الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{۞لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا} (60)

ثم قال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض } أي : لئن لم ينته الذين يسرون الكفر .

{ والذين في قلوبهم مرض } أي : شهوة من الزنى من المنافقين .

{ والمرجفون في المدينة } أي : أهل الإرجاف{[55708]} في المدينة بالكذب والباطل يشيعون ما يخوفون به المؤمنين ، وهم من المنافقين ، أيضا هم أجناس قد جمعوا هذه الأسماء كلها .

قال قتادة : أراد المنافقون أن يظهروا ما في قلوبهم من النفاق فتوعدهم الله بهذه الآية فكتموا نفاقهم وستروه{[55709]} .

ثم قال تعالى : { لنغرينك بهم } أي لنسلطنك عليهم ، وقد أغراه بهم بقوله جل ذكره : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره }{[55710]} وأمره بلعنهم .

وقال المبرد : قد أغراه بهم في قوله : { أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } قال : وهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم ، أي : هذا حكمهم إذ قاموا على النفاق والإرجاف في المدينة{[55711]} . وهو مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم : " خمس يقتلن في الحرم " {[55712]} ففيه معنى الأمر ولفظه خبر .

وقيل : إنهم انتهوا عن الإرجاف{[55713]}/ .

وقيل : إنه لقوم بأعيانهم .

قال ابن عباس : " لنغرينك " لنسلطنك{[55714]} .

وقال قتادة : لنحرشنك{[55715]} .

وقد استشهد من قال بجواز ترك إنفاذ الوعيد بهذه الآية ، وقال : تواعدهم الله بأن يغري نبيه عليهم ولم يفعل .

وقال من يخالفه : قد أغراه بهم ، وأنفذ وعيده فيهم . وبقاء المنافقين مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة إلى أن توفي يدل على أن الله لم ينفذ الوعيد فيهم لأن من تمام وعيده فيهم : قوله : { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } وهو مذهب أهل السنة . إذ المعروف من عادات الكرماء وأهل الفضل والشرف إتمام وعدهم وتأخير إنفاذ وعيدهم بالعفو والمعروف بالإحسان ، ولا أحد أكرم من الله ولا أبين فضلا وشرفا منه فهو أولى بالعفو والإحسان وترك إنفاذ وعيده في المؤمنين .

ثم قال : { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } أي : إن لم ينتهوا عن الإرجاف سلطتك عليهم ولا يقيموا معك في المدينة إلا وقتا قليلا . وهذا وقف إن جعلت { ملعونين } نصبا على الذم{[55716]} . فإن جعلته حالا وقفت على { ملعونين } وهو قول الأخفش وغيره وهو حال من المضمر في { يجاورونك } .

وأجاز بعض النحويين أن يكون حالا من المضمر في { أخذوا } وذلك لا يجوز لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله . ولا يحسن الوقف على " تقتيلا " لأن " سنة " انتصبت على فعل دل عليه ما قبله ، فما قبله يقوم له مقام العامل{[55717]} .


[55708]:جاء في اللسان مادة "رجف" 9/113" أرجف القوم إذا خاضوا في الأخبار السيئة وذكر الفتن. قال الله تعالى: {والمرجفون في المدينة} وهم الذين يولدون الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب في الناس. قال الجوهري: الإرجاف واحد أراجيف الأخبار".
[55709]:انظر: جامع البيان 22/48 والدر المنثور 6/662
[55710]:التوبة آية 85
[55711]:انظر: إعراب النحاس 3/326
[55712]:أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة: كتاب الحج باب ما يندب للمحرم قتله من الدواب في الحل والحرم 2/17ـ18 والترمذي في سننه 839، وابن ماجه في سننه: كتاب المناسك 3087 والدرامي في سننه باب ما يقتل المحرم في إحرامه 2/36 وفيما يلي نص الحديث كاملا: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا" واللفظ لمسلم.
[55713]:انظر: الجامع للقرطبي 14/247
[55714]:انظر: جامع البيان 22/48 والمحرر الوجيز 13/101 وتفسير ابن كثير 3/520 والدر المنثور 6/663
[55715]:انظر: جامع البيان 22/48 والمحرر الوجيز 13/101 وتفسير ابن كثير 3/520 والدر المنثور 6/663
[55716]:هذا قول محمد بن عيسى وأحمد بن جعفر إذ يريان أن الوقف على "قليلا" تمام، على أن تستأنف "ملعونين" وتنصبه على الشتم. أما الأخفش ومحمد بن يزيد فيريان أن الوقف على "ملعونين" هو التام على أن ينصب على الحال انظر: القطع والإئتناف 578
[55717]:قال مكي في مشكل الإعراب 2/582 "إن" سنة "نصب على المصدر أي: سن الله تعالى ذلك سنة فيما أرجف بالأنبياء ونافق" وهذا تعليل أبي جعفر أيضا في القطع والإئتناف 579، وكذلك العكبري في التبيان" 2/1060