تفسير سورة غافر{[1]}
هذه السورة مكية بإجماع ، وقد روي في بعض آياتها أنها مدنية{[2]} وهذا ضعيف والأول أصح وهذه الحواميم التي روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ديباج القرآن{[3]} ووقفه الزجاج على ابن مسعود ومعنى هذه العبارة أنها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزجر وطرق الآخرة محضا{[4]} وأيضا فهي قصار لا يلحق فيها قارئها سآمة وروي أن عبد الله بن مسعود روى أن النبي عليه السلام قال من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم{[5]} وهذا نحو الكلام الأول في المعنى وقال عليه السلام مثل الحواميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب{[6]}
تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتلك الأقوال كلها تترتب في قوله : { حم } ويختص هذا الموضع بقول آخر ، قاله الضحاك . والكسائي : إن { حم } هجاء «حُمَّ » بضم الحاء وشد الميم المفتوحة ، كأنه يقول : { حُمَّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله }{[9953]} . وقال ابن عباس : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، إبراهيم : 1 ، يوسف : 1 ، الحجر : 1 ] و : { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] و : { ن } [ القلم : 1 ] هي حروف الرحمن مقطعة في سور ، وقال القرظي أقسم الله بحلمه وملكه{[9954]} . وسأل أعرابي النبي صلى الله عليه وسلم عن : { حم } ما هو ؟ فقال بدء أسماء وفواتح سور .
وقرأ ابن كثير : فتح الحاء ، وروي عن أبي عمرو : كسر الحاء{[9955]} على الإمالة ، وروي عن نافع : الفتح ، وروي عنه : الوسط بينهما ، وكذلك اختلف عن عاصم ، وروي عن عيسى كسر الحاء على الإمالة ، وقرأ جمهور الناس : «حَمْ » بفتح الحاء وسكون الميم ، وقرأ عيسى بن عمر أيضاً { حم } بفتح الحاء وفتح الميم الأخيرة في النطق ، ولذلك وجهان : أحدهما التحريك للالتقاء مع الياء الساكنة ، والآخر : حركة إعراب ، وذلك نصب بفعل مقدر تقديره : «اقرأ حم » ، وهذا على أن تجري مجرى الأسماء ، الحجة منه قول شريح بن أوفى العبسي : [ الطويل ]
يذكرني حم والرمح شاجر . . . فهلا تلا حم قبل التقدم{[9956]}
وجدنا لكم في آل حم آية . . . تأولها منا تقيّ ومعرب{[9957]}
وقرأ أبو السمال : { حم } بفتح الحاء وكسر الميم الآخرة ، وذلك لالتقاء الساكنين .
وردت تسمية هذه السورة في السنة حم المؤمن روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله وسلم من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما الحديث . وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق ، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع . ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح .
والوجه في إعراب هذا الاسم حكاية كلمة { حم } ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ . وبإضافته إلى لفظ المؤمن بتقدير : سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا سورة الطول لقوله تعالى في أولها { ذي الطول } وقد تنوسي هذا الاسم . وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها . وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب .
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى { وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } ، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها . ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت ، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فأن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى .
وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه } نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال وزعموا أنه منهم . وقد جاء في أول السورة { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفرو } . والمراد بهم : المشركون .
وهذه السورة جعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور آل حم نزولا .
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب ، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة ، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب .
والسور المفتتحة بكلمة { حم } سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها . فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان قال الكميت :
قرأنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا فقيه ومعـرب يريد قول الله تعالى في سورة { حم عسق } { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله : تأولها منا فقيه ومعرب .
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة { حم } فقيل ألحوا ميم جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين : حا ، ميم فصار كالأوزان العجمية مثل قابيل و راحيل وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتد به . وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله .
وقد ثبت أنهم جمعوا { حم } على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وسمرة بن جندب ، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح . ومثله السور المفتتحة بكلمة طس أو طسم جمعوها على طواسين بالنون تغليبا . وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها :
حلفت بالسبع الألى قد طولت *** وبمئين بعدهـا قـد أمـئت
وبثمـان ثـنـيت وكـررت *** وبالطواسين اللواتي ثلثـت
وبالحواميم اللواتي سبـعـت *** وبالمفصل التي قد فصلـت
وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي .
وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة ، وخمسا وثمانين في عد أهل الشام والكوفة ، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة .
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان ، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة .
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه ، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة .
وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا ، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة ، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا ، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون .
وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه .
والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا .
وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله .
والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره .
وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب ، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم .
وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته .
وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم .
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى { إليه المصير } وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح .
القول فيه كالقول في نظائره من الحروف المقطّعة في أوائل السور ، وأن معظمها وقع بعده ذكر القرآن وما يشير إليه لِتحدّي المنكرين بالعجز عن معارضته . وقد مضى ذلك في أول سورة البقرة وذكرنا هنالك أن الحروف التي أسماؤها ممدودة الآخِر يُنطق بها في هذه الفواتح مقصورة بحذف الهمزة تخفيفاً لأنها في حالة الوقف مثل اسم ( حا ) في هذه السورة واسم ( را ) في ( أَلر ) واسم ( يا ) في ( يس ) .