ولما أوضح عظيم حال الكتاب وجليل نعمته به ، أردف ذلك بذكر سعة عفوه وجميل إحسانه إلى عباده ورحمتهم بكتابه مع إسرافهم وقبيح مرتكبهم فقال : { أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين } ولما قدم في الشورى قوله { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً } فأعلم أن ذلك إنما يكون بقدرته وإرادته ، والجاري على هذا أن يسلم الواقع من ذلك ويرضى بما قسم واختار ، عنف تعالى في هذه السورة من اعتدى وزاغ فقال { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم } فكمل الواقع هنا بما تعلق به ، وكذلك قوله تعالى { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } وقوله في الزخرف { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة } إلى آخره - انتهى .
ولما أفهم تكرير هذا التأكيد أنهم يطعنون في علاه ، ويقدحون في بديع حلاه ، فعل من يكرهه ويأباه ، إرادة للإقامة على ما لا يحبه الله ولا يرضاه ، قال منكراً عليهم : { أفنضرب } أي نهملكم فنضرب أن ننحي ونسير مجاوزين { عنكم } خاصة من بين بني إبراهيم عليه الصلاة والسلام { الذكر } أي الوعظ المستلزم للشرف { صفحاً } أي بحيث يكون حالنا معكم حال المعرض المجانب بصفحة عنقه ، فلا نرسل إليكم رسولاً ، ولا ننزل معه كتاباً فهو مفعول له أي نضرب لأجل إعراضنا عنكم ، أو يكون ظرفاً بمعنى جانباً أي نضربه عنكم جانباً ، قال الجامع بين العباب والمحكم : أضربت عن الشيء : كففت وأعرضت ، وضرب عنه الذكر وأضرب عنه : صرفه ، وقال الإمام عبد الحق في الواعي : والأصل في ضرب عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابته فأراد أن يصرفه عن جهته ضربه بعصاه ليعدله عن جهته إلى الجهة التي يريدها ، فوضع الضرب في موضع الصرف والعدل ، قال الهروي : قال الأزهري : يقال : ضربت عنه وأضربت بمعنىّ واحد ، ونقل النواوي عنه أنه قال : إن المجرد قليل ، فالحاصل أن الضرب إيقاع شيء على آخر بقوة ، فمجرده متعد إلى واحد ، فإن عدي إلى آخر ب " عن " ضمن معنى الصرف ، وإذا زيدت همزة النقل فقيل : أضربت عنه ، أفادت الهمزة قصر الفعل ، وأفهمت إزالة الضرب ، فمعنى الآية : أفنضرب صارفين عنكم الذكر صفحاً ، أي معرضين إعراضاً شديداً حتى كأنا ضربنا الذكر لينصرف عنكم معرضاً كإعراض من ولى إلى صفحة عنقه ، ثم علل إرادتهم هذا الإعراض بما يقتضي الإقبال بعذاب أو متاب فقال : { أنْ } أي أنفعل ذلك لأن { كنتم قوماً مسرفين } أي لأجل أن كان الإسراف جبلة لكم وخلقاً راسخاً ، وكنتم قادرين على القيام به في تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والقدح فيما يأتي به والاستهزاء بأمره بترككم خشية من شدتكم أو رجاء من غير تذكير لتوبتكم وقد جعل حينئذ المقتضى مانعاً ، فإن المسرف أجدر بالتذكير وأحوج إلى الوعظ ، هذا إن كان مقرباً ، وأما البعيد فإنه لا يلتفت إليه من أول الأمر ، بل لو أراد القرب طرد ، وعلى قراءة نافع وحمزة والكسائي بكسر " إن " على كونها شرطية يكون الكلام مسبوقاً على غاية ما يكون من الإنصاف ، فيكون المعنى : أنترككم مهملين فننحي عنكم الذكر والحال أنكم قوم يمكن أن تكونوا متصفين بالإسراف ، يعني أن المسرف أهل لأن يوعظ ويكلم بما يرده عن الإسراف ، وأنتم وإن ادعيتم أنكم مصلحون لا تقدرون أن تدفعوا عنكم إمكان الإسراف فكيف يدفع عنكم إنزال الذكر الواعظ وأنتم بحيث يمكن أن تكونوا مسرفين فتحتاجوا إليه - هذا ما لا يفعله حكيم في عباده ، بل هو سبحانه للطفه وزيادة بره لا يترك دعاء عباده إلى رحمته وإن كانوا مسرفين قد أمعنوا في الشراد ، والجحد والعناد ، فيدعوهم بأبلغ الحجة ، وهو هذا القرآن الذي هو أشرف الكتاب على لسان هذا النبي الذي هو أعظم الرسل ليهتدي من قدرت هدايته وتقوم الحجة على غيره .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.