نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ} (3)

ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه ؛ لأن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم ، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم ، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ، ثم لا يحكم بينهم ، ولا ينظر في مصالحهم ، علم قطعاً أنه يبعثهم ليحكم بينهم ؛ لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم ، وقد وعد بذلك ، وأرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، فثبت ذلك ثبوتاً لا مرية فيه ، ولا مزيد عليه ، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه ، وأقبل على ما لا يعنيه ، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع ، وجامعة الزواجر والصوادع : { كلا } ، أي ارتدعوا أتم ردع ، وانزجروا أعظم زجر ، عن الاشتغال بما لا يجدي ، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ، ولم تخلقوا لذلك ، إنما خلقتم لأمر عظيم ، فهو الذي يهمكم ، فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم ، فكنتم لاهين ، كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر ، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة ، أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروع وعلل النحو وغيرها ، وترك ما هو أهم منه مما لا عيش له إلا به .

ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالاً وحسرة ، دل على ذلك بقوله استئنافاً : { سوف } أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر { تعلمون * } أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ، ويجر حزنه الفوت ، من عاقبة ذلك ووباله .