الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

قوله : { بِقِيعَةٍ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لسراب . والثاني : أنَّه ظرفٌ . والعاملُ فيه الاستقرارُ العاملُ في كاف التشبيه . والسَّرابُ : ما يتراءَى للإِنسانِ في القَفْرِ في شِدةِ الحرِّ مِمَّا يُشْبِه الماءَ . وقيل : ما يتكاثَفُ في قُعُوْر القِيْعان . قال الشاعر :

فلَّما كَفَفَتُ الحربَ كانَتْ عهودُكُمْ *** كَلَمْعِ سَرابٍ في الفَلا مُتَأَلِّقِ

يُضرب به المَثَلُ لِمَنْ يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيَخْلُفُ . / وقيل : هو الشُّعاع الذي يَرْمي به نصفُ النهار في شدَّةِ الحَرِّ ، يُخَيَّل للناظرِ أنه الماءُ السارِبُ أي الجاري . والقِيْعَةُ : بمعنى القاعِ . وهو المُنبَسِطُ من الأرضِ . وقد تقدَّم في طه . وقيل : بل هي جمعُه كجارٍ وجِيْزَة .

وَقرأ مسلمة بن محارب بتاء ممطوطة . وروي عنه بتاءٍ شَكْلِ الهاء ، ويَقف عليها بالهاء . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أَنْ تكونَ بمعنى قِيْعَة كالعامَّةِ ، وإنما أَشْبع الفتحةَ فتولَّد منها ألِفٌ كقولِه : " مُخْرَنْبِقٌ ليَنْباعَ " قاله صاحب " اللوامح " . والثاني : أنه جمع قِيْعَة ، وإنما وَقَف عليها بالهاء ذهاباً به مَذْهَبَ لغةِ طيِّىء في قولهم : " الإِخْوةُ والأخواهْ ، ودَفْنُ البناهُ مِنْ المَكْرُماهُ " أي : والأخوات ، والبنات ، والمَكْرُمات . وهذه القراءةُ تؤيِّدُ أنَّ قِيْعَة جمع قاع . الثالث قال الزمخشري : " وقولُ بعضِهم : بقيعاة بتاء مُدَوَّرَة كرجلٍ عِزْهاة " فظاهرُ هذا أنه جعل هذا بناءً مستقلاً ليس جمعاً ولا اتِّساعاً .

وقوله : { يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ } جملةٌ في محل الجرِّ صفةً لسَراب أيضاً . وحَسُن ذلك لتقدُّمِ الجارِّ على الجملةِ . هذا إنْ جَعَلْنا الجارَّ صفةً . والضمائرُ المرفوعةُ في " جاءَه " وفي " لم يَجِدْه " وفي " وَجَد " ، والضمائرُ في " عنده " وفي " وَفَّاه " وفي " حسابه " كلُّها تَرْجِع إلى الظمآن ؛ لأنَّ المرادَ به الكافرُ المذكورُ أولاً . وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ . وقيل : بل الضميران في " جاءه " و " وجد " عائدان على الظمآن ، والباقيةُ عائدةٌ على الكافر ، وإنما أُفْرِدَ الضميرُ على هذا وإنْ تَقَدَّمه جمعُ وهو قولُه : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } حَمْلاً على المعنى ، إذِ المعنى : كلُّ واحدٍ من الكفار . والأولُ أَوْلى لاتساقِ الضمائرِ .

وقرأ أَبو جعفر ورُوِيَتْ عن نافع " الظَّمان " بإلقاءِ حركةِ الهمزةِ على الميمِ .