نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ} (8)

ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب ، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً ، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال ، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال ، فقال مفخماً بأداة التراخي : { ثم } أي بعد أمور طويلة عظيمة مهولة جداً { لتسئلن } وعزتنا { يومئذ } أي إذ ترون الجحيم { عن النعيم * } أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في الشتاء : هل كان استمتاعكم به على وجه السرف لإرادة الترف ، أو كان لإرادة القوة للنشأة إلى الخير ، فلم يخرج عن السرف ؟ فالمؤمن المطيع يسأل سؤال تشريف ، والعاصي يسأل سؤال توبيخ وتأفيف ، ولام النعيم قد تكون لمطلق الجنس ، وإليه يشير حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ضاف أبا الهيثم ابن التيهان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فأطعمهم بسراً ورطباً ، وسقاهم ماء بارداً ، وبسط لهم بساطاً في ظل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه : ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد " وقد يكون للكمال ، فيكون من أعلام النبوة ، كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها : أي نعيم ، وإنما هما الأسودان : التمر والماء ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، قال : " إن ذلك سيكون " ، له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما ، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً ، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب ، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب ؛ لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه ذلك في زمن السؤال عن لذاذات الجنة العوال الغوال ، فكان خوفه من مطلق السؤال مانعاً له عن التنعم بالمباح ، فكيف بالمكروه ، فكيف ثم كيف بالمحرم ؟ فكيف إذا كان السؤال من ملك تذوب لهيبته الجبال ؟ فكيف إذا كان السؤال على وجه العتاب ؟ فكيف إذا جر إلى العذاب ؟ فتأمل كلام خالقك ما ألطف إشاراته وأجل عباراته ، في نذاراته وبشاراته ، والله أرحم .