التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ لَّيْسَ الْبِرَّ [ 1 ] أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ [ 2 ] ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [ 3 ] وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء [ 4 ] وَحِينَ الْبَأْسِ [ 5 ] أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ { 177 } }

[ 1 ] البرّ : قرئت بفتح الباء وقرئت ( البار ) أيضا ، وقدّروا وراء البرّ الثانية محذوفا بحيث تكون الجملة «ولكن البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر » .

[ 2 ] على حبه : على شدة الرغبة فيه والحرص عليه .

[ 3 ] وفي الرقاب : وفي سبيل شراء العبيد وعتقهم أي تحرير الرقاب .

[ 4 ] البأساء والضراء : أوقات الشدة والمصائب والمحن .

[ 5 ] البأس : هنا بمعنى الحرب .

عبارة الآية واضحة ، وهي موجهة إلى السامعين والمرجح الذي تلهمه روحها أن المقصود هم المؤمنون ، لتنبههم إلى أن البرّ ليس في توجيه الوجوه إلى المشرق والمغرب ، ولكنه هو ما ذكرته الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وكتب الله وأنبيائه وإعطاء المال المحبب للنفس للمحتاجين وبنوع خاص لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ولأجل تحرير الرقيق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في المحن والشدائد وفي ميدان الحرب ، فالذين يفعلون ذلك هم الصادقون المتقون .

تعليق على الآية

{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ }

وما فيها من تلقين

ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية . من ذلك ما رواه الطبري عن قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ فأنزل الله الآية . وروى الطبري عن قتادة رواية أخرى تفيد أن اليهود كانوا يصلون قبل المغرب وأن النصارى كانوا يصلّون قبل المشرق فنزلت الآية لبيان حقيقة البرّ . وروى الطبرسي أنه لما حوّلت القبلة أكثر اليهود والنصارى الخوض في ذلك ، وقيل فيما قيل : إن البرّ وطاعة الله هما التوجه في الصلاة فأنزل الله الآية . وروى عن قتادة أيضا أنها نزلت في اليهود خاصة ؛ لأنهم هم الذين أكثروا الخوض في تحويل القبلة . وليس شيء من الروايات من الصحاح . والرواية الأخيرة مع ذلك هي الأكثر وروداً استئناساً بالسياق والله أعلم .

ولما كانت المواضيع التي احتوتها الآيات التالية لهذه الآية مواضيع جديدة غير متصلة بالسياق السابق ، وكان اليهود هم موضوع الكلام في الدرجة الأولى في الفصول السابقة لها باستثناء الآيات [ 153-158 ] التي فيها تثبيت للمؤمنين وموضوع الطواف بين الصفا والمروة ؛ فتكون هذه الآية خاتمة قوية للسياق الطويل الذي بدأ من الآية الأربعين واحتوى حلقات عديدة في صدد مواقف اليهود ضد الدعوة الإسلامية وجحودهم ودسائسهم وربط حاضرهم بغابرهم . وقد استغرق أكثر من ثلث السورة ، وتضمن صور المرحلة الأولى من مراحل الاحتكاك بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في العهد المدني التي كانت قاصرة على الجدال والنقاش والمناظرة والتنديد والإنذار والتي يبدو من خلالها مع ذلك ما بذله اليهود من قوة النشاط المعادي للدعوة الإسلامية في مختلف المجالات وما قصده القرآن من فضح هذا النشاط وإحباطه وهدم المركز القوي الثقافي والديني والسياسي والمالي الذي كان يتمتع به اليهود في الأوساط العربية . ولقد احتوت السور النازلة بعد هذه السورة صوراً مماثلة لصور هذه المرحلة ، ثم صوراً للعداء الخطير الذي انتهى إلى الاشتباكات الحربية حتى أظهر الله نبيه والمؤمنين عليهم وساعدهم على تطهير المدينة منهم . وخضد شوكتهم في القرى الأخرى في نهاية السنة السادسة من العهد المدني على ما سوف نشرحه في المناسبات الآتية .

والآية فصل جامع رائع من جوامع القرآن وروائعه . وقد احتوت تقرير أهداف الدعوة الإسلامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بأسلوب قوي نافذ . ولقد ذكرت هذه الأهداف بأساليب متنوعة في القرآن المكي مما يؤكد الاتساق التام بين القرآن المكي والقرآن المدني . ولقد علقنا عليها في المناسبات العديدة التي ذكرت فيها بما يغني عن التكرار . غير أن في الآية خصوصية جليلة جديرة بالتنويه والتنبيه ، وهي تقريرها كون أهداف الدعوة الحقيقية والجوهرية ليست الأعراض والأشكال والمظاهر ، وإنما هي الصدق في الإيمان والعمل والقيام بالواجب نحو الله ومساعدة المحتاجين على اختلافهم من أقارب وأباعد والوفاء بالعهد والصبر عند المحن والثبات في الجهاد والتضحية بالمال والنفس . وفي هذا ما فيه من قوة حيوية الدعوة وعظمتها ومرشحاتها للعمومية والخلود . وينوه بنوع خاص بخاتمة الآية التي تقرر أن المتصفين بما فيها من صفات هم الصادقون المتقون ، ولقد شرحنا سابقاً مدى التقوى والصدق وما في الآية من صفات مما يماثل ذلك حقا وصدقاً .

ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث في سياق هذه الآية فيها توضيح لبعض عباراتها وتساوق مع تلقيناتها . منها حديث رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود قال : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وآتى المال على حبّه أن تعطيَه وأنت صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » [ روى الشيخان والنسائي هذا الحديث بهذه الصيغة : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى . ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان » التاج ، 2/36 ] . وحديث رواه ابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية » [ روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصبغة : «سألتُ أو سئل النبي عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا الآية » . التاج ، 2/39 ] . وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال : «ليس المسكين هذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه » [ روى مؤلف التاج هذا الحديث برواية الخمسة إلا الترمذي بهذه الصيغة : «ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس » التاج ، 2/38 ] .