فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا} (60)

ثم توعد سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال : { لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } عماهم عليه من النفاق { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم .

قال القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، والمعنى أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين فهو على هذا من باب قوله :

إلى الملك القرم وابن الهما ***

*** م وليث الكتيبة في المزدحم

والواو مقحمة . وقيل الموصوف متغاير ومتعدد ، فكان من المنافقين قوم يرجفون وقوم يتبعون النساء للريبة ، وقال عكرمة وشهر بن حوشب : الذين في قلوبهم مرض هم الزناة . من قوله : { فيطمع الذي في قلبه مرض } ، والمرض هو الزنا والإرجاف في اللغة إشاعة الكذب والباطل ، يقال : أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقته لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت من الرجفة ، وهي الزلزلة ، يقال : رجفت الأرض أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفا ، والرجفان الاضطراب الشديد ، وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، والإرجاف واحد الأراجيف ، وأرجفوا في الشيء خاضوا فيه ، وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا ، وتارة بأنهم قتلوا ، وتارة بأنهم غلبوا ، ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار فتوعدهم الله سبحانه بقوله :

{ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي لنحرشنك ولنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك ، قال المبرد : قد أغراه الله بهم في قوله الآتي : ( ملعونين أينما ثقفوا ) إلخ فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف ؛ قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية ، وأقول ليس هذا بحسن ولا أحسن ، فإن قوله ملعونين إلخ ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقتالهم ولا تسليط له عليهم ، وقد قيل : إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم ، وجملة لنغرينك بهم ، جواب القسم .

{ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا } وإنما عطف بثم لأن الجلاء عن الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه يعني أنها للتفاوت الرتبي والدلالة على أن ما بعدها أبعد مما قبلها ، وأعظم وأشد عندهم ، والمعنى لا يساكنونك في المدينة إلا جوارا قليلا حتى يخرجوا أو يهلكوا .