{ لئن لم ينته المنافقون } عن نفاقهم . { والذين في قلوبهم مرض } ضعف إيمان وقلة ثبات عليه ، أو فجور عن تزلزلهم في الدين أو فجورهم . { والمرجفون في المدينة } يرجفون أخبار السوء عن سرايا المسلمين ونحوها من إرجافهم ، وأصله التحريك من الرجفة وهي الزلزلة سمي بها الأخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت . { لنغرينك بهم } لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم ، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء . { ثم لا يجاورونك } عطف على { لنغرينك } ، و { ثم } للدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول اعظم ما يصيبهم . { فيها } في المدينة . { إلا قليلا } زمانا أو جوارا قليلا .
اللام في قوله تعالى : { لئن } هي المؤذنة بمجيء القسم ، واللام في { لنغرينك } هي لام القسم ، وتوعد الله تعالى هذه الأصناف في هذه الآية ، وقرن توعده بقرينة متابعتهم وتركهم الانتهاء ، فقالت فرقة : إن هذه الأصناف لم تنته ولم ينفذ الله تعالى عليها هذا الوعيد ، فهذه الآية دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، وقالت فرقة : إن هذه الأصناف انتهت وتستر جميعهم بأمرهم وكفوا وما بقي من أمرهم أنفذ الله تعالى وعيداً بإزائه ، وهو مثل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم إلى غير ذلك مما أحله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين من الإذلال في إخراجهم من المسجد وما نزل فيهم في سورة براءة وغير ذلك ، فهم لا يمتثلوا الانتهاء جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً . و { المنافقون } صنف يظهر الإيمان ولا يبطنه ، { والذين في قلوبهم مرض } هو الغزل وحب الزنا قاله عكرمة ، ومنه قوله تعالى : { فيطمع الذي في قلبه مرض }{[9579]} [ الأحزاب : 32 ] و { المرجفون في المدينة } هم قوم من المنافقين كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيغلب ، ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين ، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف مفترقة بعضها من بعض ، ويحتمل أن تكون داخلة في جملة المنافقين ، لكنه نص على هاتين الطائفتين وهو قد ضمهم عموم لفظة النفاق تنبيهاً عليهم وتشريداً بهم وغضاً منه ، و «نغرينك » معناه نحضك عليهم بعد تعيينهم لك ، قال ابن عباس المعنى لنسلطنك عليهم ، وقال قتادة لنحرشنك بهم ، وقوله تعالى : { ثم لا يجاورونك فيها } أي بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة والقتل ، وقوله { إلا قليلاً } يحتمل أن يريد إلا جواراً قليلاً أو وقتاً قليلاً ، ويحتمل أن يريد إلا عدداً قليلاً ، كأنه قال إلا أقلاء .
انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات ، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث ، وأولئك هم المنافقون الذين ابتدىء التعريض بهم من قوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله إلى قوله تعالى : عظيماً } [ الأحزاب : 53 ] ، ثم من قوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } إلى قوله : { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } [ الأحزاب : 57 59 ] .
وصرح هنا بما كُني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنهم بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لُفَّ لِفَّهُم .
و { الذين في قلوبهم مرض } قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإِيمان .
و { المرجفون في المدينة } : هم المنافقون ، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، قاله أبو رزين .
وجملة { لئن لم ينته } استئناف ابتدائي . وحذف مفعول { ينته } لظهوره ، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين .
والإِرجاف : إشاعة الأخبار . وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مرة بأنها صادقة لأن الإِشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدَّق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفَان وهو الاضطراب والتزلزل .
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدِّثون بها في مجالس ونَوادٍ ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل . ومعنى الإِرجاف هنا : أنهم يرجفون بما يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات ، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون : هُزموا أو أَسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإِيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ظن بعضهم ببعض . وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض وأتباعهم وهم الذين قال الله فيهم { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } في سورة النساء ( 83 ) .
فهذه الأوصاف لأصناف من الناس . وكان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه لنغرينك بهم } لا يساعد أن فيهم مؤمنين .
واللام في { لئن } موطئة للقسم ، فالكلام بعدها قسم محذوف . والتقدير : والله لئن لم ينته .
واللام في { لنغرينك } لام جواب القسم ، وجواب القسم دليل على جواب الشرط .
والإِغراء : الحثّ والتحريض على فعل . ويتعدَّى فعله بحرف ( على ) وبالباء ، والأكثر أن تعديته ب ( على ) تفيد حثاً على الفعل مطلقاً في حدّ ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثاً على الإِيقاع بشخص لأن الباء للملابسة . فالمغرى عليه ملابس لذات المجرور بالباء ، أي واقعاً عليها . فلا يقال : أغريته به ، إذا حرضه على إحسان إليه .
فالمعنى : لنغرينك بعقوبتهم ، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله : { أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } فإذا حلّ ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم .
واختير عطف جملة { لا يجاورونك } ب { ثم } دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإِغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل } [ البقرة : 191 ] أي وفتنة الإِخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل .
واستثناء { إلا قليلاً } لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس جارياً على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلاّ مدة قليلة ، وهي ما بين نزول الآية والإِيقاع بهم . و { قليلاً } صفة لمحذوف دلّ عليه { يجاورونك } أي جواراً قليلاً ، وقلته باعتبار مدة زمنه . وجعله صاحب « الكشاف » صفة لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم ، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوباً على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.