{ واعلموا أنما غنمتم } أي الذي أخذتموه من الكفار قهرا . { من شيء } مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط . { فأن لله خُمسه } مبتدأ خبره محذوف أي : فثابت أن لله خمسه . وقرئ فإن بالكسر والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } . وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين { وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } فكأنه قال : فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به . وحكمه بعد ، باق غير أن سهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كما فعله الشيخان رضي الله تعالى عنهما . وقيل إلى الإمام . وقيل إلى الأصناف الأربعة . وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه :سقط سهمه وسهم ذوي القربى بوفاته وصار الكل مصروفا إلى الثلاثة الباقية . وعن مالك رضي الله تعالى عنه الأمر فيه مفوض إلى رأي الإمام يصرفه إلى ما يراه أهم ، وذهب أبو العالية إلى ظاهر الآية فقال :يقسم ستة أقسام ويصرف سهم الله إلى الكعبة لما روي ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ قبضة منه فيجعلها للكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة ) . وقيل : سهم الله لبيت المال . وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم . ذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب . لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قسم سهم ذوي القربى عليهما فقال له عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما : هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام . وشبك بين أصابعه " . وقيل بنو هاشم وحدهم . وقيل جميع قريش الغني والفقير فيه سواء . وقيل هو مخصوص بفقرائهم كسهم ابن السبيل . وقيل : الخمس كله لهم . والمراد باليتامى والمساكين وابن السبيل من كان منهم والعطف للتخصيص . والآية نزلت ببدر . وقيل الخمس كان في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة . { إن كنتم آمنتم بالله } متعلق بمحذوف دل عليه { واعلموا } أي : إن كنتم آمنتم بالله فعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء فسلموه إليهم واقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية ، فإن العلم العملي إذا أمر به لم يرد منه العلم المجرد لأنه مقصود بالعرض والمقصود بالذات هو العمل . { وما أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات والملائكة والنصر . وقرئ { عبدنا } بضمتين أي الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين . { يوم الفرقان } يوم بدر فإنه فرق فيه بين الحق والباطل . { يوم التقى الجمعان } المسلمون والكافرون . { والله على كل شيء قدير } فيقدر على نصر القليل على الكثير والإمداد بالملائكة .
موضع «أن » الثانية رفع ، التقدير «فحكمه أن » ، فهي في موضع خبر الابتداء ، والغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي من ذلك قول الشاعر [ امرؤ القيس ] : [ الوافر ]
وقد طفت في الآفاق حتى*** رضيت من الغنيمة بالإياب{[5351]}
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه*** أنّى توجَّهَ والمحروم محروم{[5352]}
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الرهن : «له غنمه وعليه مخرجه »{[5353]} وقوله : «الصيام في الشتاء هو الغنيمة الباردة »{[5354]} فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف{[5355]} الخيل والركاب غنيمة ، ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً له ، والفيء مأخوذ من فاء إذا رجع وهو كل ما دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرض وجزية الجماجم وخمس الغنيمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : والزكوات أيضاً مال على حدته ، أحكامه منفردة دون أحكام هذين ، قال سفيان الثوري وعطاء بن السائب : الغنيمة ما أخذ عنوة والفيء ما أخذ صلحاً ، وهذا قريب مما بيناه ، وقال قتادة : الفيء والغنيمة شيء واحد فيهما الخمس ، وهذه الآية التي في الأنفال ناسخة لقوله في سورة الحشر { وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى }{[5356]} وذلك أن تلك كانت الحكم أولاً ، ثم أعطى الله أهلها الخمس فقط وجعل الأربعة والأخماس في المقاتلين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول ضعيف نص العلماء على ضعفه وأن لا وجه له من جهات ، منها أن هذه السورة نزلت قبل سورة الحشر هذه ببدر ، وتلك في بني النضير وقرى عرينة ، ولأن الآيتين متفقتان وحكم الخمس وحكم تلك الآية واحد لأنها نزلت في بني النضير حين جلوا وهربوا ، وأهل فدك حين دعوا إلى صلح ونال المسلمون ما لهم دون إيجاف ، وحكى ابن المنذر عن الشافعي أن في الفيء الخمس ، وأنه كان في قرى عرينة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أربعة أخماسها كان للرسول صلى الله عليه وسلم خاصة دون المسلمين يضعها حيث شاء .
وقال أبو عبيدة : هذه الآية ناسخة لقوله في أول السورة { قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] ولم يخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم بدر فنسخ حكمه في ترك التخميس بهذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر في قول علي بن أبي طالب في البخاري : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم ببدر ، وشارف أعطانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس حينئذ{[5357]} أن غنيمة بدر خمست فإن كان ذلك فسد قول أبي عبيدة ، ويحتمل أن يكون الخمس الذي ذكره علي بن أبي طالب من إحدى الغزوات التي كانت بين بدر وأحد ، فقد كانت غزوة بني سليم وغزوة السويق وغزوة ذي أَمر وغزوة نجران ، ولم يحفظ فيها قتال ، ولكن يمكن أن غنمت غنائم . والله أعلم .
وقوله في هذه الآية { من شيء } ظاهره عام ومعناه الخصوص ، فأما الأرض{[5358]} والمتاع والأطفال والنساء وما لا يؤكل لحمه من الحيوان ويصح تملكه فليس للإمام في جميع ذلك ما كثر منه وما قل كالخيط والمخيط إلا أن يأخذ الخمس ويقسم الباقي في أهل الجيش ، وأما الأرض فقال فيها مالك : يقسمها الإمام إن رأى ذلك صواباً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر ، ولا يقسمها إن أداه اجتهاده إلى ذلك كما فعل عمر بأرض مصر سواد الكوفة .
قال القاضي أبو محمد : لأن فعل عمر ليس بمخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ليست النازلة واحدة بحسب قرائن الوقتين وحاجة الصحابة وقلتهم ، وهذا كله انعكس في زمان عمر ، وأما الرجال ومن شارف البلوغ من الصبيان فالإمام عند مالك وجمهور العلماء مخير فيهم على خمسة أوجه ، منها القتل وهو مستحسن في أهل الشجاعة والنكاية ، ومنها الفداء وهو مستحسن في ذي المنصب الذي ليس بشجاع ولا يخاف منه رأي ولا مكيدة لانتفاع المسلمين بالمال الذي يؤخذ منه ، ومنها المن وهو مستحسن فيمن يرجى أن يحنو على أسرى المسلمين ونحو ذلك من القرائن ، ومنها الاسترقاق ، ومنها ضرب الجزية والترك في الذمة ، وأما الطعام والغنم ونحوهما مما يؤكل فهو مباح في بلد العدو يأكله الناس فما بقي كان في المغنم .
قال القاضي أبو محمد : وأما أربعة أخماس ما غنم فيقسمه الإمام على الجيش ، ولا يختص بهذه الآية ذكر القسمة فأنا أختصره هنا ، وأما الخمس فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك رحمه الله : الرأي فيه للإمام يلحقه ببيت الفيء ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه ، كما يعطي منه اليتامى والمساكين وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليه ، قال الزجّاج محتجاً لمالك :
قال الله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل }{[5359]} .
وللإمام بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك ، وقالت فرقة : كان الخمس يقسم على ستة أقسام ، قسم لله وهو مردود على فقراء المسلمين أو على بيت الله ، وقسم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقسم لقرابته ، وقسم لسائر من سمي ، حكى القول منذر بن سعيد ورد عليه ، قال أبو العالية الرياحي : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يقبض من خمس الغنيمة قبضة{[5360]} فيجعلها للكعبة فذلك لله ، ثم يقسم الباقي على خمسة ، قسم له وقسم لسائر من سمي . وقال الحسن بن محمد وابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة والشافعي : قوله { فأن لله خمسه } استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده :قد أعتقك الله وأعتقتك ، على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله . وقسم لله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم الخمس على خمسة أقسام كما تقدم . وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه الطبري : الخمس مقسوم على أربعة أقسام ، وسهم الرسول صلة الله عليه وسلم ، لقرابته وليس لله ولا للرسول شيء ، وقالت فرقة : قسم الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد موته مردود على أهل الخمس القرابة وغيرها ، وقالت فرقة : هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة الأخماس ، وقال علي بن أبي طالب : يلي الإمام منهم سهم الله ورسوله ، وقالت فرقة : هو موقوف لشراء العدد وللكراء{[5361]} في سبيل الله ، وقال إبراهيم النخعي وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر فيه ، وقال أصحاب الرأي : الخمس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، مقسوم ثلاثة أقسام ، قسم لليتامى ، وقسم للمساكين وقسم لابن السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يورث ، فسقط سهمه وسهم ذوي القربى ، وحجتهم فيه منع أبي بكر وعمر وعثمان لذوي القربى .
قال القاضي أبو محمد : ولم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم بأن قريشاً قربى ، وقيل لم يكن في مدة أبي بكر مغنم ، وقال الشافعي : يعطي أهل الخمس منه ولا بد ويفضل الإمام أهل الحاجة ولكن لا يحرم صنفاً منهم حرماناً تاماً ، وقول مالك رحمه الله : إن للإمام أن يعطي الأحوج وإن حرم الغير .
قال القاضي أبو محمد : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً من الغنيمة بثلاثة أشياء :كان له خمس الخمس ، وكان له سهم في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفيّ يأخذه قبل القسمة{[5362]} ، دابة أو سيف ، أو جارية ولا صفيّ لأحد بعده بإجماع إلا ما قال أبو ثور من أن الصفيّ باق للإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، وذوو القربى قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس : هم بنو هاشم فقط ، فقال مجاهد : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال ابن عباس : ولكن أبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا قريش كلها قربى ، وقال الشافعي : هم بنو هاشم وبنو المطلب فقط ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان وجبير بن مطعم في وقت قسمة سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب «إنمَا بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ما فارقونا في جاهلية ولا في الإسلام »{[5363]} .
قال القاضي أبو محمد : كانوا مع بني هاشم في الشعب وقالت فرقة : قريش كلها قربى ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ، والمراد يتامى قريش ومساكينها ، وقالت فرقة : سهم القرابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز إلى بني هاشم وبني المطلب فقط ، وقالت فرقة : هو لقرابة الإمام القائم بالأمر . وقال قتادة : كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حياً ، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده ، وقاله الحسن بن أبي الحسن البصري . وحكى الطبري أيضاً عن الحسن أنه قال : اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة ، وقال قوم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال قوم : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، فاجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة ، فكان على ذلك مدة أبي بكر رضي الله عنه ، قال غير الحسن وعمر و { اليتامى } الذين فقدوا آباءهم من الصبيان ، واليتم في بني آدم من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات ، { والمساكين } الذين لا شيء لهم وهو مأخوذ من السكون وقلة الحراك ، { وابن السبيل } الرجل المجتاز الذي قد احتاج في سفر ، وسواء كان غنيّاً في بلده أو فقيراً فإنه ابن السبيل يسمى بذلك إما لأن السبيل تبرزه فكأنها تلده ، وإما لملازمة السبيل كما قالوا :ابن ماء ، وأخو سفر . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :
«لا يدخل الجنة ابن زنى » وقد تقدم{[5364]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد اقتضبت فقه هذه الآية حسب الاختصار والله المستعان .
قال القاضي أبو محمد : و { ما } في قوله { ما غنمتم } بمعنى الذي ، وفي قوله { غنمتم } ضمير يعود عليها ، وحكي عن الفراء أنه جوز أن تكون «ما » شرطية بتقدير أنه ما ، وحذف هذا الضمير لا يجوز عند سيبويه إلا في الشعر ، ومنه
إن من يدخل الكنيسة يوماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5365]}
وقرأ الجمهور «فأن لله »{[5366]} بفتح الهمزة ، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم وحسين عن أبي عمرو «فإن » بكسر الهمزة ، وقرأ الحسن «خمْسه » بسكون الميم ، وقوله تعالى : { إن كنتم آمنتم بالله } الآية ، قال الزجّاج عن فرقة : المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم ، «فإن » متعلقة بهذا الوعد ، وقال أيضاً عن فرقة : إنها متعلقة بقوله { واعلموا أنما غنمتم } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصحيح ، لأن قوله { واعلموا } يتضمن بانقياد وتسليم لأمر الله في الغنائم فعلق «أن » بقوله { واعلموا } على هذا المعنى أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة ، وقوله { وما أنزلنا } عطف على قوله { بالله } والمشار إليه ب { ما } هو النصر والظهور الذي أنزله الله يوم بدر على نبيه وأصحابه ، أي إن كنتم مؤمنين بالله وبهذه الآيات والعظائم الباهرة التي أنزلت يوم بدر ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى قرآن نزل يوم بدر أو في قصة يوم بدر على تكره في هذا التأويل الأخير .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المعنى :واعلموا أنما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فإن خمسه لكذا وكذا إن كنتم آمنتم ، أي فانقادوا لذلك وسلموا ، وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، و { يوم الفرقان } معناه يوم الفرق بين الحق والباطل بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك ، و { الفرقان } مصدر من فرق يفرق و { الجمعان } يريد جمع المسلمين وجمع الكفار ، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر ، ولا خلاف في ذلك ، وعليه نص ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن بن علي وقتادة وغيرهم ، وكانت يوم الجمعة السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة هذا قول جمهور الناس .
وقال أبو صالح : لتسع عشرة ، وشك في ذلك عروة بن الزبير ، وقال لتسع عشرة أو لسبع عشرة ، والصحيح ما عليه الجمهور ، وقوله عز وجل : { والله على كل شيء قدير } ، يعضد أن قوله { وما أنزلنا على عبدنا } يراد به النصر والظفر ، أي الآيات والعظائم من غلبة القليل الكثير ، وذلك بقدرة الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واعلموا} يخبر المؤمنين {أنما غنمتم من شيء} يوم بدر، {فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى}، يعنى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، {واليتامى والمساكين وابن السبيل}، يعني الضعيف نازل عليك، {إن كنتم آمنتم بالله}، يعني صدقتم بتوحيد الله،وصدقتم ب: {وما أنزلنا على عبدنا} من القرآن {يوم الفرقان}، يعني يوم النصر فرق بين الحق والباطل، فنصر النبي صلى الله عليه وسلم وهزم المشركين ببدر {يوم التقى الجمعان}، يعني جمع النبي صلى الله عليه وسلم ببدر، وجمع المشركين، فأقروا الحكم لله في أمر الغنيمة والخمس، وأصلحوا ذات بينكم، {والله على كل شيء قدير}، يعني قادر فيما حكم من الغنيمة والخمس...
عن مالك: أن الفيء والخمس يجعلان في بيت المال، ويعطي الإمام قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما...
وروى ابن القاسم، عن مالك: أن الفيء والخمس واحد. وروى داود بن سعيد عن مالك عن عمه عن عمر بن عبد العزيز أن القرابة لا يعطون منه إلا الفقراء، وقاله مالك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا تعليم من الله عزّ وجلّ المؤمنين قسم غنائمهم إذا غنموها، يقول تعالى ذكره:"واعلموا" أيها المؤمنون "أنما غنمتم "من غنيمة...
وقد بيّنا فيما مضى الغنيمة، وأنها: المال يوصل إليه من مال من خوّل الله ماله أهل دينه بغلبة عليه وقهر بقتال. فأما الفيء، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو ما ردّه عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل ولا ركاب...
وأما قوله: "مِنْ شَيْءٍ" فإنه مراد به كل ما وقع عليه اسم شيء مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين مما وقع فيه القسم حتى الخيط والمخيط...
"فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى واليَتامَى والمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ"
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: قوله: "فَأنّ للّهِ خُمُسَهُ" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه... عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خَمّسَ الغنيمة فضرب ذلك الخُمْسَ في خمسة، ثم قرأ: "وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ وللرسُولِ". قال: وقوله: "فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ" مفتاح كلام، لله ما في السّمَوَاتِ وما في الأَرْضِ، فجعل سهم الله، وسهم الرسول واحدا...
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول... عن أبي العالية الرياحي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة: تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس، فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة، وهو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل...
وقال آخرون: ما سمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فإنما هو مراد به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال قوله: "فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ" افتتاح كلام، وذلك لإجماع الحجة على أن الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم، ولو كان لله فيه سهم كما قال أبو العالية، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسوما على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها، فأما على أكثر من ذلك فما لا نعلم قائلاً قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية، وفي إجماع من ذكرت الدلالة الواضحة على صحة ما اخترنا. فأما من قال: سهم الرسول لذوي القربى، فقد أوجب للرسول سهما وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم. وقد
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وَاعْلَمُوا أنمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأنّ لِلّهِ خُمُسَهُ..."، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القُرْبى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل...
وأما قوله: "وَلِذِي القُرْبَىَ" فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم، فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم... عن مجاهد، قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس...
وقال آخرون: بل هم قريش كلها... وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده...
وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم، وبني المطلب خاصة. وممن قال ذلك الشافعيّ، وكانت علته في ذلك ما حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: ثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: «إنّهُمْ لَمْ يُفارِقُونا فِي جاهِلِيّةٍ وَلا إسْلامٍ، إنّمَا بَنُو هاشِمٍ وَبَنُو المُطّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ». ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قول من قال: سهم ذي القربى كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب، لأن حليف القوم منهم، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين، أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: يصرفان في معونة الإسلام وأهله...
ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قائلون: سهم النبيّ صلى الله عليه وسلم لقرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة. واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما...
وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل...
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم... والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم على ما رُوي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجب الخمس لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الاَخرين. وقد أجمعوا أن حقّ الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حقّ أهل الخمس لن يستحقه غيرهم، فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه إلى غير أهل السهمان الأخر. وأما اليتامى فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. والمساكين هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل المجتاز سفرا قد انْقُطِعَ به...
"إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ باللّهِ وَما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ وَاللّه عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون أنما غنمتم من شيء فمقسوم القَسمْ الذي بينته، وصَدقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فرق بين الحقّ والباطل ببدر، فأبان فلج المؤمنين وظهورهم على عدوّهم، وذلك يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين. والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء قدير لا يمتنع عليه شيء أراده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال عامة أهل التأويل: إن الغنيمة هي التي أصاب المسلمون من أموال المشركين بالقتال عنوة، والفيء ما يعطون بأيديهم صلحا...
ثم ليس في ظاهر الآية دليل أن المراد بقوله تعالى: (ولذي القربى) قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل في ظاهره دلالة أنه أراد به قرابة أهل السهام في ذلك لأنه خاطب به الكل بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) وظاهره أنه أراد به قربى من خاطب، وكان الخطاب لهم جميعا. فلو كان الخمس حقا لجميع القرابة أعطى من ذلك غنيهم وفقيرهم، وما يأخذه الأغنياء من الخمس فإنه لا يجري مجرى الصدقة، ولا يجري مجرى القربة، فبان بذلك أنه لا يعطى منه أغنياؤهم، بل يصرف إلى فقرائهم على قد رحاجتهم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وقوله تعالى: {من شَيْءٍ} واختلفوا في سهمهم [يعني ذوي القربى] اليوم على أربعة أقاويل:
أحدها: أنه لهم أبداً كما كان لهم من قبل، قاله الشافعي.
والثاني: أنه لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة. والثالث: أنه إلى الإمام يضعه حيث شاء. والرابع: أن سهمهم وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود على باقي السهام وهي ثلاثة، قاله أبو حنيفة...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
في قول الله –عز وجل-: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} دليل على أن أربعة أخماس الغنائم لأهلها الغانمين لها والموجفين عليها الخيل والركاب والرجل؛ لأن الله –عز وجل- لما أضاف الغنيمة إليهم بقوله: {غنمتم}، وأخبر أن الخمس خارج عنهم لمن سمى في الآية، علم العلماء استدلالا ونظرا صحيحا أن الأربعة الأخماس المسكوت عنها لهم مقسومة بينهم، وهذا ما لا خلاف فيه...
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
...قوله تعالى: {إن كنتم آمنتم بالله}، قيل: أراد اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر فيه بما يريد، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله. قوله تعالى: {والله على كل شيء قدير}، على نصركم مع قلتكم وكثرتهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: بم تعلق قوله: {إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بالله}؟ قلت: بمحذوف يدل عليه {واعلموا} المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى؛ لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر {وَمَا أَنزَلْنَا} معطوف على {للَّهِ} أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.
{إن كنتم آمنتم بالله} يعني: إن كنتم آمنتم بالله فاحكموا بهذه القسمة، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة، لم يحصل الإيمان بالله...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
والجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كما في قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}. وأن المراد قسم الخمس على الخمسة المعطوفين {وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فكأنه قال: فأن لله خمسه يصرف إلى هؤلاء الأخصين به.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
والظاهر أنّ {اليتامى والمساكين وابن السبيل} عامّ في يتامى المسلمين ومساكينهم وابن السبيل منهم وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله خمسه ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ثم أشرك المعاطيف معه على سبيل التبعية له ولم يأتِ التركيب:فإن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة، من بين سائر الأمم المتقدمة، من إحلال المغانم وقال عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح قال: خمس الله والرسول واحد، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا أعم وأشمل، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء، ويرده في أمته كيف شاء- ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن أبي سلام الأعرج، عن المقدام بن معد يكرب الكندي: أنه جلس مع عبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، والحارث بن معاوية الكندي، رضي الله عنهم، فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء لعبادة: يا عبادة، كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال:"إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في [سبيل] الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة [عظيم] ينجي به الله من الهم والغم" وروى الإمام أحمد، والترمذي -وحسنه- عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد {وَابْنِ السَّبِيلِ} هو المسافر، أو المريد للسفر، إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فإذا أعانكم مولاكم عليهم وغلبتموهم وغنمتم فيه فلا تنسبوا إلى أنفسكم فعلاً، بل اعلموا أنه هو الفاعل وحده لأن جميع الأفعال متلاشية بالنسبة إلى فعله فلا تتنازعوا في المغنم تنازع من أخذه بقوته وحازه بقدرته، عطف عليه قوله: {واعلموا} ابتداء بهذا الأمر إشارة إلى أن ما بعدها من المهمات ليبذلوا الجهد في تفريغ أذهانهم لوعيه وتنزيله منازله ورعيه {وللرسول} أي يصرف إليه خمس هذا الخمس ما دام حياً ليصرفه في مصالح المسلمين، ويصرف بعده إلى القائم مقامه اعلموا ذلك كله علم المصدق المؤمن المذعن لما علم لتنشأ عنه ثمرة العمل {أنزلنا} أي إنزالاً واحداً سريعاً لأجل التفريج عنكم من القرآن والجنود والسكينة في قلوبكم وغير ذلك مما تقدم وصفه {على عبدنا} أي الذي يرى دائماً أن الأفعال كلها لنا فلا ينسب لنفسه شيئاً إلا بنا ولما وصفه سبحانه بالفرقان تذكيراً لهم بالنعمة، بينه بما صور حالهم إتماماً لذلك -أو أبدل منه- فقال: {يوم التقى} أي عن غير قصد من الفريقين بل بمحض تدبير الله {الجمعان} أي اللذان أحدهما أنتم وكنتم حين الترائي -لولا فضلنا- قاطعين بالموت، وثانيهما أعداؤكم وكانوا على اليقين بأنكم في قبضتهم، وذلك هو الجاري على مناهج العوائد، ولو قيل: يوم بدر، لم يفد هذه الفوائد.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئاً لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها. وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضاً، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم...
{على عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وفي (مسند أحمد) أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:"قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد: وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم".
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم وجه التناسب بين الآيات من أول السورة إلى هنا، وفي هذه الآية عود إلى وصف غزوة بدر وما فيها من الحكم والعبر والأحكام، وقد بدئ هذا السياق بحكم شرعي يتعلق بالقتال وهو تخميس الغنائم كما بدئت السورة بذكر الأنفال (الغنائم) التي اختلفوا فيها وتساءلوا عنها في تلك الغزوة. وبالمناسبة بين الآية هنا وما قبلها مباشرة ظاهر فقد جاء في الآيتين اللتين قبلها الأمر بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد الله المؤمنين بالنصر عليهم، وذلك يستتبع أخذ الغنائم منهم، فناسب أن نذكر بعده ما يرضيه سبحانه في قسمة الغنائم. وإننا نذكر أقوال العلماء في الغنيمة وما في معناها أو على مقربة منها كالفيء والنفل والسلب والصفي قبل تفسير الآية لطوله حتى لا يختلط بمدلول الألفاظ فنقول: الغُنم –بالضم- والمغنم والغنيمة في اللغة ما يصيبه الإنسان ويناله ويظفر به من غير مشقة كذا في القاموس وهو قيد يشير إليه ذوق اللغة أو يشتم منه ما يقاربه ولكنه غير دقيق. فمن المعلوم بالبداهة أنه لا يسمى كل كسب أو ربح أو ظفر بمطلوب غنيمة، كما أن العرب أنفسهم قد سموا ما يؤخذ من الأعداء في الحرب غنيمة وهو لا يخلو من مشقة، فالمتبادر من الاستعمال أن الغنيمة والغنم ما يناله الإنسان ويظفر به من غير مقابل مادي يبذله في سبيله (كالمال في التجارة مثلا) ولذلك قالوا إن الغرم ضد الغنم وهو ما يحمله الإنسان من خسر وضرر بغير جناية منه ولا خيانة يكون عقابا عليهما. فإن جاءت الغنيمة بغير عمل ولا سعي مطلقا سميت الغنيمة الباردة. وفي كليات أبي البقاء: الغنم بالضم الغنيمة، وغنمت الشيء أصبته غنيمة ومغنما، والجمع غنائم ومغانم. «والغنم بالغرم» أي مقابل به. وغرمت الدية والدين: أديته. ويتعدى بالتضعيف يقال غرمته وبالألف (أغرمته): جعلته له غارما والغنيمة أعم من النفل... والتحقيق أن الغنيمة في الشرع ما أخذه المسلمون من المنقولات في حرب الكفار عنوة. وهذه هي التي يخمس فخمسها لله وللرسول كما سيأتي تفصيله والباقي للغانمين يقسم بينهم...
{واعلموا أنما ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} هذا عطف على الأمر بالقتال وما يتعلق به في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كما تقدم آنفا وأن ما رسمت في مصحف الإمام موصولة هكذا «أنما» والجمهور على أن هذه الآية نزلت في غزوة بدر وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها ولكن أهل السير اختلفوا فيها فزعم بعضهم أنها شرعت يوم قريظة وبعضهم أنها لم تبين بالصراحة إلا في غنائم حنين وقال ابن إسحاق في سرية عبد الله بن جحش التي كانت في رجب قبل بدر بشهرين. قال ذكر لي بعض آل جحش أن عبد الله قال لأصحابه: إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله الخمس فعزل له الخمس وقسم سائر الغنيمة بين أصحابه قال: فوقع رضا الله بذلك. وقال السبكي نزلت الأنفال في بدر وغنائمها والذي يظهر أن آية قسمة الغنيمة نزلت بعد تفرقة الغنائم لأن أهل السير نقلوا أنه صلى الله عليه وسلم قسمها على السواء وأعطاها لمن شهد الوقعة أو غاب لعذر تكرما منه لأن الغنيمة كانت أولا بنص أول سورة الأنفال للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ولكن يعكر على ما قال أهل السير حديث علي حيث قال: وأعطاني شارفا من الخمس يومئذ: فإنه ظاهر في أنه كان فيها خمس اه.
والمراد بحديث علي ما أخرجه البخاري في أول كتاب فرض الخمس وغيره عنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس الخ. قال الحافظ في شرحه من الفتح عقب نقل عبارة السبكي: ويحتمل أن تكون قسمة غنائم بدر وقعت على السواء بعد أن أخرج الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم وعلى ما تقدم من قصة سرية عبد الله بن جحش وأفادت آية الأنفال وهي قوله تعالى: {واعلموا أن ما غنمتم} إلى آخر بيان مصرف الخمس لا مشروعية أصل الخمس والله أعلم.
ثم قال الحافظ في شرح حديث حل الغنائم لنا دون من قبلنا: وكان ابتداء ذلك من غزوة بدر وفيها نزل قوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 69] فأحل الله لهم الغنيمة وقد ثبت ذلك في الصحيح من حديث ابن عباس. وقد قدمت في أوائل فرض الخمس أن أول غنيمة خمست غنيمة السرية التي خرج فيها عبد الله بن جحش وذلك قبل بدر بشهرين ويمكن الجمع بما ذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أخر غنيمة تلك السرية حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم بدر اه. وقال الواقدي كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهرين وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. وإنما يصح هذا القول إذا أريد به أن أول غنيمة غنمت بعد نزول هذه الآية هي غنيمة الغزوة المذكورة بناء على أن الآية نزلت في جملة السورة في غزوة بدر بعد انقضاء القتال كما تقدم، والصواب ما حققه الحافظ ابن حجر وذكرناه آنفا.
وقال في فتح البيان: وأما معنى الغنيمة في الشرع فحكى القرطبي الاتفاق أن المراد بقوله: {أن ما غنمتم من شيء} مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر وقال ولا يقتضي في اللغة هذا التخصيص ولكن عرف الشرع قيد هذا اللفظ بهذا النوع. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: {يسألونك عن الأنفال} حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر وقيل إنها (يعني آية {يسألونك عن الأنفال} ) محكمة غير منسوخة وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين، وكذلك لمن بعده من الأئمة حكاه الماوردي عن كثير من المالكية قالوا وللإمام أن يخرجها عنهم. واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين. وكان أبو عبيدة يقول: افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئا.
« وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وممن حكى ذلك ابن المنذر وابن عبد البر والداودي والمازري والقاضي عياض وابن عربي. والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين كثيرة جدا. قال القرطبي: ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى: {يسألونك عن الأنفال} الآية ناسخ لقوله: {واعلموا أن ما غنمتم} الآية. بل قال الجمهور إن قوله: {واعلموا أن ما غنمتم} ناسخ وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف والتبديل لكتاب الله. وأما قصة مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها وقال: وأما قصة حنين فقد عوض الأنصار لما قالوا يعطي الغنائم قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه صلى الله عليه وسلم فقال: (أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟) كما في مسلم وغيره. وليس لغيره أن يقول هذا القول بل ذلك خاص به اه.
والتحقيق أن مكة فتحت عنوة وأنه صلى الله عليه وسلم أعتق أهلها فقال: (أنتم الطلقاء) وأن الأرض التي تفتح عنوة لا يجب قسمها كالغنائم المنقولة بل يعمل الإمام فيها بما يرى فيه المصلحة دع ما ميز الله به مكة عن سائر بقاع الأرض ببيته وشعائر دينه حتى قيل إنها لا تملك. وجملة القول إنه ليس بين الآيتين تعارض يتفصى منه بالنسخ فالأولى ناطقة بأن الأنفال لله يحكم فيها بحكمه وللرسول صلى الله عليه وسلم ينفذ حكمه تعالى بالبيان والعمل والاجتهاد. والثانية ناطقة بوجوب أخذ خمس الغنائم وتقسيمه على من ذكر فيها. فهي إذا مبينة لإجمال الأولى ومفسرة لها لا ناسخة لها.
ومعنى الآية واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتم من الكفار المحاربين فالحق الأول الواجب فيه أن خمسه لله تعالى يصرف فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة إلى الإسلام وعمارة الكعبة وكسوتها وإقامة شعائره تعالى، وللرسول يأخذ كفايته منه لنفسه ونسائه وكان يمونهن إلى سنة، ولذي القربى أي أقرب أهله وعشيرته إليه نسبا وولاء ونصرة وهم الذين حرمت عليهم الصدقة كما حرمت عليه تكريما له ولهم بالتبع له عن أن يكون رزقهم من أوساخ الناس وما ذلك من حمل مننهم. وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبني أخيه المطلب المسلمين دون بني أخيه الشقيق بل توأم عبد شمس وأخيه لأبيه نوفل وكلهم أولاد عبد مناف، ويلي ذوي القربى المحتاجون من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل...
وحكمة تقسيم الخمس على هذا النحو أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من مال تستعين به على ذلك وهو أقسام: أولها ما كان للمصلحة العامة كشعائر الدين وحماية الحوزة وهو ما جعل لله في الآية، وثانيها ما كان لنفقة إمامها ورئيس حكومتها وهو سهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وثالثها ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظفرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم أولي القربى. ورابعها ما يكون لذوي الحاجات من ضعفاء الأمة وهم الباقون. وهذا الاعتبار كله أو أكثره لا يزال مراعى ومعمولا به في أكثر الدول والأمم مع اختلاف شؤون الاجتماع والمصالح العامة والخاصة...
وقد أكد الله أمر هذا التخميس بقوله: {إن كنتم آمنتم بالله} الواحد القهار الفاعل المختار {وما أنزلنا على عبدنا} الكامل في عبوديتنا محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والملائكة المثبتين لكم في القتال، والنصر المبين على الأعداء {يوم الفرقان} الذي فرقنا به بين الإيمان وأهله وبين الكفر وأهله وهو يوم بدر {يوم التقى الجمعان} جمع المؤمنين وجمع المشركين في الحرب والنزال، أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إيقان وإذعان، وقد شاهدتم ذلك بالعيان، فاعلموا أن ما غنمتم من شيء قل أو كثر فإن لله خمسه لأنه هو مولاكم وناصركم، كما أنه مالك أمركم في سائر شؤونكم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم الخ فيجب أن ترضوا بحكم الله في الغنائم كغيرها وبقسمة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها. وفيه أن الإيمان يقتضي الإذعان النفسي والعملي. قال علي كرم الله وجهه ورضي عنه: كانت ليلة الفرقان التي التقى فيها الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{والله على كل شيء قدير} فكان مما شهدتم من تصريف قدرته بقضائه وقدره مع تأييد رسوله وإنجاز وعده له، أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم على ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر من الأقوياء كما تقدم في تفسير أوائل السورة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... وأخيراً تجيء الأحكام المنظمة لعلاقات الجماعة المسلمة فيما بينها، وعلاقاتها بالمجموعات التي تدخل في الإسلام، ولكنها لا تلحق بدار الإسلام، ثم علاقاتها بالذين كفروا في حالات معينة، ومن حيث المبدأ العام أيضاً. حيث تتجلى في هذه الأحكام طبيعة التجمع الإسلامي؛ وطبيعة المنهج الإسلامي كله؛ وحيث يبدو بوضوح كامل أن "التجمع الحركي "هو قاعدة الوجود الإسلامي، الذي تنبثق منه أحكامه في المعاملات الداخلية والخارجية؛ وأنه لا يمكن فصل العقيدة والشريعة في هذا الدين عن الحركة والوجود الفعلي للمجتمع المسلم.
وهذا حسبنا في هذا التمهيد القصير، لنواجه بعده النصوص القرآنية بالتفصيل:
السياق متصل بين مطالع هذا الدرس وخواتم الدرس الماضي في آخر الجزء التاسع.. فهو استطراد في أحكام القتال الذي بدأ الحديث عنه هناك في قوله تعالى: (...قل للذين كفروا:إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، فإن انتهوا فإن اللهبما يعملون بصير، وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير)..
ثم تابع الحديث في هذا الدرس عن أحكام الغنائم التي تنشأ من النصر في ذلك القتال الذي بين غايته وهدفه:
(حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)..
ومع أن غاية الجهاد قد تحددت بهذا النص الواضح؛ وتبين منها أنه جهاد لله، وفي سبيل أهداف تخص دعوة الله ودينه ومنهجه للحياة.. ومع أن ملكية الأنفال التي تتخلف عن هذا الجهاد قد بت في أمرها من قبل، فردت إلى الله والرسول، وجرّد منها المجاهدون لتخلص بينّتهم وحركتهم لله.. مع هذا وذلك فإن المنهج القرآني الرباني يواجه الواقع الفعلي بالأحكام المنظمة له. فهناك غنائم وهناك محاربون. وهؤلاء المحاربون يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم:هم يتطوعون للجهاد، وهم يجهزون أنفسهم على نفقتهم الخاصة؛ وهم يجهزون غيرهم من المجاهدين الذين لا يجدون ما ينفقون.. ثم هم يغنمون من المعركة غنائم. يغنمونها بصبرهم وثباتهم وبلائهم في الجهاد.. ولقد خلص الله نفوسهم وقلوبهم من أن يكون فيها شيء يحيك من شأن هذه الغنائم فرد ملكيتها ابتداء لله ورسوله.. وهكذا لم يعد من بأس في إعطائهم نصيبهم من هذه الغنائم -وهم يشعرون أنهم إنما يعطيهم الله ورسوله- فيلبي هذا الإعطاء حاجتهم الواقعية، ومشاعرهم البشرية، دون أن ينشأ عنه محظور من التكالب عليه، والتنازع فيه، بعد ذلك الحسم الذي جاء في أول السورة..
إنه منهج الله الذي يعلم طبيعة البشر؛ ويعاملهم بهذا المنهج المتوازن المتكامل، الذي يلبي حاجات الواقع كما يلبي مشاعر البشر؛ وفي الوقت ذاته يتقي فساد الضمائر وفساد المجتمع، من أجل تلك المغانم!
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. والله على كل شيء قدير)..
وبين الروايات المأثورة والآراء الفقهية خلاف طويل.. أولاً: حول مدلول "الغنائم" ومدلول "الأنفال" هل هما شيء واحد، أم هما شيئان مختلفان؟ وثانياً: حول هذا الخمس -الذي يتبقى بعد الأخماس الأربعة التي منحها الله للمقاتلين- كيف يقسم؟ وثالثاً: حول خمس الخمس الذي لله. أهو الخمس الذي لرسول الله، أم هو خمس مستقل؟: ورابعا: حول خمس الخمس الذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهو خاص به أم ينتقل لكل إمام بعده؟ وخامساً: حول خمس الخمس الذي لأولي القربى، أهو باق في قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني عبد المطلب، كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم يرجع إلى الإمام يتصرف فيه؟ وسادساً: أهي أخماس محددة يقسم إليها الخمس، أم يترك التصرف فيه كله لرسول الله [صلى الله عليه وسلم] ولخلفائه من بعده؟... وخلافات أخرى فرعية.
ونحن -على طريقتنا في هذه الظلال- لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة.. هذا بصفة عامة.. وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا. فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة؛ ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها، فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه.. إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان. والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر، والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة؛ ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً.
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين؛ وليس هناك -في البدء- قضية أخرى سواها.. ليس هناك قضية غنائم، لأنه ليس هناك قضية جهاد! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية، وذلك لسبب بسيط: هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل، يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى!!!
والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل؛ ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع!.. إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين. هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه: دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد -كما دخل فيه الناس أول مرة- كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية.. ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق.. ثم يحتاج حينئذ -وحينئذ فقط- إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه؛ كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره.. وحينئذ -وحينئذ فقط- يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية -في الداخل وفي الخارج- وحينئذ -وحينئذ فقط- تكون لهذا الاجتهاد قيمته، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته!
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم؛ حتى يحين وقتها عندما يشاء الله؛ وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام! وحسبنا -في هذه الظلال- أن نتتبع الأصل الإيماني في السياق التاريخي الحركي، والمنهج القرآني التربوي. فهذا هو العنصر الثابت، الذي لا يتأثر بالزمن في هذا الكتاب الكريم.. وكل ما عداه تبع له وقائم عليه:
إن الحكم العام الذي تضمنه النص القرآني:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه، وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل).
يتلخص في رد أربعة أخماس كل شيء من الغنيمة إلى المقاتلين، واستبقاء الخمس يتصرف فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والأئمة المسلمون القائمون على شريعة الله المجاهدون في سبيل الله، من بعده في هذه المصارف: لله وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. بما يواجه الحاجة الواقعة عند وجود ذلك المغنم... وفي هذا كفاية..
أما التوجيه الدائم بعد ذلك فهو ما تضمنه شطر الآية الأخير:
(إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، والله على كل شيء قدير)..
إن للإيمان إمارات تدل عليه؛ والله -سبحانه- يعلق الاعتراف لأهل بدر -وهم أهل بدر- بأنهم آمنوا بالله، وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.. يعلق الاعتراف لأهل بدر هؤلاء بالإيمان، على قبولهم لما شرع الله لهم في أمر الغنائم في صدر الآية؛ فيجعل هذا شرطاً لاعتبارهم عنده قد آمنوا بالله وبما أنزله على عبده من القرآن؛ كما يجعله مقتضى لإعلانهم الإيمان لا بد أن يتحقق ليتحقق مدلول هذا الإعلان.
وهكذا نجد مدلول الإيمان -في القرآن- واضحاً جازماً لا تميع فيه، ولا تفصيص ولا تأويل مما استحدثته التطويلات الفقهية فيما بعد، عندما وجدت الفرق والمذاهب والتأويلات، ودخل الناس في الجدل والفروض المنطقية الذهنية، كما دخل الناس -بسبب الفرق المذهبية والسياسية- في الاتهامات ودفع الاتهامات؛ وصار النبز بالكفر، ودفع هذا النبز، لا يقومان على الأصول الواضحة البسيطة لهذا الدين؛ إنما يقومان على الغرض والهوى ومكايدة المنافسين والمخالفين! عندئذ وجد من ينبز مخالفيه بالكفر لأمور فرعية؛ ووجد من يدفع هذا الاتهام بالتشدد في التحرج والتغليظ على من ينبز غيره بهذه التهمة.. وهذا وذلك غلو سببه تلك الملابسات التاريخية.. أما دين الله فواضح جازم لا تميع فيه ولا تفصيص ولا غلو.. "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل".. ولا بد لقيامه من قبول ما شرع الله وتحقيقه في واقع الحياة.. والكفر: رفض ما شرع الله، والحكم بغير ما أنزل الله، والتحاكم إلى غير شرع الله.. في الصغير وفي الكبير سواء.. أحكام صريحة جازمة بسيطة واضحة.. وكل ما وراءها فهو من صنع تلك الخلافات والتأويلات..
وهذا نموذج من التقريرات الصريحة الواضحة الجازمة من قول الله سبحانه:
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..
ومثله سائر التقريرات الواضحة الجازمة الصريحة التي ترسم حقيقة الإيمان وحدوده في كتاب الله.
لقد نزع الله ملكية الغنيمة ممن يجمعونها في المعركة؛ وردها الى الله والرسول -في أول السورة- ليخلص الأمر كله لله والرسول؛ وليتجرد المجاهدون من كل ملابسة من ملابسات الأرض؛ وليسلموا أمرهم كله -أوله وآخره- لله ربهم وللرسول قائدهم؛ وليخوضوا المعركة لله وفي سبيل الله، وتحت راية الله، طاعة لله؛ يحكمونه في أرواحهم، ويحكمونه في أموالهم ويحكمونه في أمرهم كله بلا تعقيب ولا اعتراض.. فهذا هو الايمان.. كما قال لهم في مطلع السورة وهو ينتزع منهم ملكية الغنيمة ويردها إلى الله ورسوله: (يسألونك عن الأنفال. قل الأنفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله.. إن كنتم مؤمنين)
حتى إذا استسلموا لأمر الله، وارتضوا حكمه ذاك، فاستقر فيهم مدلول الإيمان.. عاد ليرد عليهم أربعة أخماس الغنيمة، ويستبقي الخمس على الأصل -لله والرسول- يتصرف فيه رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، وينفق منه على من يعولهم في الجماعة المسلمة من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. عاد ليرد عليهم الأخماس الأربعة، وقد استقر في نفوسهم أنهم لا يملكونها ابتداء بحق الغزو والفتح، فهم إنما يغزون لله ويفتحون لدين الله؛ إنما هم يستحقونها بمنح الله لهم إياها؛ كما أنه هو الذي يمنحهم النصر من عنده؛ ويدبر أمر المعركة وأمرهم كله.. وعاد كذلك ليذكرهم بأن الاستسلام لهذا الأمر الجديد هو الإيمان.. هو شرط الإيمان، وهو مقتضى الإيمان..
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان..
وهكذا تتواتر النصوص، لتقرر أصلا واضحاً جازماً من أصول هذا الدين في اعتبار مدلول الإيمان وحقيقته وشرطه ومقتضاه.
ثم نقف أمام وصف الله -سبحانه- لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (عبدنا) في هذا الموضع الذي يرد إليه فيه أمر الغنائم كلها ابتداء، وأمر الخمس المتبقي أخيراً:
(إن كنتم آمنتم بالله، وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..
إنه وصف موحٍ.. إن العبودية لله هي حقيقة الإيمان؛ وهي في الوقت ذاته أعلى مقام للإنسان يبلغ إليه بتكريم الله له؛ فهي تجلى وتذكر في المقام الذي يوكل فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ عن الله، كما يوكل إليه فيه التصرف فيما خوله الله.
وإنه لكذلك في واقع الحياة! إنه لكذلك مقام كريم.. أكرم مقام يرتفع إليه الإنسان..
إن العبودية لله وحده هي العاصم من العبودية للهوى، والعاصم من العبودية للعباد.. وما يرتفع الإنسان إلى أعلى مقام مقدر له، إلا حين يعتصم من العبودية لهواه كما يعتصم من العبودية لسواه.
إن الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله وحده، يقعون من فورهم ضحايا لأحط العبوديات الأخرى. يقعون من فورهم عبيداً لهواهم وشهواتهم ونزواتهم ودفعاتهم؛ فيفقدون من فورهم إرادتهم الضابطة التي خص الله بها نوع" الإنسان "من بين سائر الأنواع؛ وينحدرون في سلم الدواب فإذا هم شر الدواب، وإذا هم كالأنعام بل هم أضل، وإذا هم أسفل سافلين بعد أن كانوا -كما خلقهم الله- في أحسن تقويم.
كذلك يقع الذين يستنكفون أن يكونوا عبيداً لله في شر العبوديات الأخرى وأحطها.. يقعون في عبودية العبيد من أمثالهم، يصرفون حياتهم وفق هواهم، ووفق ما يبدو لهم من نظريات واتجاهات قصيرة النظر، مشوبة بحب الاستعلاء، كما هي مشوبة بالجهل والنقص والهوى!
ويقعون في عبودية" الحتميات "التي يقال لهم: إنه لا قبل لهم بها، وإنه لا بد من أن يخضعوا لها ولا يناقشوها.." حتمية التاريخ".. و "حتمية الاقتصاد".. و" حتمية التطور "وسائر الحتميات المادية التي تمرغ جبين" الإنسان "في الرغام وهو لا يملك أن يرفعه، ولا أن يناقش -في عبوديته البائسة الذليلة- هذه الحتميات الجبارة المذلة المخيفة!
ثم نقف كذلك أمام وصف الله -سبحانه- ليوم بدر بأنه يوم الفرقان:
(إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان)..
لقد كانت غزوة بدر -التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده- فرقاناً.. فرقاناً بين الحق والباطل -كما يقول المفسرون إجمالاً- وفرقاناً بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيراً..
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأشياء والأحياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله: سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك؛ ويغشي على ذلك الحق الأصيل؛ ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء، وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!.. فهذا هو الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر؛ حيث فرق بين ذلك الحق الكبير وهذا الباطل الطاغي؛ وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان!
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية؛ وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات...
وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك.. فرقانا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات... وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره ولا متسلط سواه ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه.. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله؛ وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه؛ وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة..
وكانت فرقانا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار. وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورا جديدا للحياة، ومنهجا جديدا للوجود الإنساني، ونظاما جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة.. بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير" الإنسان "في" الأرض "بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته.. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه، تتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم. ولم يكن له بد أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد، والمنهج الجديد، والدولة الجديدة، والمجتمع الجديد، في واقع الحياة؛ وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تكبتها وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً؛ ثم في حياة البشرية كلها أخيراً.. وهي لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله..
وكانت فرقاناً بين عهدين في تاريخ البشرية.. فالبشرية بمجموعها قبل قيام النظام الإسلامي هي غير البشرية بمجموعها بعد قيام هذا النظام.. هذا التصور الجديد الذي انبثق منه هذا النظام. وهذا النظام الجديد الذي انبثق من هذا التصور. وهذا المجتمع الوليد الذي يمثل ميلاداً جديداً للإنسان. وهذه القيم التي تقوم عليها الحياة كلها ويقوم عليها النظام الاجتماعي والتشريع القانوني سواء.. هذا كله لم يعد ملكاً للمسلمين وحدهم منذ غزوة بدر وتوكيد وجود المجتمع الجديد. إنما صار -شيئا ًفشيئا- ملكاً للبشرية كلها؛ تأثرت به سواءفي دار الإسلام أم في خارجها، سواء بصداقة الإسلام أم بعداوته!.. والصليبيون الذين زحفوا من الغرب، ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه في ربوعه، قد تأثروا بتقاليد هذا المجتمع الإسلامي الذي جاءوا ليحطموه؛ وعادوا إلى بلادهم ليحطموا النظام الإقطاعي الذي كان سائدا عندهم، بعد ما شاهدوا بقايا النظام الاجتماعي الإسلامي! والتتار الذين زحفوا من الشرق ليحاربوا الإسلام ويقضوا عليه -بإيحاء من اليهود والصليبيين من أهل دار الإسلام!- قد تأثروا بالعقيدة الإسلامية في النهاية؛ وحملوها لينشروها في رقعة من الأرض جديدة؛ وليقيموا عليها خلافة ظلت من القرن الخامس عشر إلى القرن العشرين في قلب أوربا!.. وعلى أية حال فالتاريخ البشري كله -منذ وقعة بدر- متأثر بهذا الفرقان في أرض الإسلام، أو في الأرض التي تناهض الإسلام على السواء.
وكانت فرقاناً بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة. فجرت وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين؛ وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة، حتى لقال المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غر هؤلاء دينهم).. وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو -وهي المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة- لتكون فرقاناً بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة؛ ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد؛ فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد؛ وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية، لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة؛ وأن هذا ليس كلاماً يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر. ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى في أوائل هذه السورة:
(وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون).
لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان [غير ذات الشوكة] وأن يلاقوا نفير أبي جهل [ذات الشوكة] وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر؛ ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة! وقال لهم الله -سبحانه- إنه صنع هذا:
وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة.. إن الحق لا يحق، وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان" النظري "للحق والباطل. ولا بمجرد الاعتقاد" النظري "بأن هذا حق وهذا باطل.. إن الحق لا يحق ولا يوجد في واقع الناس؛ وإن الباطل لا يبطل ولا يذهب من دنيا الناس. إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد" نظرية "للمعرفة والجدل! أو لمجرد الاعتقاد السلبي!
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة؛ وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبارالذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته -سبحانه -من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق؛ ومن وراء إفلات القافلة [غير ذات الشوكة] ولقاء الفئة ذات الشوكة..
ولقد كان هذا كله فرقاناً في منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم.. وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته؛ حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين!
وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة..
وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء.. مثل لا يجادل فيه مجادل، ولا يماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لا سبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله. وأن الله على كل شيء قدير.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا تعليم الله تعالى بشأن توزيع الغنائم، فالله سبحانه وتعالى تعهد الحرب من وقت الإعداد لها إلى الإقدام عليها إلى اللقاء فيها حتى الإنتهاء، ثم علمنا توزيع غنائمها ليكون التوزيع حكما شرعيا نخضع له، فلا نختلف ولا نتأثر، وقسمة الله تعالى هي العادلة وغيرها قسمة باطلة، وقسمة ضيزى لا صلاح فيها، ولا خير.ثانيهما أن هذه الغنائم ليست سلبا ولا نهبا، كما ادعى بعض الكذابين من كتاب الفرنجة، إنما هي مغانم النصر، ومغارم الاعتداء، وإنما حرب المسلمين للمعتدين رد لاعتدائهم، وسلوا جيوش أوروبا فإنها لا تكتفي بما يؤخذ من أموال المغلوب نتيجة للغلب، بل إنها بعد الصلح تأخذ كل ما تغنم، وتفرض عليه ما أنفقته في الحرب، وأنى هذا من عدل الإسلام الذي لا يفرض أن ثمة مجرمي حرب، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.وإن هذا يدل على أكمل التعاون؛ لأن خمس الله ورسوله لسد حاجة بيت المال، ولإعانة الضعفاء.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذا الخمس العام المردود على ذوي الحاجات من المسلمين هو الذي يطلق عليه كتاب الله هنا {خمس الله والرسول} كما يطلق في عرف الشرع على أي نوع من أنواع الحقوق العامة اسم "حق الله "وإن كان مآل ذلك الحق إلى عموم الناس. فقد جاءت السنة النبوية الكريمة ببعض التفصيل والتفضيل، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فاضل بين الفارس والراجل من المجاهدين، فأعطى للراجل سهما واحدا، وأعطى للفارس سهمين اثنين. قال أبو بكر "ابن العربي ":"وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة "- أي بالنسبة للفارس – "فجعل الله التقدير في الغنيمة بقدر العناء في أخذها، حكمة منه سبحانه فيها
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ونستنتج ممّا ذكرناه آنفاً ما يلي: إنّ آية الغنائم ذات معنى واسع يشمل كل فائدة وربح، لأن معنى الغنيمة اللغوي عام ولا دليل على تخصيص الآية. والشيء الوحيد الذي استند إليه جماعة من مفسّري أهل السنة، هو أنّ الآيات السابقة والآيات اللاحقة لهذه الآية تتعلق بالجهاد، وهذا الأمر يكون قرينة على أنّ آية (ما غنمتم) تتعلق بغنائم الحرب...
في حين أنّ أسباب النّزول وسياق الآيات لا يخصص عمومية الآية كما هو معلوم، وبعبارة أجلى: لا مانع من كون مفهوم الآية ذا معنى عام، وأن يكون سبب نزولها هو غنائم الحرب في الوقت ذاته، فهي من مصاديق هذا المفهوم أو الحكم...
الخلاصة، أنّ الآية محل البحث جاءت في سياق آيات الجهاد، إلاّ أنّها تقول: «إنّ أية فائدة أو ربح تحصلون عليه ومنه غنائم الحرب فعليكم أن تعطوا خمسه»...
من مجموع ما قلناه يتّضح أنّ الخمس ليس امتيازا للسّادة، بل هو نوع من الحرمان لحفظ المصالح العامّة ...
... إنّ ذكر سهم على أنّه سهم الله، للتأكيد على أهمية مسألة الخمس وإثباتها، ولتأكيد ولاية الرّسول والقيادة الإِسلامية وحاكمية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً...