فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَعۡمَٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِيعَةٖ يَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُۥ لَمۡ يَجِدۡهُ شَيۡـٔٗا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (39)

ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ، وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثلا للكافرين فقال :

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ } التي هي من أعمال الخير ، كالصدقة ، والعتق والوقف ، والصلاة ، وفك العاني ، وعمارة البيت ، وسقاية الحاج { كَسَرَابٍ } هو ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار ، على صورة الماء في ظن ما يراه ، وسمي سرابا لأنه يسرب ، أي : يجري كالماء ، يقال : سرب الفحل ، أي مضى ، وسار في الأرض ويسمى الآل وقيل الآل هو الذي يكون ضحى ، كالماء إلا أنه يرتفع عن الأرض . حتى يصير كأنه بين السماء والأرض { بِقِيعَةٍ } أي فيها فالباء بمعنى في ، وهو جمع قاع وهو الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء مثل جيرة وجار قاله الهروي .

وقال أبو عبيدة : قيعة وقاع واحد ، حكاه النحاس قال الجوهري : القاع المستوى من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، والقيعة مثل القاع قال : وبعضهم يقول هو جمع والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت وفيه يكون السراب ، وقرئ بقيعاه بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه ، وقيعات بتاء مبسوطة وقيل الألف متولدة من إشباع العين على الأول وجمع قيعة على الثاني .

{ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء } الظمآن العطشان ، وقرئ الظمآن بغير همز ، والمشهور عنهم الهمز ، وتخصيص الظمآن بالحسبان مع كون الريان يراه كذلك . لتحقيق التشبيه ، المبني على الطمع ، ولأنه أحوج إليه من غيره ، فالتشبيه به أتم .

{ حَتَّى إِذَا جَاءهُ } أي : إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء ، أو جاء موضعه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } مما قدره ، وحسبه ، وظنه ، ولا من غيره . والمعنى أن الكفار يعولون على أعمالهم ، التي يظنونها من الخير ، ويطمعون في ثوابها ، فإذا قدموا على الله سبحانه ، لم يجدوا منها شيئا ، لأن الكفر أحبطها ، ومحا أثرها .

عن ابن عباس قال : هو مثل ضربه الله ، كرجل عطش ، فاشتد عطشه ، فرأى سرابا ، فحسبه ماء ، فطلبه ، فظن أنه قدر عليه ، حتى أتى ، فلما أتاه ، لم يجده شيئا ، وقبض عند ذلك ، يقول الكافر كذلك ، إذا أتاه الموت ، لم يجد عمله ، يغني عنه شيئا ، ولا ينفعه ، إلا كما نفع السراب العطشان .

{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ } بالمرصاد ، وقيل وجد وعد الله بالجزاء ، على عمله . وقيل وجد أمر الله عند حشره ، وقيل حكمه ، وقضاءه ، عند المجيء . وقيل قدم على الله . وقيل عند العمل ، والمعنى متقارب { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } أي أعطاه ، وافيا ، كاملا ، حساب عمله المذكور ، وجزاءه . فإن اعتقاده لنفعه بغير إيمان ، وعمله بموجبه ، كفر على كفر ، موجب للعقاب قطعا . وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا ، إما لإرادة الجنس ، كالظمآن الواقع في التمثيل ، وإما للحمل على كل واحد منهم ، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم .

{ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } لعباده من آمن منهم ، ومن كفر . عن السدي ، عن أبيه ، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا ، فيقولون أين الماء ؟ فيمثل لهم السراب ، فيحسبونه ماء ، فينطلقون إليه فيجدون الله عنده ، فيوفيهم حسابهم ، والله سريع الحساب . أخرجه ابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر . وفي إسناده السدي عن أبيه ، وفيه مقال . معروف .