البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

قال الكرماني : السراب بخار يرتفع من قعور القيعان فيكيف فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه الماء من بعيد ، فإذا دنا منه الإنسان لم يره كما كان يراه بعيداً .

وقال الفراء : السراب : ما لصق بالأرض .

وقيل : هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر ، يخيل للناظر أنه الماء السارب أي الجاري .

وقال الشاعر :

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم *** كلمع سراب في الفلا متألق

وقال :

أمر الطول لماع السراب***

وقيل : السراب ما يرقون من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة .

لما ذكر تعالى حالة الإيمان والمؤمنين وتنويره قلوبهم ووصفهم بما وصفهم من الأعمال النافعة في الآخرة أعقب ذلك بذكر مقابلهم الكفرة وأعمالهم ، فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما يقتضي بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها .

والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أولاً أعمالهم في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه .

{ حتى إذا جاءه } أي جاء موضعه الذي تخيله .

فيه { لم يجده شيئاً } أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئاً .

كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالاً عليه .

وقرأ مسلمة بن محارب : بقيعات بتاء ممطوطة جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة ، وعنه أيضاً بتاء شكل الهاء ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ، ووقف بالهاء على لغة طيء كما قالوا البناه والأخواه في الوقف على البنات والأخوات .

قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يريد قيعة كالعامة أي كالقراءة العامة ، لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف مثل مخر نبق لينباع .

وقال الزمخشري : وقد جعل بعضهم بقيعات بتاء ممدودة كرجل عزهاة .

وقال صاحب اللوامح : ويجوز أنه جعله مثل سعلة وسعلاة وليلة وليلاة ، والقيعة مفرد مرادف للقاع أو جمع قاع كنار ونيرة ، فتكون على هذا قراءة قيعات جمع صحة تناول جمع تكسير مثل رجالات قريش وجمالات صفر .

وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما { الظمآن } بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم ، والظاهر أن قوله { يحسبه الظمآن } هو من صفات السراب ولا يعني إلاّ مطلق { الظمآن } لا الكافر { الظمآن } وقال الزمخشري : شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها أن تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه يوم القيامة ، ثم يخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدر بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء ، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد ربانية الله عنده ، يأخذونه ويعتلونه ويسقونه الحميم والغساق وهم الذين قال الله فيهم { عاملة ناصبه } { يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام انتهى .

فجعل { الظمآن } هو الكافر حتى تطرد الضمائر في { جاءه } و { لم يجده } { ووجد } و { عنده } و { فوفاه } لشخص واحد ، وغيره غاير بين الضمائر فالضمير في { جاءه } و { لم يجده } للظمآن .

وفي { ووجد } للكافر الذي ضرب له مثلاً بالظمآن ، أي ووجد هذا الكافر وعد الله بالجزاء على عمله بالمرصاد { فوفاه حسابه } عمله الذي جازاه عليه .

وهذا معنى قول أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأفرد الضمير في { ووجد } بعد تقدم الجمع حملاً على كل واحد من الكفار .

وقال ابن عطية : يحتمل أن يعود الضمير في { جاءه } على السراب .

ثم في الكلام متروك كثير يدل عليه الظاهر تقديره وكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعاً { حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } ويحتمل الضمير أن يعود على العمل الذي يدل عليه قوله { أعمالهم } ويكون تمام المثل في قوله { ماء } ويستغني الكلام عن متروك على هذا التأويل ، لكن يكون في المثل إيجاز واقتضاب لوضوح المعنى المراد به .

{ ووجد الله عنده } أي بالمجازاة ، والضمير في { عنده } عائد على العمل انتهى .

والذي يظهر لي أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفته كذا ، وأن الضمائر فيما بعد { الظمآن } له .

والمعنى في { ووجد الله عنده } أي { ووجد } مقدور { الله } عليه من هلاك بالظمأ { عنده } أي عند موضع السراب { فوفاه } ما كتب له من ذلك .

وهو المحسوب له ، والله معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقاً آخذاً بعضه بعنق بعض .

وذلك باتصال الضمائر لشيء واحد ، ويكون هذا التشبيه مطابقاً لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم تنفعهم وحصل لهم الهلاك بأثر ما حوسبوا .

وأما في قول الزمخشري : فإنه وإن جعل الضمائر للظمآن لكنه جعل { الظمآن } هو الكافر وهو تشبيه الشيء بنفسه كما قال .

وشبه الماء بعد الجهد بالماء .

وأما في قول غيره : ففيه تفكيك الكلام إذ غاير بين الضمائر وانقطع ترصيف الكلام بجعل بعضه مفلتاً من بعض .