تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

البر

في منتصف سورة البقرة نجد آية جامعة لخصال البر والخير هي قوله تعالى :

{ ليس البر أن تولوا وجوهكم فبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وءاتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون( 177 ) }

المفردات :

البر : كل ما يتقرب به العبد إلى الله من الأيمان والعمل الصالح وكل طاعة وقربة .

قبل المشرق والمغرب : ناحيتهما .

آتى المال : أعطاه .

المسكين : هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته ، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه .

ابن السبيل : هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة .

السائلين : من ألجأتهم الحاجة إلى السؤال وتكفف الناس ، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة ويجب على السائل ألا يتعداها .

وفي الرقاب : أي وفي تحرير الرقاب وعتقها .

وأقام الصلاة : أداها على أقوم وجه وأحسنه .

البأساء : من البؤس وهو الفقر والشدة ،

الضراء : كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل المال .

تمهيد :

تتعلق هذه الآية بتحويل القبلة . وذلك أن المسلمين في مكة كانوا يتوجهون إلى الكعبة في صلاتهم ، فلما هاجر المسلمون إلى المدينة أمرهم الله أن يتجهوا بصلاتهم إلى بيت المقدس ، واستمرت صلاتهم إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا . ثم جاء الأمر الأخير بتوجههم صلاتهم إلى الكعبة .

قال تعالى : { فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } . ( البقرة : 144 ) وقد انطلقت أبواب اليهود تلوم المسلمين وتشككهم في حقيقة دينهم ، وقالوا لهم : إن كان الوجه إلى بيت المقدس باطلا فقد ضاعت صلاتكم طوال هذه الفترة .

وإن كان حقا فالتوجه الجديد إلى المسجد الحرام باطل وصلاتكم إليه ضائعة ، وقد رد الله على اليهود شبهتهم ثم قال : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } . أي صلاتكم إلى بيت المقدس .

وإذا نحن تلمسنا حكمة التوجه إلى بيت المقدس في بداية الهجرة إلى المدينة نجد أن ذلك تم لحكمة تربوية هي تخليص المسلمين من كل نعرة عصبية . ذلك أن العرب كانوا يعظمون البيت الحرام في جاهليتهم ويعدونه عنوان مجدهم القديم .

ولما كان الإسلام يريد استخلاص القلوب لله وتجريدها من التعلق بغيره ، وتخليصها من كل نعرة وكل عصبية لغبر المنهج الإسلامي المرتبط بالله مباشرة ، فقد نزع المسلمون من الاتجاه إلى البيت الحرام واختار لهم الاتجاه فترة إلى المسجد الحرام ، ليخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية ، وليظهر من يتبع الرسول اتباعا مخلصا حتى إذا استسلم المسلمون واتجهوا إلى البيت المقدس صدر الأمر الإلهي الكريم بالاتجاه إلى البيت الحرام .

قال تعالى : { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } . ( البقرة : 143 )

التفسير :

توجه الخطاب في هذه الآية لأهل الكتاب ، لأنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة ، حين حولت إلى الكعبة ، فقال الله لهم ما معناه ليس البر في أن تولوا وجوهكم ، في أية ناحية من نواحي الأرض حتى يكون ذلك موضع اهتمامكم ، ومثار فتنتكم للمؤمنين بغير حق .

ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر : يعني ولكن البر الذي يحق الاهتمام بشأنه هو في إيمان من آمن بالله وبالحساب والجزاء في اليوم الآخر وفي إيمان من آمن بالملائكة وبالكتب المنزلة . . .

وقد بين الإمام ابن كثير أن الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين وإلى اليهود : " فإن الله تعالى لما أمر المسلمين بالتوجه إلى البيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة ، شق ذلك ، على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين . فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه .

ولهذا قال : { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر } . الآية .

كما قال في الأضاحي والهدايا : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } .

( الحج : 37 ) .

لقد ضرب الله مثلا بالتوجه إلى المشرق والمغرب ليوضح عدم جدوى التمسك بظاهر الشعائر والطقوس الدينية حيث لا خير في مجرد أداء الشعائر والعبادات الشكلية أو إظهار التقوى والورع ليس بالخير الحقيقي عند الله ولا وزن لذلك في عينه تعالى .

وقد صورت هذه الآية جميع مكارم الأخلاق ، وجمعت بين الإيمان والعمل ، وبين حقوق الله وحقوق العباد ، وبين جهاد النفوس وجهاد الأعداء ، وبين صلاح الأفراد والجماعات .

قال الثوري : " في هذه الآية أنواع البر كلها " .

وصدق فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل إلى عرى الإسلام كلها بمجامع الخير كله .

1-{ من آمن بالله } .

وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى ربا وخالقا ورازقا بيده الخير والأمر ، وهو على كل شيء قدير .

2- { واليوم الآخر } .

والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر وثواب وعقاب ليلقى كل إنسان جزاء عمله .

3- { والملائكة } .

والإيمان بالملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله .

4- { والكتاب } .

والإيمان بالكتاب وهو اسم جني يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها ، وهو القرآن المبين على ما فبله من الكتب .

5- { والنبيين } .

والإيمان بالنبيين هو الإيمان بالرسالات جميعا وبالرسل أجمعين .

6- وآتى المال حلى حبه ذوي القربى .

أي أخرجه وهو محب له راغب فيه ولكن غلب جانب الإيثار وضحى بالعاجلة في سبيل الآجلة ، وتحرر من عبودية المال وأنفقه في وجوه الخير على : ذوي القربى . وهم أقرباؤه ، روى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الصدقة على المساكين صدقة ، وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة " ورواه الترمذي وقال حديث حسن .

7- { واليتامى } .

وأنفق المال أيضا عن رغبة وطيب نفس على اليتيم الذي فقد ولده .

8- { والمساكين } .

العاجزين عن الكسب .

9- { وابن السبيل } .

وهو المسافر المنقطع عن ماله ، وهو في حاجة على المساعدة والمعاونة حتى يستطع الوصول إلى بلده ، وفي هذا تنبيه إلى أن المسلمين وإن اختلفت أوطانهم ينبغي أن يكونوا في التعاطف والتعاون على متاعب الحياة كالأسر الواحدة .

10- { والسائلين } .

وفي تحرير الرقاب ، وعتق الأرقاء وتخليص الأسرى من يد العدو بفدائهم . وهذه الأصناف الستة التي ذكري في تلم الجملة الكريمة : وآتى المال على حبه . . . ليس المقصود من ذكرها الاستيعاب والحصر ، ولكنها ذكرت كأمثلة وخصت بالذكر لأنها أحوج من غيرها إلى العون والمساعدة .

ومن ينظر في القرآن الكريم يجده قد عنى عناية كبرى بالفقراء والمساكين ، وجميع أصناف المحتاجين حتى لا تكاد سورة من سوره تخلوا من الحث على الإنفاق عليهم وبذل العون في مساعدتهم ، وأيضا هناك العديد من الأحاديث النبوية في الحض على مد يد العون إلى ذوي القرابة والمعسرين ، وذلك لأن المجتمعات تحيى وتنهض بالتراحم ، وتذل وتشقى بالتقاطع والتدابير بين أبنائها .

ثم ذكرت الآية ألوانا أخرى من البر تدل على قوة الإيمان ، وحسن الخلق فقالت :

12- { وأقام الصلاة } .

أي أداها كاملة الأركان في أوقاتها مخلصا فيها مناجيا ربه ساجدا لخالقه فالصلاة صلة بين المخلوق والخالق ، وهي حصن الأمان وراحة النفس ودليل الإيمان بالله رب العالمين .

13- { وآتى الزكاة }

أي أعطى الزكاة المفروضة في ماله وهي نسبة 3/1 العشر من رأس المال أو 2/1 2% ، وللزكاة أثرها في تكافل المجتمع وترابطه وهي ركن عظيم من أعمال البر ومن ثم أجمع الصحابة على محاربة مانعي الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام ، وينقض أساس الإيمان .

13- { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } .

أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها ، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما أمر به .

ومثل العهود العقود فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة .

وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده ، كما أ الغدر والإخلاف هادم للنظام ، مفسد للعمران .

ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من التطاحن والبلاء .

15- { والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } .

أي الصابرين لدى الفقر والشدة وعند الضر من مرض وفقد أهل أو ولد ومال ، وفي ميادين القتال . والبأساء من البؤس وهي ما يصيب الناس في الأموال كالفقر والاحتياج .

والضراء من الضر وهي ما يصيبهم في أنفسهم كالأمراض والأسقام ، وحين البأس أي ووقت القتال في سبيل الله لإعلاء كلمته .

{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } .

أي هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من المحرزين لخصال البر هم الصادقون في إيمانهم وفي كل أحوالهم ، وأولئك هم المتقون لعذاب الله تعالى بسبب امتثالهم لأوامره .

وقد رسمت هذه الآية الكريمة منهجا متكاملا للحياة الإسلامية واشتملت على خمسة عشر نوعا من أنواع البر الذي يهدي إلى الحياة السعيدة في الدنيا وإلى رضا الله تعالى في الآخرة .

وقد أرشدت إلى أن البر أنواع ثلاثة جامعة لكل خير وبر في العقيدة ، وبر في العمل ، وبر في الخلق .

أما بر العقيدة فقد بينته أكمل بيان في قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولمن البر من آمن بالله والآخر والملائكة والكتاب والنبيين . فقد جمعت في هذه الجملة الكريمة مالا يتم الإيمان إلا بتحقيقه .

وأما بر العمل فقد وضحته أبلغ توضيح في قوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب . ولاشك أن إنفاق المال في تلك الوجوه من شأنه أن يسعد الأفراد والجماعات والأمم .

وأما بر الخلق فقد ذكرته بأحكم عبارة في قوله تعالى : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } .

وذلك لأن التمسك بهذه الفضائل أداء الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود ، والتذرع بالصبر ، يدل على صفاء الإيمان وطهارة الوجدان وحسن الخلق .

وهكذا تجمع آية واحدة من كتاب الله بين بر العقيدة وبر العمل وبر الخلق .

إن سعادة المسلمين تكون في عودتهم إلى دينهم ، وإلى كتاب ربهم وهدى نبيهم : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا . ( الإسراء : 82 ) .

* * *