قوله تعالى : { لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ } : قرأ الجمهور برفع " البر " ، وحمزة وحَفْص عن عاصم بنصبه . فقراءةٌ الجمهور على أنه اسمُ " ليس " ، و " أن تُوَلُّوا " خبرها في تأويلِ مصدرٍ ، أي : ليس البرُّ توليتكم . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ من حيث إنه ولي الفعلُ مرفوعَه قبل منصوبِه . وأمّا قراءةُ حمزةَ وحفص فالبرَّ خبرٌ مقدَّمٌ ، و " أن تُوَلُّوا " اسمها في تأويلِ مصدرٍ . ورُجِّحَتْ هذه القراءةُ بأنّ المصدر المؤولَ أَعْرَفُ من المُحَلّى بالألفِ واللام ، لأنه يُشْبِهُ الضميرَ من حيث إنه لا يُوصَف ولا يُوْصَفُ به ، والأعرفُ ينبغي أن يُجْعَلَ الاسمَ ، وغيرُ الاعرفِ الخبرَ . وتقديمُ خبرِ ليس على اسمِها قليلٌ حتى زَعَم مَنْعَه جماعةٌ ، منهم ابن دَرَسْتَوَيْه قال : لأنها تُشْبه " ما " الحجازية ، ولأنها حرفٌ على قولِ جماعةٍ ، ولكنه محجوجٌ بهذه القراءة المتواترةٍ وبقول الشاعر :
سَلِي إْن جَهِلْتِ الناسَ عَنَّا وعنهم *** وليس سواءً عالِمٌ وجَهُولُ
أليسَ عظيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ *** وليس علينا في الخُطوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحفِ أُبَيّ وعبد الله : " بأن تُوَلُّوا " بزيادةِ الباءِ وهي واضحةٌ ، فإنَّ الباءَ تُزاد في خبرِ " ليس " كثيراً .
وقوله : { قِبَلَ } منصوبٌ على الظرفِ المكاني بقوله " تُوَلُّوا " ، وحقيقةُ قولك : " زيدٌ قِبَلك " : أي في المكانِ الذي قبلك فيه ، وقد يُتَسَّع فيه فيكونُ بمعنى " عند " نحو : " قِبَل زيدٍ دَيْنٌ " أي : عندَه دَيْنٌ .
قوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } في هذهِ الآيةِ خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ " البِرَّ " اسمُ فاعلٍ من بَرَّ يَبَرُّ فهو بِرٌّ ، والأصلُ : بَرِرٌ بكسرِ الراءِ الأولى بزنة " فَطِن " ، فلما أُريد الإِدغام نُقِلَتْ كسرةُ الراءِ إلى الباءِ بعد سَلْبِها حركتَها ، فعلى هذه القراءةِ لا يَحتاج الكلامُ إلى حَذْفٍ وتأويلٍ لأنَّ البِرَّ من صفاتِ الأعيان ، كأنه قيل : ولكن الشخصَ البِرِّ مَنْ آمن . الثاني : أنَّ في الكلامِ حذفَ مضافٍ من الأولِ تقديرُه : " ولكنَّ ذا البِرَّ مَنْ آمن " . الثالث : أن يكونَ الحذفُ من الثاني ، أي : ولكن البِرَّ بِرُّ مَنْ آمن ، وهذا تخريجُ سيبويه واختيارُه ، وإنما اختارَه لأنَّ السابق إنما هو نفيُ كونِ البر هو تَوْلِيَةُ الوجهِ قِبَل المشرقِ والمغربِ ، فالذي يُسْتَدْرك إنما هو من جنس ما يُنْفَى ، ونظيرُ ذلك : " ليس الكرمُ أن تَبْذُلَ درهماً ولكن الكرمَ بَذْلُ الآلاف " ولا يناسِبُ " ولكن الكريم مَنْ يبذُلُ الآلاف " . الرابع : أن يُطْلَقَ المصدرُ على الشخصِ مبالغةً نحو : " رجلٌ عَدْلٌ " . ويُحكى عن المبردِ : " لو كنتُ مِمَّن يقرأُ لقرأتُ : " ولكنَّ البَرَّ " بفتح الباء وإنما قال ذلك لأن " البَرَّ " اسم فاعل تقول : بَرَّ يبَرُّ فهو بارٌّ وبَرٌّ ، فتارةً تأتي به على فاعِل وتارة على فَعِل .
الخامس : أن المصدرَ وقع مَوْقِع اسمِ الفاعلِ نحو : " رجل عَدْل " أي عادل ، كما قد يَقَعُ اسمُ الفاعلِ موقعه نحو : " أقائماً وقد قعد الناس " في قولٍ ، وهذا رأيُ الكوفيين .
والأَوْلَى فيه ادِّعاءُ أنه محذوفٌ من فاعل ، وأن أصلَه بارٌّ ، فجُعل " بِرَّاً " ك " سِرّ " ، وأصلُه : سارٌّ ، وربٌّ أصله رابٌّ . وقد تقدَّم ذلك .
وجَعَلَ الفراء " مَنْ آمَنَ " واقعاً موقِعَ " الإِيمان " فأوقَعَ اسمَ الشخصِ على المعنى كعكسه ، كأنه قال : " ولكنَّ البِرَّ الإِيمانُ بالله " . قال : " والعربُ تَجْعَلُ الاسُم خبراً للفعلِ وأنشد :
لَعَمْرُك ما الفتيانُ أن تَنْبُت اللِّحى *** ولكنما الفتيانُ كلُّ فتىً نَدِي
جَعَلَ نباتَ اللحيةِ خبراً للفتيانِ ، والمعنى : لَعَمْرُكَ ما الفتوةُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحى .
وقرأ نافع وابن عامر : " ولكنْ البِرُّ " هنا وفيما بعد بتخفيف لكن ، وبرفع " البرُّ " ، والباقون بالتشديد وا لنصب ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قولِه :
{ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 102 ] ، وقرىء : " ولكنَّ البارَّ " بالألف وهي تقوِّي أنَّ " البِرَّ " بالكسرِ المرادُ به اسمُ الفاعلِ لا المصدرُ .
وَوَحَّد " الكتابَ " لفظاً والمرادُ به الجمعُ ، وحَسَّن ذلك كونُه مصدراً في الأصلِ ، أو أرادَ به الجنسَ ، أو أراد به القرآنَ ، فإنَّ مَنْ آمنَ به فقد آمَنَ بكلِّ الكتبِ فإنَّه شاهدٌ لها بالصحةِ .
قوله : { عَلَى حُبِّهِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، العاملُ في " آتى " ، أي : آتى المالَ حالَ محبَّتِه له واختياره إياه . والحبُّ مصدرٌ حَبَبْتُ لغةً في أحببت كما تقدَّم ، ويجوزُ أن يكونَ مصدرَ الراعي على حَذْف الزوائد ، ويجوز أن يكونَ اسمَ مصدرٍ وهو الإِحباب كقوله : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والضميرُ المضافُ إليه هذا المصدرُ فيه أربعةُ أقوالٍ . أظهرُها : أنه يعودُ على المالِ لأنه أبلغُ من غيرِه كما ستقف عليه . الثاني : أنه يعودُ على الإِيتاء المفهومِ من قوله : " آتى " أي : على حُبِّ الإِيتاء ، وهذا بعيدٌ من حيث المعنى . أمّا من حيث اللفظُ . فإنَّ عَوْدَ الضميِر على غيرِ مذكورٍ بل مدلولٌ عليه بشيءٍ خلافُ الأصل . وأما من حيث المعنى فإن المدح لا يَحْسُنُ على فعل شيء يحبه الإِنسان لأنَّ هواه يساعده على ذلك وقال زهير :
تَراهُ إذا ما جِئتَه مُتَهَلِّلاً *** كأنَّك تُعْطيه الذي أنت سائلُهُ
والثالث : أن يعودَ على الله تعالى ، وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون المصدرُ مضافاً للمفعولِ ، وعلى هذا فالظاهِرُ أَنَّ فاعلَ هذا المصدرِ هو ضميرُ/ المُؤتي . وقيل : هو ضمير المؤتَوْن . أي : حُبِّهم له واحتياجِهِم إليه ، وليس بذاك .
و " ذي القربى " على هذه الأقوالِ الثلاثةِ منصوبٌ بآتى فقط ، لا بالمصدرِ لأنه قد استوفى مفعولَه . الرابع : أن يعودَ على " مَنْ آمن " ، وهو المُؤْتِي للمال ، فيكون المصدرُ على هذا مضافاً للفاعِلِ ، وعلى هذا فمفعولُ هذا المصدرِ يُحْتمل أن يكونَ محذوفاً ، أي : " حُبِّه المال " ، وأن يكونَ " ذوي القربى " ، إلا أنه لا يكونُ فيه تلك المبالغَةُ التي فيما قبله .
قال ابن عطية : " ويجيء قولُه : " على حُبِّه " اعتراضاً بليغاً في أثناء القولِ " . قال الشيخ : " فإن أراد بالاعتراضِ المصطلحَ عليه فليس بجيد ، فإن ذلك من خصوصياتِ الجملة التي لا مَحَلَّ لها ، وهذا مفردٌ وله محلٌّ ، وإن أراد به الفصلَ بالحال بين المفعولين ، وهما " المال " و " ذوي " فَيَصِحُّ إلا أنه فيه إلباسٌ " .
قوله : { ذَوِي } فيه وجهان ، أحدُهما - وهو الظاهر - أنه مفعولُ بآتى ، وهل هو الأولُ و " المالَ " هو الثاني - كما هو قول الجمهور - وقُدِّم للاهتمام ، أو هو الثاني فلا تقديمَ ولا تأخير كما هو قول السهيلي ؟ والثاني :أنه منصوبٌ ب " حُبِّه " على أنَّ الضميرَ يعودُ على " مَنْ آمن " كما تقدَّم .
قوله : { وَالْيَتَامَى } ظاهرُهُ أنه منصوبٌ عطفاً على " ذوي " . وقال بعضُهم : " هو عطفٌ على " القُرْبى " ، أي : آتى ذوي اليتامى ، أي : أولياءَهم ، لأن الإِيتاءَ إلى اليتامى لا يَصِحُّ " ولا حاجةَ إلى هذا فإن الإِيتاء يَصْدُق وإن لم يباشر مَنْ يؤتيه بالإِيتاء ، يقال : " أتيتُ السلطانَ الخراجَ " وإنما أعطيتُ أعوانَهُ .
و " ابن السبيل " اسمُ جنسٍ أو واحدٌ أُريد [ به ] الجمعُ ، وسُمِّي ابنُ السبيلِ - لملازمتِهِ إياها في السفرِ ، أو لأنَّه تُبْرِزُهُ فكأنها وَلَدَتْهُ .
قوله : { وَفِي الرِّقَابِ } متعلِّقٌ بآتى . وفيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ ضَمَّنَ " آتى " معنى فِعْلٍ يتعدَّى لواحدٍ ، كأنه قال : وَضَع المالَ في الرقاب . والثاني : أن يكونَ مفعولُ " آتى " الثاني محذوفاً ، أي : آتى المالَ أصحابَ الرقاب في فكِّها أو تخليصِها ، فإنَّ المرادَ بهم المكاتَبون أو الأُسارى أو الأرِقَّاءُ يُشْتَرُوْن فيُعْتَقُون . وكلُّ هذه أقوالٌ قيل بها .
قوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } عَطْفٌ على صلةِ " مَنْ " وهي : آمن وآتى ، وإنما قَدَّم الإِيمانَ لأنه رأسُ الأعمالِ الدينيةِ ، وثَنَّى بإيتاء المالِ لأنه أَ جَلُّ شيء عند العرب وبه يَتَمَدَّحُون ويفتخرون بفكِّ العاني وقِرى الضِّيفان ، يَنْطِقُ بذلك نظمُهم ونثرُهم .
قوله : { وَالْمُوفُونَ } في رفعه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : - ولم يذكر الزمخشري غيرَه - أنه عطفٌ على " مَنْ آمن " ، أي : ولكنَّ البِرَّ المؤمنون والموفون . والثاني : أن يَرْتفعَ على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : هم المُوفون . وعلى هذينِ الوجهين فنصْبُ " الصابرين " على المدحِ بإضمارِ فعلٍ ، وهو في المعنى عَطْفٌ على " مَنْ آمن " ، ولكنْ لَمَّا تكرَّرت الصفاتُ خُولف بين وجوه الإِعرابِ .
قال الفارسي : " وهو أبلغُ لأنَّ الكلامَ يَصِيرُ على جملٍ متعددةٍ ، بخلافِ اتفاق الإِعراب فإنه يكونُ جملةً واحدةً ، وليس فيها من المبالغةِ ما في الجملِ المتعددةِ .
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ على هذين الوجهين أن يكونَ معطوفاً على " ذوي القربى " أي : وآتى المالَ الصابرين ؟ قيل : لئلاَّ يلزمَ من ذلك محذورٌ وهو الفصلُ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه الذي هو في حكمِ الصلة بأجنبي وهو الموفون . والثالث : أن يكونَ " الموفون " عطفاً على الضمير المستتر في " آمَنَ " ، ولم يُحْتَجْ إلى التأكيدِ بالضميِر المرفوعِ المنفصلِ لأنَّ طولَ الكلامِ أغنى عن ذلك . وعلى هذا الوجهِ يجوزُ في " الصابرين " وجهان ، أحدُهما : النصبُ بإضمارِ فعلٍ كما تقدَّم ، والثاني : العطفُ على " ذوي القربى " ، ولا يَمْنَعُ من ذلك ما تقدَّم من الفصلِ بالأجنبي ، لأنَّ الموفين على هذا الوجه داخلٌ في الصلةِ فهو بعضُها لا أجنبيٌّ منها .
وقوله : { إِذَا عَاهَدُواْ } " إذا " منصوبٌ بالموفُون ، أي : الموفون وقتَ العهدِ من غيرِ تأخيرِ الوفاءِ عن وقتِهِ .
وقرأ الحسنُ والأعمشُ ويعقوبُ : " والصابرون " ، وحكى الزمخشري قراءَة : " والموفين " و " الصابرين " .
قال الراغب : وإنما لم يَقُلْ : " وأوفى " كما قال " وأقام " لأمرين ، أحدُهما : اللفظُ ، وهو أنَّ الصلةَ متى طالت كان الأحسنُ أن تُعْطَفَ على الموصولِ دون الصلة لئلا تطولَ وَتَقْبُحَ . والثاني : أنه ذكر في الأولِ ما هو داخلٌ في حَيِّز الشريعةِ وغيرُ مستفادٍ إلاَّ منها ، والحكمةُ العقليةُ تقتضي العدالةَ دون الجَوْر ، ولمَّا ذكرَ وفاءَ العهدِ وهو مِمَّا تقضي به العُقولُ المجردةُ صار عطفُهُ على الأولِ أحسنَ ، ولَمَّا كان الصبرُ من وجهٍ مبدَأَ الفضائِلِ ومن وجهٍ جامعاً للفضائلِ إذ لا فضيلَةَ إلا وللصبرِ فيها أثرٌ بليغٌ غَيَّر إعرابَهُ على هذا المَقْصِد " وهذا كلامٌ حَسَنٌ طائِلٌ .
و " حين البأسِ " منصوبٌ بالصابرين ، أي : الذين صَبَروا وقتَ الشدةِ .
والبأساءُ والضراءُ فيهما قولان ، أحدُهما : - وهو المشهورُ - أنهما اسمان مشتقان من البُؤْس والضُرّ ، وألفُهما للتأنيث ، والثاني : أنهما وَصْفان قائمانِ مقام موصوف . والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال : بَئِس يَبْأَس إذا افتقر . قال الشاعر :
ولم يَكُ في بُؤْسٍ إذا بات ليلةً *** يناغي غَزالاً ساجيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
وأما البأسُ فشدةُ القتالِ خاصةً ، بَؤُسَ الرجلُ أي : شَجُع .
قوله : { أولئك الذين صَدَقُوا } مبتدأٌ وخبرٌ ، وأتى بخبر " أولئك " الأولى موصولاً بصلةٍ وهي فعلٌ ماضٍ لتحقُّقِ اتِّصافهم به ، وأنَّ ذلك قد وَقَع منهم واستقرَّ ، وأتى بخبرِ الثانيةِ بموصولٍ صلتُه اسمُ فاعل ليدلَّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدِّداً بل صار كالسَّجِيَّةِ لهم ، وأيضاً فلو أتى به فعلاً ماضياً لَمَا حَسُنَ وقوعُه فاصلةً .