ولما كانت العادة جارية بأن القن يمتهن ، أخبر تعالى أنه أكرمه عن هذه العادة فقال منبهاً على أن شراءه كان بمصر : { وقال الذي اشتراه } أي أخذه برغبة عظيمة ، ولو توقفوا عليه{[40918]} غالى في ثمنه { من مصر } أي البلدة المعروفة ، والتعبير بهذا دون ما هو أخصر منه للتنبيه على أن بيعه ظلم ، وأنه لم يدخل في ملك أحد أصلاً { لامرأته } آمراً لها بإكرامه على أبلغ وجه { أكرمي مثواه } أي موضع مقامه ، وذلك أعظم من الأمر بإكرامه نفسه ، فالمعنى : أكرميه إكراماً عظيماً بحيث يكون ممن يكرم كل ما لابسه لأجله ، ليرغب في المقام عندنا . ولما كانت كأنها قالت : ما سبب إيصائك لي{[40919]} بهذا دون غيره ؟ استأنف قوله : { عسى أن } أي إن حاله خليق وجدير بأن { ينفعنا } أي وهو على اسم المشتري{[40920]} { أو نتخذه } أي برغبة عظيمة{[40921]} إن رأيناه أهلاً { ولداً } فأنا{[40922]} طامع في ذلك .
ولما أخبر تعالى بمبدأ{[40923]} أمره ، وكان من{[40924]} المعلوم أن هذا إنما هو لما مكن له في القلوب مما أوجب توقيره وإجلاله وتعظيمه ، أخبر تعالى بمنتهى أمره ، مشبهاً له بهذا المضمون المعلم به فقال{[40925]} : { وكذلك } أي ومثل ما مكنا ليوسف بتزهيد السيارة : أهل البدو تارة ، وإكرام مشتريه ومنافسته{[40926]} فيه أخرى { مكنا ليوسف في الأرض } أي أرض مصر التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل{[40927]} { و } بالنبوة { لنعلمه } بما لنا من العظمة { من تأويل الأحاديث } أي بترجيعها{[40928]} من ظواهرها إلى بواطنها ، فأشار تعالى إلى المشبه{[40929]} به مع عدم التصريح به لما دل عليه من السياق ، وأثبت التمكين في الأرض ليدل على لازمه{[40930]} من الملك والتمكين من العدل ، وذكر التعليم ليدل على ملزومه{[40931]} وهو النبوة ، فدل أولاً بالملزوم على اللازم ، وثانياً باللازم على الملزوم ، وهو كقوله تعالى :
{ فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة{[40932]} }[ آل عمران :13 ] فهو احتباك أو قريب منه .
ولما كان من أعجب العجب أن من وقع له{[40933]} التمكين من أن يفعل به مثل هذه الأفعال يتمكن من أرض هو فيها مع كونه غريباً مستعبداً{[40934]} فرداً{[40935]} لا عشيرة له فيها ولا أعوان ، قال تعالى نافياً لهذا العجب : { والله } أي الملك الأعظم { غالب على أمره } أي الأمر{[40936]} الذي يريده ، غلبة{[40937]} ظاهر{[40938]} أمرها لكل من له{[40939]} بصيرة{[40940]} : أمر يعقوب يوسف عليهما الصلاة والسلام أن لا{[40941]} يقص رؤياه حذراً عليه من إخوته ، فغلب{[40942]} أمره سبحانه حتى وقع ما حذره ، فأراد إخوته قتله فغلب أمره عليهم ، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه فغلب أمره سبحانه وظهر اسمه{[40943]} واشتهر ، ثم باعوه ليكون مملوكاً فغلب أمره تعالى حتى صار ملكاً وسجدوا بين يديه ، ثم أرادوا أن يغروا{[40944]} أباهم ويطيّبوا قلبه حتى يخلو لهم{[40945]} وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم ، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره سبحانه فعصمه حتى لم يهم بسوء ، بل هرب منه غاية الهرب ، ثم{[40946]} بذلت جهدها في إذلاله{[40947]} وإلقاء التهمة عليه فأبى الله إلا إعزازه وبراءته ، ثم أراد يوسف عليه الصلاة والسلام ذكر الساقي له فغلب أمره سبحانه فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه سبحانه ، وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى{[40948]} أن لا أمر لغيره سبحانه ! { ولكن أكثر الناس } أي الذين هم أهل الاضطراب { لا يعلمون } لعدم التأمل أنه تعالى عالٍ{[40949]} على كل{[40950]} أمر ، وأن الحكم له وحده ، لاشتغالهم بالنظر في الظواهر للأسباب التي يقيمها ، فهو سبحانه محتجب{[40951]} عنهم بحجاب الأسباب .
ذكر ما مضى من قصة يوسف عليه الصلاة والسلام من التوراة :
قال في أواخر السفر الثاني{[40952]} منها{[40953]} : كان يوسف بن يعقوب ابن سبع{[40954]} عشرة سنة ، وكان يرعى الغنم مع إخوته{[40955]} ، وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من حبه إخوته ، لأنه ولد على كبر سنه ، فاتخذ له قميصاً{[40956]} ذا كمين{[40957]} ، فرأى إخوته أن والدهم أشد حباً له منهم ، فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بالسلام{[40958]} ، فرأى رؤيا فقصها على إخوته فقال لهم : اسمعوا هذه الرؤيا التي رأيت ، رأيت{[40959]} كأنا نحزم حزماً من الزرع في الزراعة ، {[40960]} فإذا حزمتي{[40961]} قد انتصبت وقامت ، وإذا حزمكم{[40962]} قد أحاطت بها تسجد لها ، قال{[40963]} له إخوته : أترى تملكنا{[40964]} وتتسلط{[40965]} علينا ؟ وازدادوا له بغضاً{[40966]} لرؤياه وكلامه ، فرأى رؤيا أخرى فقال : إني رأيت رؤيا أخرى ، رأيت كأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون لي ، فقصها على أبيه وإخوته ، فزجره أبوه وقال له{[40967]} : ما هذه الرؤيا ؟ هل آتيك{[40968]} أنا وأمك وإخوتك فنسجد لك على الأرض ؟ فحسده إخوته ، وكان أبوه يحفظ هذه الأقاويل .
وانطلق إخوة يوسف يرعون غنمهم في نابلس{[40969]} فقال إسرائيل ليوسف : هو ذا إخوتك يرعون في نابلس{[40970]} ، هلم أرسلك إليهم ! فقال : هأنذا ! فقال أبوه : انطلق فانظر كيف إخوتك وكيف الغنم ؟ وائتني بالخبر ، فأرسله يعقوب عليه الصلاة والسلام من قاع حبرون ، فأتى إلى نابلس{[40971]} ، فوجده رجل وهو يطوف في الحقل فسأله الرجل وقال : ما الذي تطلب في الحقل ؟ فقال أطلب إخوتي ، دلني عليهم أين يرعون ؟ قال{[40972]} له الرجل : قد ارتحلوا من هاهنا ، وسمعتهم يقولون : ننطلق إلى دوثان ، فتبع يوسف إخوته فوجدهم بدوثان ، فرأوه من بعيد ، ومن قبل أن يقترب إليهم هموا{[40973]} بقتله ، فقال بعضهم لبعض : هو ذا حالم الأحلام قد جاء ، تعالوا نقتله ونطرحه في بعض الجباب ، ونقول : قد افترسه سبع خبيث ، فننظر{[40974]} ما يكون من أحلامه ! فسمع روبيل فأنقذه من أيديهم وقال{[40975]} لهم{[40976]} : لا تقتلوا نفساً ، ولا تسفكوا دماً ، بل ألقوه في هذا الجب الذي في البرية ، ولا تمدوا أيديكم إليه ، وأراد أن ينجيه من أيديهم ويرده{[40977]} إلى أبيه .
فلما أتى يوسف إخوته خلعوا عنه القميص ذا الكمين الذي لابِسَه ، وأخذوه فطرحوه في الجب{[40978]} فارغاً لا ماء فيه ، فجلسوا يأكلون{[40979]} خبزاً فمدوا أبصارهم فرأوا فإذا رفقة من العرب مقبلة من جلعاد - وفي نسخة : من الجرش - وكانت إبلهم موقرة{[40980]} سمناً ولبناً وبطماً{[40981]} ، وكانوا معتمدين إلى مصر فقال يهوذا لإخوته : ما متعتنا{[40982]} بقتل أخينا وسفك دمه ؟ تعالوا نبيعه من العرب ، ولا نبسط{[40983]} أيدينا إليه لأنه أخونا : لحمنا ودمنا ، فأطاعه إخوته ، فمر بهم قوم تجار مدينيون ، فأصعدوا يوسف من الجب وباعوه من الأعراب بعشرين درهماً ، فأتوا به إلى مصر .
فرجع روبيل إلى الجب فإذا ليس فيه يوسف ، فشق ثيابه ورجع إلى إخوته{[40984]} وقال لهم{[40985]} : أين الغلام ؟ إلى أين أذهب أنا الآن ؟ فأخذوا قميص يوسف عليه الصلاة والسلام فذبحوا عتوداً{[40986]} من المعز ولوّثوا القميص بدمه وأرسلوا به مع{[40987]} من أتى به أباهم وقالوا : وجدنا هذا ، أثبته هل هو قميص ابنك أم لا ؟ فعرفه وقال : القميص قميص ابني ، سبع خبيث افترس{[40988]} ابني يوسف{[40989]} افتراساً ، فحزن على ابنه أياماً كثيرة ، فقام جميع بنيه وبناته ليعزوه فأبى أن يقبل العزاء وقال : أنزل إلى القبر وأنا حزين على يوسف ، فبكى عليه أبوه . وباع المدينيون يوسف من قوطيفر الأمير صاحب شرطة فرعون - انتهى ، وفيه ما يخالف ظاهرة{[40990]} القرآن ويمكن تأويله - والله أعلم .