليه . وقيل : عطف على قوله : " اجتنبوا . ولا تجسسوا " . " إن الله تواب رحيم " .
ولما كان الإنسان ربما دعا صاحبه بلقب له شيء غير قاصد به عيبه ، أو فعل فعلاً يتنزل على الهزء غير قاصد به الهزء ، نهى تعالى عن المبادرة إلى الظن من غير تثبت لأن ذلك من وضع الأشياء في غير مواضعها ، الذي هو معنى الظلم{[60860]} فقال خاتماً بالقسم الخامس منبهاً على ما فيه من المعالي والنفائس : { يا أيها الذين آمنوا } أي اعترفوا بالإيمان وإن كانوا في أول مراتبه { اجتنبوا } أي كلفوا أنفسكم أن تتركوا وتبعدوا وتجعلوا في جانب بعيد عنكم { كثيراً من الظن } أي في الناس وغيرهم فاحتاطوا في كل ظن ولا تمادوا معه حتى تجزموا{[60861]} به فتقدموا بسببه على ما يقتضيه من الشر إلا بعد التبين لحقه من باطله بأن يظهر عليه أمارة صحيحة وسبب ظاهر ، والبحث عن ذلك الذي أوجب الظن ليس بمنهيّ عنه كما فتش النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك وتثبت حتى جاءه{[60862]} الخبر اليقين من الله ، وأفهم هذا أن كثيراً منه مجتنب{[60863]} كما في الاجتهاد حيث لا قاطع ، وكما في ظن الخير بالله تعالى ، بل قد-{[60864]} يجب كما قال-{[60865]} تعالى :
{ ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً }[ النور : 12 ] وقد أفاد التنكير شياع النهي في كل ظن ، فكان بمعنى " بعض " مع الكفالة بأن كثيراً منه{[60866]} منهيّ عن الإقدام عليه إلا بعد تبين أمره ، ولو عرف لأفهم أنه لا يجتنب إلا إذا اتصف بالكثرة ، قال القشيري : والنفس لا تصدق ، والقلب لا يكذب ، والتمييز بين النفس والقلب مشكل ، ومن بقيت عليه من حظوظه بقية وإن قلت فليس له أن يدعى بيان القلب ، بل هو بنفسه ما-{[60867]} دام عليه شيء من بقيته ، ويجب عليه أن يتهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره ، ثم علل ذلك مشيراً إلى أن العاقل من يكف نفسه عن أدنى احتمال من الضرر احتمالاً مؤكداً لأن أفعال الناس عند الظنون أفعال من هو جازم بأنه{[60868]} بريء من الإثم : { إن بعض الظن إثم } أي ذنب يوصل صاحبه لاستحقاق العقوبة كالظن في أصول الدين ، وحيث يخالفه قاطع ، قال الزمخشري{[60869]} رحمه الله تعالى : الهمزة في الإثم عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه .
ولما نهى عن اتباع الظن ، أتبعه ما يتفرع عنه فقال : { ولا تجسسوا } أي تمعنوا في البحث عن العورات ولا يكون ذلك إلا في المستورين .
ولما كانت الغيبة أعم من التجسس ، قال : { ولا يغتب } أي يتعمد أن يذكر { بعضكم بعضاً } في غيبته بما يكره ، قال القشيري : وليس تحصل الغيبة من الخلق إلا بالغيبة{[60870]} عن الحق ، وقال أبو حيان{[60871]} : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الغيبة إدام كلاب{[60872]} الناس .
ولما كان تمزيق عرض الناس كتمزيق أديمهم ولا يكون{[60873]} ذلك ساتر عظمة{[60874]} الذي به قوامه{[60875]} كما أن عرضه{[60876]} ساتر عليه ، و{[60877]}كونه لا يرد عن نفسه بسبب غيبته كموته{[60878]} وأعمال الفم والجوف في ذلك كله ، وكان هذا لو تأمله{[60879]} العاقل كان منه على غاية النفرة ، ولكنه لخفائه لا يخطر بباله ، جلاه له في قوله تقريراً وتعبيراً بالحب عما{[60880]} هو في غاية الكراهة لما للمغتاب من الشهوة في الغيبة-{[60881]} ليكون التصوير بذلك رادّاً له عنها ومكرهاً فيها : { أيحب } وعم بقوله : { أحدكم } وعبر بأن والفعل تصويراً للفعل فقال : { أن يأكل } وزاد في التنفير بجعله في إنسان هو أخ فقال : { لحم أخيه } وأنهى الأمر بقوله : { ميتاً } .
ولما كان الجواب قطعاً : لا يحب أحد ذلك ، أشار إليه بما سبب من قوله : { فكرهتموه } أي بسب ما ذكر طبعاً فأولى أن تكرهوا الغيبة المحرمة عقلاً ، لأن داعي العقل بصير عالم ، وداعي الطبع أعمى جاهل ، وقد رتب سبحانه هذه{[60882]} الحكم أبدع ترتيب ، فأمر سبحانه بالتثبت . وكان ربما أحدث ضغينة ، نهى عن العمل بموجبه من السخرية واللمز والنبز والتمادي مع ما ينشره ذلك من الظنون ، فإن أبت النفس{[60883]} إلا تمادياً مع الظن{[60884]} فلا يصل إلى التجسس والبحث عن المعايب ، فإن حصل الاطلاع عليها كف عن ذكرها ، وسعى في سترها ، وفعل ذلك كله لخوف الله ، لا شيء غيره ، فإن وقع في شيء من ذلك بادر المتاب رجاء الثواب .
ولما كان التقدير : فاتركوه بسبب كراهتهم لما صورته ، عطف عليه ما دل على العلة العظمى وهي{[60885]} خوف الله تعالى فقال : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين الملك الأعظم وقاية بترك ذلك وإصلاح ذات البين . ولما كان التقدير : فإن الله يتوب عليكم إن تركتموه ، علله بما دل على أن ذلك صفة له متكررة التعلق فقال : { إن الله } أي الملك الأعظم { تواب } أي مكرر للتوبة ، وهي الرجوع عن المعصية إلى ما-{[60886]} كان قبلها من معاملة التائب وإن كرر الذنب ، فلا ييأس أحد وإن كثرت ذنوبه وعظمت{[60887]} { رحيم * } يزيده على ذلك أن{[60888]} يكرمه غاية الإكرام .
قوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } .
هذه جملة من المنكرات البغيضة ، قد نهى الله عنها بشدة وحذر من فعلها أو التلبس بها أبلغ تحذير . وذلك في كلمات بينات قوارع . كلمات باهرات عجاب تقرع بجرسها الحس ، وتثير بروعة ألفاظها الذهن والوجدان .
وأول المنكرات هذه كثرة الظن بغير حق ، وهي التهمة من دون سبب ظاهر يوجبها كالذي يتهم بشرب الخمر أو الزنا أو غير ذلك من وجوه الفواحش وليس ثمة أدلة ظاهرة تقتضي ذلك . ومثل هذا الظن حرام ومنهي عنه في دين الله . فما ينبغي لمسلم يقظ نبيه أن يسارع في اتهام المسلمين ، وقذفهم بالسوء من المنكرات والفواحش . وإنما المسلم بطبعه وحقيقته لهو خاشع حريص ، آخذ بالاحتياط والحذر ، مجتنب لسوء الظن بإخوانه المسلمين ، بل إنه يبادر بتلمس المعاذير لإخوانه عما يقال في حقهم أو ينسب إليهم من سوء الأقاويل والشبهات . وفي ذلك روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا . وروى ابن ماجه عن عبد الله ابن عمر ( رضي الله عنهما ) قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : " ما أطيبك وأطيب ريحك . ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمه المؤمن أعظم عند الله تعالى منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا " .
وفي التنديد بالظن والتحذير من التلبس به روى أبو هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا " .
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة ، والحسد ، وسوء الظن " فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض " وروى الإمام أحمد عن عقبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موءودة من قبرها " .
قوله : { إن بعض الظن إثم } فهو لم ينه عن الظن كله ، فقد أذن الله للمؤمنين أن يظن بعضهم ببعض خيرا . بل نهى الله عن بعض الظن وهو ما كان في الشر . فيكون المعنى : إنّ ظن المؤمن بالمؤمن الشر لا الخير ، إثم منهي عنه .
قوله : { ولا تجسسوا } من التجسس . وهو تتبع الأخبار لمعرفتها . أو الفحص عن بواطن الأمور . والجاسوس الذي يتجسس الأخبار ليأتي بها{[4298]} والمعنى المقصود : خذوا ما تبدى لكم من ظواهر الأمور ولا تتبعوا عورات المسلمين لمعرفتها أو كشفها . أو لا يبحث المسلم عن أخيه المسلم ليطلع عليه بعد أن ستره الله . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " .
هذه هي محجة{[4299]} الإسلام الناصعة البيضاء ، وطبيعته المميزة الفضلى ، القائمة على العقيدة الثابتة والخلق الكريم مهما تكن الأحوال والأعراف والظروف . تلك هي طبيعة الإسلام التي لا تتغير ولا بتبدل الأحوال والأزمان والمصالح ، بل إن الأحوال والأعراف والملابسات والتصورات جميعا هي التي تدور مع الإسلام حيث دار .
ومثلبة التجسس واحدة من مثالب شتى خسيسة ، قد ندد بها أبلغ تنديد ، وهي أن يتتبع المرء عورات الناس من المسلمين وغير المسلمين من أجل الوقوف على أخبارهم وأستارهم ، وللاطلاع على أسرارهم التي ما ينبغي أن يطلع عليها الآخرون .
إن هذه لهي حقيقة الإسلام العظيم الذي ينفذ إلى دخائل النفس البشرية فيطهرها بالعقيدة تطهيرا ويهذبها بأحكامه وآدابه أكمل تهذيب ، لتكون نقية سليمة من الغش والكذب والخداع والنفاق وأدران القلوب . ويخالف ذلك تماما هذه الحضارات المادية المعاصرة الكنود التي تستند في بقائها وثباتها ومكثها وقوتها –إلى حد عظيم- على التجسس والخيانة والاحتيال وتتبع عورات البشر وكشف عيوبهم وأخبارهم ، والغوص إلى صميم أستارهم وأسرارهم التي فرض الله أن تستر . ومن أفظع ما اصطلحت عليه أعراف الدول المادية في العصر الراهن هذا المصطلح الرهيب المقبوح المسمى ( المخابرات ) لا جرم أنه مصطلح مشؤوم ومنكود تنزف منه أخلاط شتى من معاني الشر والشؤم والإرهاب والخيانة والعار والفضائح وكشف العورات والأستار للبشر . إن ذلكم لهو عنوان الحضارات المادية الظالمة في هذا الزمان . حضارات جاحدة جائرة لا تستند إلى حق أو منطق أو ضمير أو عقيدة صحيحة سليمة إنما تستند إلى القوة والإرهاب والبطش والتنكيل والإباحية والشهوات . وذلك كله بخلاف الإسلام الذي يرسخ الواقع البشري على قواعد من الحق والعدل والصدق والبر والرحمة والوضوح في غير ما خداع ولا جور ولا نفاق ولا كذب ولا تجسس .
قوله : { ولا يغتب بعضكم بعضا } وهذه ذميمة أخرى نكراء بالغة الفحش والسوء ، قد نهى الله عنها أشد النهي وتوعد المتلبسين بها بالنكال وسوء المصير . وهي أن يذكر المرء بما فيه مما يحزنه أو يغضبه ، فإن ذكر بما ليس فيه فذلك البهتان وهو أشد وأنكى . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتدرون ما الغيبة ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " ذكرك أخاك بما يكره " قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه " فتكلم هي الغيبة ، وأشد منها الإفك والبهتان . فأما الغيبة ، فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه . وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه . وأما البهتان فهو أن تقول فيه ما ليس فيه .
والغيبة : وهي من أشد الكبائر وأفحشها قد شدد الإسلام عليها النكير وندد بالمغتابين الآثمين أعظم تنديد ، فقد روي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا ، تعني قصيرة . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } لقد شبه الله الغيبة بأكل الميتة . قال ابن عباس : إنما ضرب الله هذا المثل للغيبة ، لأن أكل لحم الميت حرام مستقذر وكذا الغيبة حرام في الدين وقبيح في النفوس . والمعنى : كما تكرهون الأكل من لحم إخوانكم ميتين فاكرهوا غيبتهم أحياء . والمراد بهذا المثل ، التنفير من الغيبة والتحذير من الخوض في أعراض الناس فإن ذلك فظيع الإثم ، شديد النكر ، فقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه : " كل المسلم على المسلم حرام ، ماله وعرضه ودمه " . وروى ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " . وروى أبو هريرة أن ماعزا الأسلمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه بالزنا فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما للآخر : انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما . ثم سار ساعة حتى مرّ بجيفة حمار شائل برجله فقال : " أين فلان وفلان ؟ " فقالا : نحن ذا يا رسول الله . قال : " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " فقالا : يا نبي الله ومن يأكل من هذا ؟ ! . قال : " فما نلتما من عرض أخيكما أشد من الأكل منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " على أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه غير منهي عنها . وإنما الغيبة في المرء الذي يصون نفسه عن الفواحش ويستر نفسه عن الموبقات والشبهات . وروي عن الحسن البصري أنه قال : ثلاثة ليست لهم حرمة : صاحب الهوى ، والفاسق المعلن ، والإمام الجائر . وعنه أنه قال : ليس لأهل البدع غيبة . وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مطل الغني ظلم " . وقال : " ليّ الواجد يحل عرضه وعقوبته " .
وكذلك الاستفتاء فإنه ليس بغيبة ، كقول هند للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي فآخذ من غير علمه ؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم فخذي " .
قوله : { واتقوا الله إن الله تواب رحيم } أي خافوا الله وامتثلوا ما أمركم به واجتنبوا مانهاكم عنه . وهو سبحانه يتوب على من تاب فيغفر الذنوب والخطايا لمن أناب إلى ربه مستغفرا . وهو رحيم بالمؤمنين التائبين فلا يعاقبهم بعد أن تابوا وأنابوا{[4300]} .