نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦٓ أَكۡرِمِي مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰٓ أَن يَنفَعَنَآ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدٗاۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِيلِ ٱلۡأَحَادِيثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِۦ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ} (21)

ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن ، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر : { وقال الذي اشتراه } أي أخذه برغبة عظيمة ، ولو توقفوا عليه{[40918]} غالى في ثمنه { من مصر } أي البلدة المعروفة ، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم ، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً { لامرأته } آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه { أكرمي مثواه } أي موضع مقامه ، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه ، فالمعنى : أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله ، ليرغب في المقام عندنا . ولما كانت كأنها قالت : ما سبب إيصائك لي{[40919]} بهذا دون غيره ؟ استأنف قوله : { عسى أن } أي إن حاله خليق وجدير بأن { ينفعنا } أي وهو على اسم المشتري{[40920]} { أو نتخذه } أي برغبة عظيمة{[40921]} إن رأيناه أهلاً { ولداً } فأنا{[40922]} طامع في ذلك .

ولما أخبر تعالى بمبدأ{[40923]} أمره ، وكان من{[40924]} المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه ، أخبر تعالى بمنتهى أمره ، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال{[40925]} : { وكذلك } أي ومثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة : أهل البدو تارة ، وإكرام مشتريه ومنافسته{[40926]} فيه أخرى { مكنا ليوسف في الأرض } أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل{[40927]} { و } بالنبوة { لنعلمه } بما لنا من العظمة { من تأويل الأحاديث } أي بترجيعها{[40928]} من ظواهرها إلى بواطنها ، فأشار تعالى إلى المشبه{[40929]} به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق ، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه{[40930]} من الملك والتمكين من العدل ، وذكر التعليم ليدل على ملزومه{[40931]} وهو النبوة ، فدل أولاً بالملزوم على اللازم ، وثانياً باللازم على الملزوم ، وهو كقوله تعالى :

{ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة{[40932]} }[ آل عمران :13 ] فهو احتباك أو قريب منه .

ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له{[40933]} التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستعبداً{[40934]} فرداً{[40935]} لا عشيرة له فيها ولا أعوان ، قال تعالى نافياً لهذا العجب : { والله } أي الملك الأعظم { غالب على أمره } أي الأمر{[40936]} الذي يريده ، غلبة{[40937]} ظاهر{[40938]} أمرها لكل من له{[40939]} بصيرة{[40940]} : أمر يعقوب يوسف عليهما الصلاة والسلام أن لا{[40941]} يقص رؤياه حذراً عليه من إخوته ، فغلب{[40942]} أمره سبحانه حتى وقع ما حذره ، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم ، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه{[40943]} واشتهر ، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه ، ثم أرادوا أن يغروا{[40944]} أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم{[40945]} وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم ، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء ، بل هرب منه غاية الهرب ، ثم{[40946]} بذلت جهدها في إذلاله{[40947]} وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته ، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه ، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى{[40948]} أن لا أمر لغيره سبحانه ! { ولكن أكثر الناس } أي الذين هم أهل الاضطراب { لا يعلمون } لعدم التأمل أنه تعالى عالٍ{[40949]} على كل{[40950]} أمر ، وأن الحكم له وحده ، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها ، فهو سبحانه محتجب{[40951]} عنهم بحجاب الأسباب .

ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة :

قال في أواخر السفر الثاني{[40952]} منها{[40953]} : كان يوسف بن يعقوب ابن سبع{[40954]} عشرة سنة ، وكان يرعى الغنم مع إخوته{[40955]} ، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته ، لأنه ولد على كبر سنه ، فاتخذ له قميصاً{[40956]} ذا كمين{[40957]} ، فرأى إخوته أن والدهم أشد حباً له منهم ، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام{[40958]} ، فرأى رؤيا فقصها على إخوته فقال لهم : اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت ، رأيت{[40959]} كأنا نحزم حزماً من الزرع في الزراعة ، {[40960]} فإذا حزمتي{[40961]} قد انتصبت وقامت ، وإذا حزمكم{[40962]} قد أحاطت بها تسجد لها ، قال{[40963]} له إخوته : أترى تملكنا{[40964]} وتتسلط{[40965]} علينا ؟ وازدادوا له بغضاً{[40966]} لرؤياه وكلامه ، فرأى رؤيا أخرى فقال : إني رأيت رؤيا أخرى ، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون لي ، فقصها على أبيه وإخوته ، فزجره أبوه وقال له{[40967]} : ما هذه الرؤيا ؟ هل آتيك{[40968]} أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض ؟ فحسده إخوته ، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل .

وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس{[40969]} فقال إسرائيل ليوسف : هو ذا إخوتك يرعون في نابلس{[40970]} ، هلم أرسلك إليهم ! فقال : هأنذا ! فقال أبوه : انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم ؟ وائتني بالخبر ، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون ، فأتى إلى نابلس{[40971]} ، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال : ما الذي تطلب في الحقل ؟ فقال أطلب إخوتي ، دلني عليهم أين يرعون ؟ قال{[40972]} له الرجل : قد ارتحلوا من هاهنا ، وسمعتهم يقولون : ننطلق إلى دوثان ، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان ، فرأوه من بعيد ، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا{[40973]} بقتله ، فقال بعضهم لبعض : هو ذا حالم الأحلام قد جاء ، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب ، ونقول : قد افترسه سبع خبيث ، فننظر{[40974]} ما يكون من أحلامه ! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال{[40975]} لهم{[40976]} : لا تقتلوا نفساً ، ولا تسفكوا دماً ، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية ، ولا تمدوا أيديكم إليه ، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده{[40977]} إلى أبيه .

فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي لابِسَه ، وأخذوه فطرحوه في الجب{[40978]} فارغاً لا ماء فيه ، فجلسوا يأكلون{[40979]} خبزاً فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة : من الجرش - وكانت إبلهم موقرة{[40980]} سمناً ولبناً وبطماً{[40981]} ، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته : ما متعتنا{[40982]} بقتل أخينا وسفك دمه ؟ تعالوا نبيعه من العرب ، ولا نبسط{[40983]} أيدينا إليه لأنه أخونا : لحمنا ودمنا ، فأطاعه إخوته ، فمر بهم قوم تجار مدينيون ، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهماً ، فأتوا به إلى مصر .

فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف ، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته{[40984]} وقال لهم{[40985]} : أين الغلام ؟ إلى أين أذهب أنا الآن ؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتوداً{[40986]} من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع{[40987]} من أتى به أباهم وقالوا : وجدنا هذا ، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا ؟ فعرفه وقال : القميص قميص ابني ، سبع خبيث افترس{[40988]} ابني يوسف{[40989]} افتراساً ، فحزن على ابنه أياماً كثيرة ، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال : أنزل إلى القبر وأنا حزين على يوسف ، فبكى عليه أبوه . وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى ، وفيه ما يخالف ظاهرة{[40990]} القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم .


[40918]:زيد في مد: على – مع علامة الضرب عليه.
[40919]:زيد من م.
[40920]:في م: المملوك.
[40921]:في ظ: عظيمه.
[40922]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: فا- كذا.
[40923]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: بمدا.
[40924]:زيد ما بين الحاجزين من م ومد.
[40925]:زيد ما بين الحاجزين من م ومد.
[40926]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: مناسته.
[40927]:في ظ: بالعدول.
[40928]:من م ومد، وفي الأصل: ترجيعها، وفي ظ: بتراجيعها.
[40929]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: الشبه.
[40930]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الأزمة- كذا.
[40931]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: مكرومه.
[40932]:سورة 3 آية 13.
[40933]:زيد لاستقامة العبارة.
[40934]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: مستبعدا.
[40935]:من م ومد، وفي الأصل: فديد، وفي ظ: فرد.
[40936]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لأمر.
[40937]:زيد من م ومد.
[40938]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: ظاهرة.
[40939]:سقط من ظ.
[40940]:زيد بعده ف ظ: من.
[40941]:زيد من ظ و م ومد.
[40942]:في ظ: تقلب.
[40943]:سقط من م.
[40944]:ف مد: يغروا.
[40945]:في ظ: لكم.
[40946]:سقط من مد.
[40947]:في ظ: اذاله.
[40948]:سقط من م.
[40949]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: عالي.
[40950]:زيد بعده في ظ: شيء.
[40951]:في ظ: متحجب.
[40952]:وأما التوراة التي نراجعها فهذه القصة فيها مسوقة في الأصحاح السابع والثلاثين من السفر الأول: التكوين.
[40953]:زيد بعده في الأصل و ظ: ما، ولم تكن الزيادة في م ومد فحذفناها.
[40954]:من م ومد والتوراة، وفي الأصل و ظ: تسع.
[40955]:زيد بعده في مد: لأنه ولد على.
[40956]:في التوراة: ملونا.
[40957]:في التوراة: ملونا.
[40958]:من التوراة، وفي الأصول: بالسلم.
[40959]:سقط من مد.
[40960]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: فإذ ليس بني- كذا.
[40961]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: فإذ ليس بني- كذا.
[40962]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: خزبكم.
[40963]:في ظ: قالت.
[40964]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: فتسلط.
[40965]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: فتسلط.
[40966]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بعضا.
[40967]:زيد من م ومد والتوراة.
[40968]:من م، وفي الأصل: أبيك، وفي ظ: أتيتك، وفي مد: أتيك.
[40969]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بابلس، وفي التوراة: شكيم. وهي بلدة بالقرب من نابلس.
[40970]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بابلس، وفي التوراة: شكيم. وهي بلدة بالقرب من نابلس.
[40971]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: بابلس، وفي التوراة: شكيم. وهي بلدة بالقرب من نابلس.
[40972]:في ظ: فقال.
[40973]:زيد من م.
[40974]:من م، وفي الأصل و ظ ومد: فنظر.
[40975]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: قالوا.
[40976]:زيد من ظ و م ومد.
[40977]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: يرد.
[40978]:زد في التوراة: وكان الجب.
[40979]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: ليأكلوا.
[40980]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: موقورة.
[40981]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: بطلما.
[40982]:في م: منفعنا.
[40983]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: لا يبسط.
[40984]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[40985]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[40986]:والعتود من أولاد المعز: ما رعى وقوى واتى عليه حول- لسان العرب (عتد).
[40987]:من م ومد، وفي الأصل: إلى، وسقط من ظ.
[40988]:في م: يوسف ابني وفي مد: ابني يوسف ابني.
[40989]:في م: يوسف ابني وفي مد: ابني يوسف ابني.
[40990]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: ظاهر.