أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

{ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } والذين كفروا خالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب ، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري ، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية ، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرئ " بقيعات " كديمات في ديمة . { يحسبه الظمآن ماء } أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به ي شدة الخيبة عند ميس الحاجة . { حتى إذا جاءه } جاء ما توهمه ماء أو موضعه . { لم يجده شيئا } مما ظنه . { ووجد الله عنده } عقابه أو زبانيته أو وجده محاسبا إياه . { فوفاه حسابه } استعراضا أو مجازاة . { والله سريع الحساب } لا يشغله حساب ن حساب . روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

ولما ذكر الله تعالى فيما تقدم من هذه الآية حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة وأعمالهم فمثل لها ولهم تمثيلين : الأول منهما يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير نافعة ولا مجدية ، والثاني يقتضي حالها في الدنيا من أنها في الغاية من الضلال والغمة التي مآلها ما ذكر من تناهي الظلمة في قوله { أو كظلمات } ، و «السراب » ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنسبطة وأوهم الناظر إليه على البعد أنه ماء ، سمي بذلك لأنه ينسرب كالماء فكذلك أعمال الكافر يظن في دنياه أنه نافعته فإذا كان يوم القيامة لم يجدها شيئاً فهي كالسراب الذي يظنه الرائي العطشان ماء فإذا قصده وأتعب نفسه بالوصول إليه لم يجد شيئاً ، و «القيعة » جمع قاع كجيرة وجار والقاع المنخفض البساط من الأرض ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في مانع زكاة الأنعام «فيبطح لها بقاع قرقر »{[1]} ، وقيل القيعة مفرد ، وهو بمعنى القاع ، وقرأ مسلم بن محارب «بقيعات »{[2]} ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف «الظمان » بفتح الميم وطرح حركة الهمزة على الميم وترك الهمزة ، وقوله { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } يريد { شيئاً } نافعاً في العطش ، أو يريد { شيئاً } موجوداً على العموم ويريد ب { جاءه } جاء موضعه الذي تخيله فيه ويحتمل أن يعود الضمير في { جاءه } على «السراب » ، ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل عليه الظاهر تقديره فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } .

ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أعمالهم } ويكون تمام المثل في قوله { ماء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به ، وقوله { ووجد الله عنده } أي بالمجازاة ، والضمير في { عنده } عائد على العمل ، وباقي الآية بين فيه توعد وسرعة الحساب من حيث هو يعلم لا تكلف فيه .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

لمّا جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى : { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } إلى قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ النور : 36 38 ] أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئاً على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة ، وعكس ذلك كقوله : { ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات } [ آل عمران : 197 ، 198 ] الخ فعطْف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة . ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون : ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين ونسقي الحاج ونقري الضيف . كما أشار إليه قوله تعالى : { أجعلتم سقاية الحج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 19 ] يعدون أعمالاً من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالاً لحسبانهم ، قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } [ الفرقان : 23 ] وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن .

والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . { والذين كفروا } مبتدأ وخبره جملة : { أعمالهم كسراب } الخ . وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بُني عليه مسند إليه آخر وهو { أعمالهم } . ولم يُجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شؤونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظاً في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة .

وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر . وهو أنه من جزاء كفرهم بالله . على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا . فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي : شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز : شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريماً يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة .

واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة . أي داخلة تحت إدراك الحواس .

والسراب : رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء .

وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرُّ الطبقة الهوائية التي فوقها حَرّاً أقل من حرارة الطبقة الملاصقة . وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها . وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض . وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا . . فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها . فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء . ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار .

ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر . وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سَراب . وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر ، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له : أم العرائس من جهات توزر ، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر .

وقوله : { بقيعة } الباء بمعنى في . و ( قيعة ) أرض ، والجار والمجرور وصف { لسراب } وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة . وهذا كقولهم في المثل للذليل « هو فَقع في قرقر » فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر . والقيعة : الأرض المنبسطة ليس فيها رُبّى ويُرادفها القاعة . وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار ، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد .

وقوله : { يحسبه الظمآن ماء } يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل .

و { حتى } ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع . ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله ، كأن يحدده بشجرة أو صخرة . فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب . فهذا معنى قوله : { حتى إذا جاءه } ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء . وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بُعد كلما تقدم السائر في سيره . فضرب ذلك مثلاً لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر .

وقوله : { لم يجده شيئاً } أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئاً .

والشيء : هو الموجود وجوداً معلوماً للناس ، والسراب موجود ومرئي ، فقوله : { شيئاً } أي شيئاً من ماء بقرينة المقام .

وهذا التمثيل كقوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } [ الفرقان : 23 ] .

و ( إذا ) هنا ظرف مجرد عن الشرطية . والمعنى : زمن مجيئه إلى السراب ، أي وصوله إلى الموضع .

وقوله : { ووجد الله عنده } هو من تمام التمثيل ، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد مَنْ إن أخذ بناصيته لم يفلته ، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب ، وهو معنى قوله : { فوفاه حسابه } أي أعطاه جزاء كفره وافياً . فمعنى { فوفاه } أنه لا تخفيف فيه ، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده تِرة فأخذه .

وجملة : { والله سريع الحساب } تذييل . والسريع : ضد البطيء . والمعنى : أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه ، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلاً .

واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات . فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء ، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله . ففي قوله : { يحسبه الظمآن } استعارة مصرحة ، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحه ، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتْل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره . فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكتِه بالعدوّ ، ورمز إلى العدو بقوله : { فوفاه حسابه } . وتعدية فعل { وجد } إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي .