نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ مِّنۢ بَعۡدِ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُمۡ إِذَا لَهُم مَّكۡرٞ فِيٓ ءَايَاتِنَاۚ قُلِ ٱللَّهُ أَسۡرَعُ مَكۡرًاۚ إِنَّ رُسُلَنَا يَكۡتُبُونَ مَا تَمۡكُرُونَ} (21)

ولما كان طلبهم لذلك محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم ، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت . فقال تعالى عاطفاً على قوله { قال الكافرون إن{[37781]} هذا لسحر مبين } أوعلى قوله { وإذا مسَّ الإنسان الضر } مبيناً أن رحمته{[37782]} محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان ، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب " إذا " ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا ، لم يختلف حالهم في هذا قط ، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين ؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر . والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور ، وهذا كما وقع في سورة الروم الموافقة لهذه في الدلالة على الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي{[37783]} : { وإذا أذقنا } أي على ما لنا من العظمة { الناس } أي الذين لهم وصف الاضطراب { رحمة } أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق .

ولما كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة{[37784]} ، أدخل الجار فقال : { من بعد ضراء } أي قحط وغيره { مستهم } فاجأوا المكر وهو معنى { إذا لهم مكر } أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها{[37785]} فعل الماكر { في آياتنا } إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام ، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها ، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه ، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها .

ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه : التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ{[37786]} " من " التي هي للابتداء و " إذا " الفجائية ، كان كأنه قيل : أسرعوا جهدهم في المكر ، فقيل : { قل الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة{[37787]} بكل شيء { أسرع مكراً } ومعنى الوصف بالإسرعية{[37788]} أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم{[37789]} مكايدهم - نبه عليه أبو حيان{[37790]} ولما كان المكر إخفاء الكيد ، بين لهم سبحانه{[37791]} {[37792]}أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه{[37793]} وتعالى كبرياءه وسلطانه ، لأنه عالم بالسر وأخفى ، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه ! فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم : { إن رسلنا } أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا { يكتبون } أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب { ما تمكرون* } لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه{[37794]} ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه ، وأما هو سبحانه فإذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم ! وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره ، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله{[37795]} في نحورهم ؛ والمكر : فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه ؛ والسرعة ؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به ، وقد تضمنت{[37796]} الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من{[37797]} تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد{[37798]} بعائد الوبال على الماكر فيها .


[37781]:زيد من ظ والقرآن الكريم سورة 10 آية 2.
[37782]:في ظ: رحمة الله.
[37783]:زيد من ظ.
[37784]:في ظ: النعمة.
[37785]:في ظ: بأفعلها.
[37786]:في ظ: بلفظ.
[37787]:سقط من ظ.
[37788]:من ظ، وفي الأصل: الإسراعية.
[37789]:من ظ، وفي الأصل: تبديرهم ـ كذا.
[37790]:راجع البحر المحيط 5/136.
[37791]:زيد من ظ.
[37792]:تأخر ما بين الرقمين في الأصل عن "فكيف به سبحانه" والترتيب من ظ.
[37793]:تأخر ما بين الرقمين في الأصل عن "فكيف به سبحانه" والترتيب من ظ.
[37794]:في ظ: تفعلونه.
[37795]:من ظ، وفي الأصل: يحمله.
[37796]:في ظ: ضمنت.
[37797]:سقط من ظ.
[37798]:في ظ: وعيد.