البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

قبل : ظرف مكان ، تقول : زيد قبلك .

وشرح المعنى : أنه في المكان الذي هو مقابلك فيه .

وقد يتسع فيه فيكون بمعنى : العندية المعنوية .

تقول لي : قبل زيد دين .

الرقاب : جمع رقبة ، والرقبة : مؤخر العنق ، واشتقاقها من المراقبة ، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم .

ولهذا المعنى يقال : أعتق الله رقبته ، ولا يقال : أعتق الله عنقه ، لأنها لما سميت رقبة ، كانت كأنها تراقب العذاب .

ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد : رقوب ، لأجل مراعاتها موت ولدها .

قال في المنتخب : وفعال جمع يطرد لفعلة ، سواء كانت اسماً نحو : رقبة ورقاب ، أو صفة نحو : حسنة وحسان ، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته .

البأساء : اسم مشتق من البؤْس ، إلا أنه مؤنث وليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف .

والبؤس والبأساء : الفقر ، يقال منه : بئس الرجل ، إذا افتقر ، قال الشاعر :

ولم يك في بؤس إذا بات ليلة*** يناغي غزالاً ساجي الطرف أكحلا

والبأس : شدة القتال ، ومنه حديث عليّ : كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

ويقال : بؤس الرجل ، أي شجع .

الضراء : من الضر ، فقيل : ليس بصفة ، وقيل : هو صفة أقيمت مقام الموصوف .

وفي الحديث : « وأعوذ بك من ضر أو مضرة » وقال أهل اللغة : الضراء ، بالفتح : ضد النفع ، والضر ، بالضم .

الزمانة .

{ ليسَ البرَّ أن تولوا وجُوهكُم قِبلَ المشرِق والمغرِب } قال قتادة ، والربيع ، ومقاتل ، وعوف الأعرابي : نزلت في اليهود والنصارى ، كانت اليهود تصلي للمغرب والنصارى للمشرق ، ويزعم كل فريق ان البرّ ذلك .

وقال ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، والضحاك ، وسفيان : نزلت في المؤمنين ، سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فدعاه وتلاها عليه .

وقال بعض المفسرين : كان الرجل إذا نطق بالشهادتين وصلى إلى أي ناحية ثم مات وجبت له الجنة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلت الفرائض ، وحدَّت الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة ، أنزلها الله .

وقيل : سبب نزولها إنكار الكفار على المؤمنين تحويلهم عن بيت المقدس إلى الكعبة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنها إن كانت في أهل الكتاب ، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلاً ، وذكر ما أعد لهم ، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلاَّ صلاتهم ، وزعمهم أن ذلك البر ، فردّ عليهم بهذه الآية .

وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين ، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى .

وقرأ حمزة ، وحفص { ليس البر } بنصب الراء ، وقرأ باقي السبعة برفع الراء .

وقال الأعمش في مصحف عبد الله : لا تحسبن البرَّ ، وفي مصحف أبيّ ، وعبد الله أيضاً : ليس البر بأن تولوا ، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس ، وأن تولوا في موضع الاسم ، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي ، وهذه القراءة من وجه أولى ، وهو أن جعل فيها اسم ليس : أن تولوا ، وجعل الخبر البر ، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام ، وقراءة الجمهور أولى من وجه ، وهو : أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل ، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها : بما .

.

أراد الحكم عليها بأنها حرف ، كما لا يجوز توسيط خبر ما ، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبورود ذلك في كلام العرب .

قال الشاعر :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم*** وليس سواء عالم وجهول

وقال الآخر .

أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ*** وليس علينا في الخطوب معوَّلُ

وقرأه : بأن تولوا ، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها .

قال الشاعر :

أليسَ عجيباً بأن الفتى*** يصابُ ببعض الذي في يديه

أدخل الباء على اسم ليس ، وإنما موضعها الخبر ، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة ، وصار معنى الكلام : أعجب بأن الفتى ، ولو قلت : أليس قائماً بزيد لم يجز .

والبرّ اسم جامع للخير ، وتقدم الكلام فيه ، وانتصابُ قبل على الظرف وناصبه تولوا ، والمعنى : أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القِبلة حتى وقع التحويلُ إلى الكعبة .

وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته ، فردّ الله عليهم ، وقيل : ليس البر فيما أنتم عليه ، فإنه منسوخ خارج من البر .

وقيل : ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة .

وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى : { مكاناً شرقياً } واليهود مغربه والآية ردّ على الفريقين .

{ ولكنّ البرَّ منْ آمنَ باللهِ } البرُّ : معنىً من المعاني ، فلا يكون خبره الذوات إلاَّ مجازاً ، فإمّا أن يجعل : البرُّ ، هو نفس من آمن ، على طريق المبالغة ، قاله أبو عبيدة ، والمعنى : ولكنّ البارَّ .

وإمّا أن يكون على حذف من الأول ، أي : ولكنّ ذا البر ، قاله الزجاج .

أو من الثاني أي : برُّ من آمن ، قاله قطرب ، وعلى هذا خرَّجه سيبويه ، قال في كتابه : وقال جل وعز : { ولكنّ البرَّ من آمن } وإنما هو : ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله . انتهى .

وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق ، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى ، ونظير ذلك : ليس الكرم أن تبذل درهماً ، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف ، فلا يناسب : ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله : ليس الكريم بباذل درهم .

وقال المبرد : لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء ، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل ، تقول : بررت أبرّ ، فأنا برّ وبارّ ، قيل : فبنى تارة على فعلٍ ، نحو : كهل ، وصعب ، وتارة على فاعل ، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ ، ومثله : سرٌّ ، وقرّ ، ورَبٌّ ، أي : سارّ ، وقار ، وبارّ ، ورابُّ .

وقال الفراء : من آمن ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل ، كأنه قال : ولكن البر الإيمان بالله ، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد الفراء :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى*** ولكنما الفتيان كل فتى ندب

جعل نبات اللحية خبراً للفتى ، والمعنى : لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ولكن بسكون النون خفيفة ، ورفع البرّ ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ ، والإعراب واضح ، وقد تقدّم نظير القراءتين في { ولكن الشياطين كفروا }

{ واليومِ الآخَرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ } ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحاً بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمنُ بالله وملائكتهِ وكتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والقدر خيره وشره » ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه ، ومضمون الآية : ان البرّ لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور .

أحدها : الإيمان بالله ، وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أمّا اليهود فللتجسم ولقولهم : { عزيرٌ ابن الله } وأمّا النصارى فلقولهم : { المسيحُ ابنُ اللهِ } الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر ، واليهود أخلوا به حيث قالوا : { لنْ تمسنا النارُ إلاَّ أيّاماً } والنصارى أنكروا المعاد الجسماني .

والثالث : الإيمانُ بالملائكة ، واليهود عادوا جبريل .

والرابع : الإيمان بكتب الله ، والنصارى واليهود أنكروا القرآن .

والخامس : الإيمان بالنبيين ، واليهود قتلوهم ، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم .

والسادس : بذل الأموال على وفق أمر الله ، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال .

والسابع : إقامة الصلاة والزكاة ، واليهود يمتنعون منها .

والثامن : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوه .

وهذا النفيُ السابق ، والاستدراك لا يحمل على ظاهرهما ، لأنه نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ، ثم حكم بأن البرّ أمورٌ .

أحدها : الصلاة ، ولا بدَّ فيها من استقبال القبلة ، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البرّ ، لا على نفي أصله ، أي : ليس البر كله هو هذا ، ولكن البر هو ما ذكر ، ويحمل على نفي أصل البرّ ، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثماً وفجوراً ، فلا يعدّ في البر ، أو لأن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى ، وإنما يكون براً مع الإيمان وتلك الشرائط .

وقدم الملائكة والكتب على الرسل ، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلاَّ بواسطة الرسل ، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي ، لأن الملك يوجد أولاً ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي ، لا الترتيب الذهني .

وقدّم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل ، لأن المكلف له مبدأ ، ووسط ، ومنتهى ، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلاَّ بالرسالة ، وهي لا تتم إلاَّ بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، والموحى به : وهو الكتاب ، والموحى إليه : وهو الرسول .

وقدّم الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو : إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح ، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان .

وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان ، حصلت حقيقة الإيمان ، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات ، وتعلق قدرته بكل الممكنات ، وإرادته وكونه سميعاً وبصيراً متكلماً ، وكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم ، من أحكام : المعاد ، والثواب ، والعقاب ، وما يتصل بذلك .

والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة .

والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة .

والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم .

قال الراغب : فإن قيل لم قدّم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله .

{ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } قيل : يجوز ذلك ، مع أن الواو لا تقتضي ترتيباً من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة ، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده ، فأخر ذكره .

ولما ذكر حال المؤمنين ، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة ، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى ، ثم أمر الآخرة ، فقدّم ذكره تنبيهاً على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما .

انتهى كلامه .

.

{ وآتى المال على حبه } إيتاء المال هنا قيل : كان واجباً ، ثم نسخ بالزكاة ، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة .

وقيل : هي الزكاة ، وبين بذلك مصارفها ، وضعف بعطف الزكاة عليه ، فدل على أنه غيرها .

قيل : هي نوافل الصدقات والمبار ، وضعف بقوله آخر الآية { أولئك هم المتقون } وقف التقوى عليه ، ولو كان ندباً لما وقف التقوى ، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب ، فلم يفرد التقوى ، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه ، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك ، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى .

وقيل : هو حق واجب غير الزكاة .

قال الشعبي : إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآية .

وقيل : رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر ، فأمَّا ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق ، فيحمل على الحقوق المقدرة .

أما ما لا يكون مقدراً فغير منسوخ ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة ، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك ، وذلك كله غير مقدّر .

{ على حبه } متعلق { بآتى } وهو حال ، والمعنى : أنه يعطي المال محباً له ، أي : في حال محبته للمال واختياره وإيثاره ، وهذا وصف عظيم ، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه ، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله ، كما جاء : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، والظاهر أن الضمير في { حبه } عائد على المال لأنه أقرب مذكور ، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل ، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي ، كما فسرناه ، وقيل : الفاعل المؤتون ، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم ، وإلى الأول ذهب ابن عباس ، أي : أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره ، فقول ابن الفضل : إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى ، أي : على حب الإيتاء ، بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به ، وعلى أبعد من المال ، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك ، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها ، وقال زهير :

تراه إذا ما جئته متهللاً*** كأنك تعطيه الذي أنت سائله

وقول من أعاده على الله تعالى أبعد ، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب ، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل ، وهو أيضاً بعيد .

قال ابن عطية : ويجيء قوله { على حبه } اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه .

فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك ، لأن شرط ذلك أن تكون جملة ، وأن لا يكون لها محل من الإعراب ، وهذه ليست بجملة ، ولها محل من الإعراب .

وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح ، لكن فيه إلباس ، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول .

{ ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب } أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم ، وهو : من تقرب إليك بولادة ، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم ، كما ذهب إليه قوم ، لأن الحرم حكم شرعي ، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب ، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد .

وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة ، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، في قوله { وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً } فاغنى عن اعادته .

{ ذوي القربى } وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور ، { المال } هو المفعول الثاني .

ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى .

وأما على مذهب السهيلي فإن { المال } عنده هو المفعول الأول ، و { ذوي القربى } وما بعده هو المفعول الثاني ، فأتى التقديم على أصله عنده .

و { اليتامى } معطوف على { ذوي القربى } حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، ومتى فعل ذلك أخطأ ، فإن كان مراهقاً عارفاً بمواقع حقه ، والصدقة تؤكل أو تلبس ، جاز دفعها إليه ، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم ، فيدفع للبالغ ولولِيّ الصغير . انتهى .

ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق : آتيت زيداً مالاً ، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله { وابن السبيل } : الضيف ، قاله قتادة ، وابن جبير ، والضحاك ، ومقاتل ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج ؛ أو المسافر يمرّ عليك من بلد إلى بلد ، قاله مجاهد ، وقتادة أيضاً ، والربيع بن أنس .

وسمي : ابن السبيل بملازمته السبيل ، وهو الطريق ، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء ، ولمن مرت عليه دهور : ابن الليالي والأيام .

وقيل : سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه ، شبه ابرازها له بالولادة ، فأطلقت عليه البنوّة مجازاً والمنقطع في بلد دون بلده ، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة ، قاله أبو حنيفة ، وأحمد ، وابن جرير ، وأبو سليمان الدمشقي ، والقاضي أبو يعلى ؛ أو الذي يريد سفراً ولا يجد نفقة ، قاله الماوردي ، وغيره عن الشافعي .

والسائلين : هم المستطعمون ، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سدِّ خلته ، إذ لا تباح له المسألة إلاَّ عند ذلك .

ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة ، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر ، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة .

{ والرقاب } : هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم ، قاله عليّ وابن عباس ، والحسن ، وابن زيد ، والشافعي .

أو : عبيد يشترون ويعتقون ، قاله مجاهد ، ومالك ، وأبو عبيد ، وأبو ثور .

وروي عن أحمد القولان السابقان .

أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر ؛ وقيل : هؤلاء الأصناف الثلاثة ، وهو الظاهر .

فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا ، فقيل : لا يجوز إلاَّ في إعانة المكاتبين ، وقيل : يجوز في ذلك ، وفيمن يشتريه فيعتقه .

وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران ، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديماً ، الأَوْلى فالأَوْلى ، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها ، ولذلك يستحق بها الإرث ، فلذلك قدّم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره ، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله ، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم ذكره .

قال الراغب : اختير هذا الترتيب لما كان أَوْلى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه ، فكان تقديمه أولى ، ثم عقبه باليتامى ، والناس في المكاسب ثلاثة : معيل غير معول ، ومعول معيل ، ومعول غير معيل .

واليتيم : معول غير معيل ، فمواساته بعد الأقارب أولى .

ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضراً ولا غائباً ، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب ، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب ، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقراً ممن قدم ذكره عليه .

انتهى كلامه .

وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة ، فإنه يجب صرف المال إليها .

وقال مالك : يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، واختلفوا في اليتيم : هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنياً ؟ أو لا يعطى حتى يكون فقيراً ؟ قولان لأهل العلم .

{ وأقام الصلاة وآتى الزكاة } : تقدّم الكلام على نظير هاتين الجملتين ، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيداً ، وإلاَّ فقد تقدّمت الأقاويل فيه إذا لم يُرَدْ به الزكاة ، هذا هو الظاهر ، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا والإيتاء ، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة ، وهو أن الصلاة أفضل العبادات البدنية ، وتكرر في كل يوم وليلة ، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة ، فلذلك قدمت .

وعطف قوله : { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } على صلة من ، وصلة من آمن وآتى ، وتقدمت صلة من التي هي : آمن ، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها ، وهو رأس الأعمال الدينية ، وهو المطلوب الأول .

وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه ، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب ، ومن مناقبها الجلية ، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة ، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسيئين لهم ، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة ، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي :

فمالي أراني وابن عمي مالكاً*** متى أدنُ منه ينأَ عني ويبعد

ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها :

يعاتبني في الدِّين قومي وإنما*** ديوني في أشياء تكسبهم حمداً

ومنها :

لهم جل مالي أن تتابع لي غنى*** وإن قل مالي لم أكلفهم رِفداً

وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم ، وفي ذلك يقول بعضهم :

إذا بعض السنين تعرَّقتنا*** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم

ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الأضياف والمسافرين ، كما قال زهير بن أبي سلمى :

على مكثريهم رزق من يعتريهم*** وعند المقلين السماحة والبذل

وقال المقنع

وإني لعبد الضعف ما دام نازلاً***

وقال آخر

ورب ضيفٍ طرق الحيَّ سُرى*** صادف زاداً وحديثاً ما اشتهى

وقال مرة بن محكان :

لا تعذليني على إتيان مكرمة*** ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهباً

في عقر نابٍ ولا مالٌ أجود به*** والحمد خير لمن ينتابه عقبا

وقال إياس بن الارت :

وإني لقوّال لعافيّ : مرحبا*** وللطالب المعروف : إنك واجدُه

وإني لما أبسط الكف بالند*** إذا شنجت كف البخيل وساعدُه

فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن ، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة ، يحرص عليها بذلك ، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين ، وإيتاء السبيل على سبيل المكرمة ، فَلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه .

{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } : والموفون معطوف على من آمن ، وقيل : رفعه على إضمار ، وهم الموفون ، والعامل في : إذا ، الموفون ، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وفي مصحف عبد الله : والموفين ، نصباً على المدح .

وقرأ الجحدري ، بعهودهم على الجمع .

{ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس } : انتصب : والصابرين على المدح ، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم ، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو .

وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : والصابرون ، عطفاً على : الموفون ، وقال الفارسي : إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم ، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام ، وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة .

انتهى كلامه .

قال الراغب : وإنما لم يقل : ووفى ، كما قال : وأقام ، لأمرين : أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح ، والثاني : أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة ، وغير مستفاد إلاَّ منها ، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر الوفاء بالعهد ، وهو مما تقضي به العقود المجردة ، صار عطفه على الأول أحسن ، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه جامعاً للفضائل ، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ ، غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد .

انتهى كلامه .

واتفقوا على تفسير قوله { حين البأس } أنه : حالة القتال .

واختلف المفسرون في : البأساء والضراء ، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد ، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك ، وهو قول ابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك .

وقيل : البأساء : القتال ، والضراء : الحصار ، ذكره الماوردي .

وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد ، فذكر أولاً الصبر على الفقر ، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر ، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض .

قال الراغب : استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله ، وهو : البأساء ، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم ، وهو : الضراء في مدافعة مؤذية ، وهو : البأساء .

انتهى كلامه .

وعدّى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلاَّ إذا صار له الفقر والمرض كالظرف ، وأما الفقر وقتاً ما ، أو المرض وقتاً ما ، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قلَّ أن يخلو منه أحد .

وأما القتال فعدّى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم ، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال ، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها ، كالجرم المحسوس ، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها ، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر ، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام ، قال : لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقد تقدم الكلام على ذلك .

{ أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } أشار : بأولئك ، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية ، من الاتصاف بالإيمان وما بعده ، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى ، أي : يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة ، كقوله : { أولئك على هدى من ربهم } والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى : أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقاً لا يتطرق إليه الكذب ، ومنه : « لا يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صادقاً ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا » .

>

ويحتمل أن يراد بالصدق : الصدق في الأحوال ، وهو مقابل الرياء أي : أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة ، بل قصدوا وجه الله تعالى ، وكانوا عند الظن بهم ، كما تقول صدقني الرمح ، أي : وجدته عند اختباره كما اختار وكما اظن به ، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه ، وامتثال طاعته .

وتنوع هنا الخبر عن أولئك ، فأخبر عن أولئك الأول : بالذين صدقوا ، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر ، واخبر عن أولئك الثاني : بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت ، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد ، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً ، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية ، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة .

/خ182