قرأ الجُمْهُور برفع " البِرُّ " وحمزة ، وحفصٌ عن عاصم بنصبه ، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ " لَيْسَ " و " أَنْ تُولُّوا " خبرها في تأويل مصدَرٍ ، أي : ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعه قبْل منصوبه ، وأَمَّا قراءة{[2382]} حمزة وحَفْصٍ ف " البرُّ " خبرٌ مقدَّمٌ ، و " أَنْ تُوَلُّوا " اسمُها في تأويل مصدرٍ ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام ؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير ، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ ؛ ولا يوصف به ، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرَ ؛ وتقديمُ خَبَر " لَيْسَ " على اسمها قليلٌ ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [ منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ{[2383]} ، قال : لأنَّها تشبه " مَا " المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ ، لكنه ]{[2384]} محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبقول الشاعر [ الطويل ]
910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ *** فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ{[2385]}
911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ *** وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ{[2386]}
وفي مصحف أُبَيٍّ{[2387]} ، وعبْد الله " بِأَنْ تُوَلُّوا " بزيادةِ الباء ، وهي واضحة ؛ فإن الباء تزادُ في خبر " لَيْسَ " كثيراً .
الجمهُور على أن " لَيْسَ " فعلٌ{[2388]}وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ : اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال ؛ كقَولك ، " لَسْتُ ، ولَسْنَا ، ولَسْتُمْ " ، و " القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ " ، وهذا منقوضٌ بقوله : " إِنَّنِي ، ولَيْتَنِي ، ولَعَلَّني " .
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور :
الأوَّل : أنَّها لو كانت فعلاً ، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً ؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفي الحالِ ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا : إنه فعْلٌ ماضٍ .
وثانيها : أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ ، فنقول : " لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ " ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً .
وقولُ مَنْ قال : " إن لَيْسَ " داخلٌ على ضمير القصَّة ، والشأن ، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك ، جاز مثلُه في " مَا " .
وثالثها : أَنَّ الحرف " مَا " يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة ، فإنك لَو قُلْتَ : " لَيْسَ زَيْدُ " لم يتمَّ الكلام ، لا بُدَّ أن تقول : " لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً " .
ورابعُها : أن " لَيْسَ " لو كان فعْلاً ، لكان " ما " فعلاً ، وهذا باطلٌ ، فذاك باطلٌ ، بيان الملازمةِ : أن " لَيْسَ " لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ ، وهو الحالُ ، وهذا المعْنَى قائمٌ في " مَا " فيجبُ أن تكونَ " مَا " فعْلاً ، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً ، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى : " لَيْسَ " كلمةٌ جامدةٌ ، وضعت لنَفْي الحالِ ، فأشبهت " مَا " في نفْي الفعليَّة بذلك .
وخامسُها : أنَّك تَصِلُ " مَا " بالأفْعَال الماضيةِ ، فتقولُ : " مَا أَحْسَنَ زَيْداً " ، ولا يجوزُ أنْ تصلَ " مَا " ب " لَيْسَ " فلا تَقُولُ : " مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ " .
وسادسها : أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل .
وأجابَ القَاضِي ، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ " لَيْسَ " قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه ؛ كقولهم : " جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً " .
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولهم : " أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا " .
وعن الثَّالث : أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة .
وعن الرَّابع : أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه .
وعن الخَامِس : أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ : " مَا " للحال و " لَيْسَ " للماضي ، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما .
وعن السَّادس : أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل ، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه ؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر ، وذكَرُوا وجوهاً أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ .
قوله : " قِبَلَ " منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله : " تُوَلُّوا " ، وحقيقةُ قولِكَ : " زَيْدٌ قِبَلَكَ " أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه ، فيكون بمعنى " عِنْدَ " ؛ نحو قولك : " قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ " ، أي " عِنْدَهُ ديْنٌ " .
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه .
اختلفوا : هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ ، أو خاصٌّ ؟ فقال قتادةُ ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان : لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس ، قال تعالى : { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } هذه الطريقة ، { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } .
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك - رضِيَ الله عنهم- : المرادُ مخاطبةُ المؤمنين ، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام .
وقال بعضُهُم : هو خطابٌ للكلّ ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة ، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة ؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين ، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات ، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً ، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتََ وكَيْتَ ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال : ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة ، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها .
قال القفَّال{[2389]} : والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين ، وقالُوا : ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها ؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب ، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق ، فقال الله تعالى : إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُور .
منها : الإيمانُ بالله تعالى ، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك ، فَأَمَّا اليهود ، فلقولهم بالتَّجْسِيم ، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللَّهِ ، وأَمَّا النصارَى ؛ فلقولهم : المَسِيحُ ابْنُ الله ، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل .
وثانيها : الإيمانُ باليَوْم الآخِر ، واليهود أخلُّوا بذلك ، وقالوا :
{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر .
وثالثها : الإيمانُ بالمَلاَئكة ، واليهودُ أخلُّوا بذلك ؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ .
ورابعها : الإيمانُ بكُتُب الله تعالى ، واليهودُ أخلُّوا بذلك ، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه ؛ قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] .
وخامسها : الإيمانُ بِالنَّبيِّين ، واليَهُود أخلُّوا بذلك ؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ ؛ على ما قال تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } [ البقرة : 61 ] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .
وسادسها : بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى ، واليهود أخلُّوا بذلك ؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات ؛ لِطَلَب المَال القَليلِ ؛ قال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
وسابعها : إقَامة الصَّلاة ، وإيتاءُ الزَّكاة ، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها .
وثامنها : الوفَاءُ بالعَهْد ، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد ؛ قال تبارك وتعالى :
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وتاسعها : قوله : { فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ ، واليهودُ أخلُّوا بذلك ؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف ، والجبْنِ ؛ قال تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } [ الحشر : 14 ] .
فإن قيل : نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْبلَةِ بِرّاً ، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُور : أحدُها : الصَّلواتُ ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال ، فيلزَمُ التناقضُ .
فالجوابُ : أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال{[2390]} :
منها : أنَّ قوله تعالى : " لَيْسَ البِرّ " نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله ؛ كأنه قال : " لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا " ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة ، واستقبال القبلة واحِدٌ منها ، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ .
الثاني : أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً ؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك ؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز ؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنه ، وَمَا كَانَ كذلك ، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ .
الثالث : أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً ، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى ، وإنَّما يكون بِرّاً ، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله ، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط ، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ ، إلاَّ إذا أُتِيَ بها مع شَرْطه ، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله .
ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة ، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا ، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ ؛ كأنه تبارك وتعالى قال : " ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّينِ " .
قوله { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } في هذه الآية خَمْسَة أوجه :
أحدها : أن " البِرَّ " اسم فاعل من : بَرَّ يَبَرُّ ، فهو " برُّ " والأصل : " بَرِرٌ " بكسر الراء الأولى بزنة " فطِنٍ " فلمَّا أريد الإدغام ، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها ؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان ؛ كأنه قيل : " وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن " .
الثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : " ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن " ؛ كقوله تعالى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ طه : 132 ] أي : لذي التقوى ؛ وقوله { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] أي : ذوو درجاتٍ ، قاله الزَّجَّاج{[2391]} .
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي : " وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ " وهذا تخريجُ سيبويه{[2392]} ، واختياره ، وإنَّما اختاره ؛ لأنَّ السابق ، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدركُ ، إنَّما هو من جنس ما ينفى ؛ ونظير ذلك : " لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً ، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ " ولا يناسبُ : " ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ " وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام ، كقوله :
{ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ } [ البقرة : 93 ] ، أي : حُبَّ العجل ، ويقولون : الجود حاتم ، والشعر زهير ، والشجاعة عنترة ، [ وقال الشاعر : [ الطويل ]
912 - . . . *** فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ{[2393]}
أي : ذات إقبالٍ ، وذات إدبار .
913 - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ *** خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ{[2394]}
أي : كخلالة أبي مرحب ] ، وهذا اختيار الفرَّاء ، والزَّجَّاج ، وقطرب .
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } ، ثم قال : { كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } [ التوبة : 19 ] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين ، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ ، وفاعلٍ .
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً ؛ نحو : رجل عدل .
ويحكى عن المبرِّد : " لو كنت ممَّن يقرأ القرآن ، لقرأت " وَلَكِنَّ البَرَّ " بفتح الباء " وإنَّما قال ذلك ؛ لأن " البَرَّ " اسم فاعل ، نقول بَرَّ يَبَرُّ ، فهو بَارٌّ ، وَبَرٌّ ، فتارة تأتي به على فاعل ، وتارة على فعل .
الخامس : أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل ، نحو : رجل عدلٌ ، أي : عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه ، نحو : أقائماً ، وقد قعد الناس ؛ في قولٍ ، هذا رأي الكوفيين ، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ ، وأن أصله : بارٌّ ، فجعل " برّاً " ، وأصله ك " سِرٍّ " ، و " رَبٌّ " أصله " رابٌّ " ، وقد تقدم .
وجعل الفراء{[2395]} " مَنْ آمَنَ " واقعاً موقع الإيمان ، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ؛ كأنه قال : " وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ " قال : والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد في ذلك : [ الطويل ]
914 - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى *** وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي{[2396]}
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى .
وقرأ نافعٌ{[2397]} ، وابن عامر : " وَلَكِنِ البِرُّ " هنا وفيما بعد بتخفيف " لَكِنْ " وبرفع " البِرُّ " ، والباقون بالتَّشديد ، والنَّصب ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله : { وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } [ البقرة : 102 ] .
وقرئ{[2398]} : " وَلِكنَّ البَارَّ " بالألف ، وهي تقوِّي أنَّ " البِرَّ " بالكسر المراد به اسم الفاعل ، لا المصدر .
قال أبو عُبَيْدَةَ : " البِرُ " هاهنا بمعنى البَارِّ ، كقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ طه : 132 ] أي : للمتَّقين ، ومنه قوله تعالى : { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] أي : غائراً ، وقالت الخنساء : [ البسيط ]
915 - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ{[2399]} *** . . .
أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال تعالى : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }
ووحَّد الكتاب لفظاً ، والمراد به الجمع ؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد به القرآن ، فإنَّ من آمن به ، فقد آمن بكل الكتب ، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة .
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ
اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً :
أحدها : الإيمانُ بخمسة أشياء :
أولها : الإيمان بالله ، ولا يحصل ذلك إلاَّ بالعلم بذاته المخصوصة ، وبما يجب ، ويجوز ، ويستحيل عليه ، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها ، فيدخل فيه العلم بحدوث{[2400]} العالم ، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالم ، ويدخل فيه العلم بوجوده ، وقدرته ، وبقائه ، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات .
وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، وهذا متفرِّع على الأوَّل ؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات ، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر .
فإن قيل : لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ، ولا إلى العلم بصدق الكتب ، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب ، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل ؟
فالجواب : أنَّ الأمر ، إن كان كذلك في عقولنا ، إلاَّ انَّ الترتيب على العكس ؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً ، ثم يحصل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل ، فالمراعى في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ ، لا الترتيب الذهنيُّ ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته ، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب ، والثَّواب ، والمعاد ، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء ؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم ، وصحَّة شريعتهم ، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به ، إلاَّ دخل تحت هذه الآية .
وتقرير آخر : وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً ، ونهايةً ، ومعرفة المبدأ والنهاية ؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر .
وأمَّا معرفة الوسط ، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة ، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور :
الملك الآتي بالوحي ، ونفس الوحي ، وهو الكتاب ، والموحى إليه ، وهو الرسول - عليه الصلاة والسلام - .
وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح ؛ من إيتاء المال ، والصلاة ، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح .
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله : { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال العامل في " آتى " أي : آتى المال حال محبَّته له ، واختياره إيَّاه ، والحُبُّ : مصدر " حَبَبْتُ " ، لغةً في " أَحْبَبْتُ " ؛ كما تقدَّم ، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد ، ويجوز أن يكون اسم مصدر ، وهو الإحباب ؛ كقوله : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أنه يعود على المال ؛ لأنَّه أبلغ من غيره .
قال ابن عبَّاس ، وابن مسعود : " هو أن تُؤْتيَهُ ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ ، تَأْمُلُ{[2401]} الغِنَى ، وتخشَى الفَقْر ، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ ، قُلْتَ : لِفُلاَنِ كَذَا ، ولِفُلاَنِ كذا " وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى .
أمَّا من حيث اللفظ : رواية أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال : يَا رَسُولَ الله ، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً ؟ قال : " أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ{[2402]} " وذكره .
الثاني : أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى : " آتى " ، أي : على حبِّ الإيتاء ؛ كأنه قيل : يعطي ، ويحبُّ الإعطاء ؛ رغبةً في ثواب الله{[2403]} .
قال شهاب الدِّين{[2404]} : وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى .
أما من حيث اللفظ : فإنَّ عود الضمير على غير مذكور ، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل .
وأمَّا من حيث المعنى : فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان ، لأنَّ هواه يساعده على ذلك .
916 - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً *** كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهْ{[2405]}
الثالث : أن يعود على الله تعالى ، يعني : " يُعْطُون المَال على حُبِّ الله " ؛ وعلى هذه الأقوال الثَّلاثة يكون المصدر مضافاً للمفعول ، وعلى هذا ، فالظاهر أنَّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي ، وقيل : هو ضمير المؤتون ، أي : " حبِّهم له " ، واحتياجهم إليه ، وليس بذلك ، و " ذَوِي القُرْبَى " على هذه الأقوال الثلاثة : منصوبٌ ب " أتى " فقط ، لا بالمصدر ؛ لأنَّه قد استوفى مفعوله .
الرابع : أن يعود على " مَنْ آمَنَ " ، وهو المؤتي للمال ، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل ، وعلى هذا : فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً ، أي : " حُبِّه المَالَ " ، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى ، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله .
قال ابْنُ عَطِيَّة{[2406]} : ويجيء قوله " عَلَى حُبِّهِ " اعتراضاً بليغاً في أثناء القول .
قال أبو حيَّان{[2407]} - رحمه الله - : فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه ، فليس بجيِّد ، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها ، وهذا مفردٌ ، وله محلٌّ ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين ، وهما " المال " ، و " ذَوِي " ، فيصحُّ ، إلا انه فيه إلباسٌ .
اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء ، فقال قومٌ : إنَّها الزكاة ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه ، بقوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } [ البقرة : 177 ] ومن حق المعطوف ، والمعطوف عليه المغايرة ، ثم لا يخلو : إمَّا أن يكون تطوُّعاً : أو واجباً ، ولا جائز أن يكون تطوُّعاً ؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وقف التقوى عليه ، ولو كان تطوُّعاً ، لما وقف التقوى عليه ، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ ، وأنه غير الزكاة ، ففيه أقوال :
أحدها : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة ؛ مثل : إطعام المضطرِّ ؛ ويدل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لاَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً ، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ{[2408]} " .
ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس : " إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة{[2409]} " ثم تلت " وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ " .
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال ، فأدى زكاته ، فهل عليه سواه ؟ فقال : نعم ، يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .
وأيضاً : فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة ، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة .
فإن قيل : الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة .
فالجواب : أنَّه - عليه السَّلام - قال : " في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ{[2410]} " ؛ وقول الرسول أولى ، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة ، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة ، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً ، فغير منسوخ ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب ، والمماليك .
فإن قيل : إذا صحَّ هذا التأويل ، فما الحكمة في هذا التَّرتيب ؟ !
أحدها : أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى ؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره ، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة ، والصَّدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ، ولذلك يستحقُّ بها الإرث ، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة ، حتى لا يتمكَّن من الوصية ، إلا في الثُّلث ، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات ؛ لقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 180 ] .
وإن كانت نسخت عند بعضهم ؛ فلهذه الوجوه ، قدَّم ذوي القربى ، ثم أتبعه باليتامى ؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له ، ولا كاسب ، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم بالمساكين ؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم ، ثم ذكر السَّائلين ، وفي الرقاب ؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم .
وثانيها : أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه{[2411]} أقوى ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ثم{[2412]} على هذا النَّسق .
وثالثها : أن ذا القربى مسكينٌ ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه ؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال ، وتؤذي قلبه ، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير ؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى ، ثم باليتامى ؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، ثم المساكين ؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار .
وأمَّا ابن السَّبيل ، فقد يكون غنيّاً ، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت ، والسَّائل قد يكون غنيّاً ، ويظهر شدَّة الحاجة ، وأخَّر المكاتب ؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديدة .
القول الثاني : أنَّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - عند ذكره الإبل ، قال : " إنَّ فِيهَا حَقّاً ؛ وهو إطراق فحلها ، وإعارة دَلْوها " ، وهذا بعيدٌ ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل ، والسائل والمكاتب .
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ، ثم نسخ بالزَّكاة ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء ، وبين الزكاة .
وقال بعضهم : المراد صدقة التطوُّع .
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله " ذَوِي "
أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول ب " آتى " وهل هو الأول ، و " المَالَ " هو الثاني ؛ كما هو قول الجمهور ، وقدِّم للاهتمام ، أو هو الثاني : فلا تقديم ، ولا تأخير ؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ ؟
والثاني : أنه منصوب ب " حُبِّهِ " ؛ على أن الضمير يعود على " مَنْ آمَنَ " ؛ كما تقدَّم .
فصل في المراد ب " ذَوِي القُرْبَى "
من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة ، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين ، وهو الصحيح ؛ لأنَّهم به أخصُّ ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأبوين ، أو بولادة الجدَّين ، أو أبي الجدَّين ، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم ؛ لأنَّ المحرميَّة حكم شرعيٌّ ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب ، وأن تفاوتوا في القرب والبعد .
قوله " واليَتَامى " : ظاهره أنه منصوب ، عطفاً على ذوي .
وقال بعضهم : هو عطف على " القرْبَى " أي : " آتى ذَوي اليَتَامى " ، أي : أولياءهم ؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز ، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئاً ، ولا حاجة إلى هذا ، فإنَّ الإيتاء يصدق ، وإن لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء ، يقال : " آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ " ، وإنَّما أعطيت أعوانه .
وأيضاً : إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظَّه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ، ويلبس ، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به ، جاز دفعها إليه ، هذا على قول من قال : إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر{[2413]} .
وقال بعضهم : أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير ، وعلى البالغ ؛ لقوله تعالى : { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه ؛ فعلى هذا : إن كان اليتيم بالغاً ، دفع إليه ، وإلاَّ دفع إلى وليه ، والمساكين أهل الحاجة ، وهم ضربان : من يكفُّ عن السؤال ، وهو المراد هاهنا ، ومنهم من يسأل وينبسط ، وهم السائلون ، وإنما فرق بينهما ؛ من حيث يظهر على المساكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله .
وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع ، وسمِّي " ابن السَّبيل " ، أي : الطريق ، لملازمته إيَّاها في السَّفر ، أو لأنَّ الطريق تبرزه ، فكأنها ولدته .
وقيل : هو الضعيف{[2414]} .
من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة ، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " للسَّائِل حَقٌّ ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ " ، وقال تعالى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ } [ الذاريات : 19 ] .
الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّ ، قوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وقد تقدَّم . قوله { وَفِي الرِّقَابِ } متعلِّق ب " آتى " وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون ضمن " آتى " معنى فعل يتعدى لواحد ؛ كأنه قال : وضع المال في الرِّقَاب .
والثاني : أن يكون مفعول " آتى " الثاني محذوفاً ، أي : آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها ، أو تخليصها ؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون ، أو الأسارى ، أو الأرقَّاء يشترون ، فيعتقون ، وكلٌّ قد قيل به .
والرِّقَابُ : جمع " رَقَبَةٍ " ، وهي من مؤخَّر أصل العنق ، واشتقاقها من " المراقبة " ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم ؛ وبهذا المعنى : يقال : " أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ " ، ولا يقال : " أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ " ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً ؛ كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها " رَقُوبٌ " ؛ لأجل مراقبة موت ولدها .
قوله : { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } عطف على صلة " مَنْ " ، وهي : " آمَن ، وآتى " وإنما قدم الإيمان ، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة ، وثنَّى بإيتاء المال ؛ لأنه أجلُّ شيء عند العربَ ، وبه يمتدحون ، ويفتخرون بفكِّ العاني : وقِرَى الضِّيفان ، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم .
قوله { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ . . . } في رفعة ثلاثة أوجه :
أحدها : ذكره الزمخشري : أنه عطف على " مَنْ آمَنَ " أي : ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون .
والثاني : أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون ، وعلى هذين الوجهين : فنصب الصابرين على المدح ؛ بإضمار فعل ، وهو في المعنى عطف على " مَنْ آمَنَ " ، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات ، خولف بين وجوه الإعراب .
قال الفارِسيُّ : وهو أبلغ ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ ، بخلاف اتّفاق الإعراب ؛ فإنه يكون جملةً واحدةً ، وليس فيها من المبالغة ما في الجمل المتعدِّدة .
وقال أبو عبيدة : ومن شأن العرب ، إذا طال الكلام : أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق ؛ كقوله تعالى في سورة النساء : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ] وفي المائدة : { وَالصَّابِئُونَ } [ المائدة : 69 ] وقال الفرَّاء : إنما رفع " المُوفُونَ " ، ونصب " الصَّابِرِينَ " ؛ لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد ، وقالوا فيمن قرأ { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } [ المسد : 3 ] بنصب " حَمَّالَةَ " : إنه نصب على الذَّمِّ .
فإن قيل : لم لا يجوز على هذين الوجهين : أن يكون معطوفاً على ذوي القربى ، أي : وآتى المال الصابرين : قيل : لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ ، وهو " المُوفُونَ " فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة ؛ كقوله : { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] ثم قال " أُوْلَئِكَ " ففصل بين المبتدأ والخبر .
قلنا : لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة .
الثالث : أن يكون " المُوفُون " عطفاً على الضَّمير المستتر في " آمَنَ " ولم يحتج إلى التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل ، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك ؛ وعلى هذا الوجه : يجوز في " الصَّابِرِينَ " وجهان :
أحدهما : النَّصيب ؛ بإضمار فعْلٍ ؛ لما تقدَّم ، قال الخليل{[2415]} : المدح والذمُّ ينصبان على معنى " أَعْني الظريف " وأنكر الفراء ذلك لوجهين :
أحدهما : أنَّ " أَعْنِي " إنما يقع تفسيراً للمجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف .
الثاني : أنه لو صحَّ ما قاله الخليل ، لصحَّ أن يقال : " قَامَ زَيْدٌ أخَاكَ " على معنى " أعني أخاك " ، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً .
والثاني : العطف على ذَوِي القُرْبَى ، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ ، لأن " المُوفُونَ " على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة ، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها .
قوله " إذَا عَاهَدُوا " إذا منصوبٌ ب " المُوفُونَ " ، أي : الموفون وقت العهد ، من غير تأخير الوفاء عن وقته ، وقرأ الجحدريُّ : " بِعُهُودِهِمْ " .
فصل في معنى قوله " بِعَهْدِهِمْ "
أحدهما : هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان ، والقيام بحدوده ، والعمل بطاعته ؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق ، فجحدوا أنبياءه ، وقتلوهم ، وكذَّبوا بكتابه . واعترض القاضي{[2416]} على هذا القول ، وقال : إنَّ قوله تبارك وتعالى : " المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ " صريحٌ في إضافة العهد إليهم ، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله : " إذَا عَاهَدُوا " ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى .
وأجيب : بأنه تعالى ، وإن ألزمهم هذه الأشياء ، لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام ، والتزموه ، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه{[2417]} .
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه .
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى ؛ كاليمين والنَّذر ، وما أشبهه ، أو بينه وبين رسول الله ؛ كالبيعة ؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، أو بينه وبين النَّاس ، وقد يكون ذلك واجباً ، مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم ، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم ، والرَّهن{[2418]} وغيره ، وقد يكون مندوباً ؛ مثل : الوفاء بالعهد في بذل المال ، والإخلاص في المناصرة .
فقوله { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } يتناول كل هذه الأقسام ؛ فلا تقتصر الآية على بعضها ، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون ، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا ، أنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا ، وفَّوا ، وإذا قالوا ، صدقوا ، وإذا ائتمنوا ، أدَّوا .
فصل في بلاغة قوله " والمُوفُونَ " دون " وأَوْفَى "
قال الرَّاغب : وإنَّما لم يقل " وأوْفَى " ؛ كما قال " وأَقَامَ " ؛ لأمرين :
أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصِّلة ، متى طالت ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ، دون الصلة ؛ لئلاَّ يطول ويقبح .
والثاني : أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر وفاء العهد ، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة ، صارعطفه على الأوَّل أحسن ، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه : جامعاً للفضائل ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد ؛ وهذا كلام حسن .
وحكى الزَّمخشريُّ{[2419]} قراءة " والمُوفِينَ " ، " والصَّابِرِينَ " وقرأ الحسن{[2420]} ، والأعمش ، ويعقوب : " وَالمُوفُونَ " ، " والصَّابِرُونَ " .
فصل في الأحكام المستافدة من الآية
قال القرطبيُّ{[2421]} : تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام :
الإيمان بالله وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشَّفاعة ، والجنة ، والنار ، والملائكة ، والرُّسل ، والكتب المنزلة ، وأنَّها حقٌّ من عند الله ؛ كما تقدم ، والنَّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب والمندوب ، وإيصال القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقُّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيل : الضيف ، والسُّؤَّال ، وفكّ الرقاب ، والمحافظة على الصَّلوات ، وإيتاء الزَّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصَّبر في الشَّدائد ، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب .
وقوله { فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ } : قال ابن عبَّاس : يريد الفقر بقوله : " البَأْسَاءِ " ، والمرَضَ بقوله : " وَالضَّرَّاءِ " ، وفيهما قولان :
أحدهما : وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرِّ وألفهما للتأنيث ، فهما اسمان على " فَعْلاَء " ولا " أفْعَل " لهما ؛ لأنَّهما ليسا بنعتين .
والثاني : أنهما وصفان قائمان مقام موصوف ، والبؤس ، والبأْساء : الفقر ؛ يقال بئس يبأس ، إذا افتقر ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
917 - وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً *** يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ{[2422]}
قوله : " وَحِينَ البَأْس " منصوب بالصَّابِرِينَ ، [ أي ] : الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة ، والبأْسُ : شدَّة القتال خاصَّة ، بؤس الرَّجل ، أي : شجع . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد القتال في سبيل الله ، وأصل البأس في اللغة : الشِّدَّة ؛ يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي : لا شدَّة و { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] أي : شديد ، ثم يسمَّى الحرب بأساً ، لما فيه من الشِّدَّة ، والعذاب يسمَّى بأساً ؛ لشدَّته ، قال تبارك وتعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ]
{ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ]
{ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا } [ غافر : 29 ] .
قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوآ } مبتدأ وخبر ، وأتى بخبر " أُولَئِكَ " الأولى موصولاً بصلةٍ ، وهي فعلٌ ماضٍ ؛ لتحقُّق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم ، واستقرَّ ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ ، ليدلَّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدِّداً ، بل صار كالسَّجيَّة لهم ، وأيضاً : فلو أتى به فعلاً ماضياً ، لما حسن وقوه فاصلةً .
قال الواحديُّ{[2423]} - رحمه الله - : إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع ، فمن شرائطِ البِرِّ ، وتمام شَرْط البَارِّ : أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدٍ منها ، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ ، وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائماً بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم{[2424]} : هذه الصفة خاصَّة للأنبياء ؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها .
وقال آخرون : هي عامَّة في جميع المؤمنين{[2425]} ، والله أعلم .