الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } قرأ حمزة وحفص : ليس البرَّ بنصب الرّاء ، وقرأ الباقون : بالرّفع فمن رفع البرّ جعله إسم ليس ، وجعل خبره في قوله { أَن تُوَلُّواْ } تقديره : ليس البرَّ توّليتكم ، وجوهكم ، ومن نصب جعل أن وصلتها في موضع الرّفع على إسم ليس تقديره : ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه . كقوله { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] ، وقوله { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار } [ الحشر : 17 ] .

هارون عن عبد الله وأُبي بن كعب : إنّهما قرئا ليس البرَّ بأن تولوا وجوهكم ، واختلف المفسرون في هذه الآية :

فقال قوم : عنى الله بهذه الآية اليهود والنصّارى ؛ وذلك أنّ اليهود كانت تُصلّي قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنّصارى قبل المشرق ، وزعم كل فريق منهم إنّ البرّ في ذلك ، فأخبر الله إنّ البرّ غير دينهم وعملهم ، ولكنه مابينّه في هذه الآية ، وعلى هذا القول : قتادة والرّبيع ومقاتل بن حيّان وعوف الأعرابي .

وقال الآخرون : المراد بهذه الآية المؤمنون ؛ وذلك أنّ رجلاً سأل النبّي صلى الله عليه وسلم عن البرّ ، فأنزل الله هذه الآية فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرّجل فتلاها عليه .

وقد كان الرّجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا اله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبدهُ ورسوله ، وصلّى الصلاة إلى أيّ ناحية ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنّة ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وحدّد الحدود ، وصرفت القبلة إلى الكعبة . أنزل الله هذه الآية فقال : ليس البرّ كلّه أن تصلّوا وتعملوا غير ذلك . { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } جعل من وهي اسم خبراً للبرّ وهو فعل ولايُقال : البرّ زيد ، واختلفوا في وجه الآية :

فقال بعضهم : لما وقع من في موضع المصدر جعله مضمراً للبرّ . كأنّه قال : ولكن البّر الأيمان بالله ، والعرب تجعل الأسم خبراً للفعل كقولهم : إنّما البر الصادق الذي يصلُ من رحمه ويُخفي صدقته : يريدون صلة الرّحم ، وأخفاء الصّدقة ، وعلى هذا القول الفراء والمفضل بن سلمة وأنشد الفراء :

لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحّى *** ولكنّما الفتيان كل فتى ندي

فجعل نبات اللحية خبراً للفتى .

وقيل : معناه ولكنّ البّر برّ من آمن بالله واستغنى عن النّاس ، كقولهم : الجود حاتم ، والشجاعة عنترة ، والشعر زهير : أي جود حاتم وشجاعة عنترة وشعر زهير ، وتقول : العرب : بنو فلان يطؤهم الطريق ، أي أهل الطريق . قال الله تعالى { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ، وقال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] قال النابغة الجعدي :وكيف نواصل من أصبحت جلالته كأبي مرحب

أي كجلالة أبي مرحب ، وعلى هذا القول قطرب والفراء والزّجاج أيضاً . وقال أبو عبيدة : معناه ولكنّ البار من آمن بالله كقوله { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ طه : 132 ] أي المتقي .

وقيل : معنى ذو البرّ من آمن بالله حكاه الزّجاج . كقوله { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ } [ آل عمران : 163 ] : أي ذو درجات .

قال المبرّد : لو كنت ممن قرأ القرآن لقرأت : لكنَّ البرَّ من آمن بالله بفتح الباء تقول العرب : رجل بر وبار والجمع بررة وابرار ، والبرّ : العطف والأحسان ، والبرَّ أيضاً : الصدق ، والبرَّ هنا الإيمان والتقوى ، وهو المراد في هذه الآية بذلك عليه قوله { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } . { وَالْمَلائِكَة } كلهم . { وَالْكِتَابِ } ( يعني الكتب ) . { وَالنَّبِيِّينَ } أجمع . { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } واختلفوا في هذه الحكاية :

فقال أكثر المفسرين : في حبّه راجعة إلى المال يعني أعطى المال في حال صحّته ومحبّته إياه ونفسه به ، يدلّ عليه قول ابن مسعود في هذه الآية قال : هو أن توصيه وأنت صحيح ، تأمل العيش وتخش الفقر ولا تمهل ، حتّى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ، ورفع هذا الحديث بعضهم .

وقيل : هي عائدة على الله عزّ وجلّ أي حبّ الله سبحانه .

قال الحسين بن أبي الفضل : على حبّ الأيتاء ، وقيل : الهاء راجعة إلى المعطي أي حبّ المعطي . { ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } أهل القرابة . عن أمّ رابح بنت صليح عن سليمان بن عامر عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال : " صدقتك على مسكين صدَقة واحدة وعلى ذي الرّحم إثنتين لأنّها صدقة وصلة " .

الزهري عن حميد بن عبد الرّحمن عن أمّه أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أفضل الصّدقة على ذي الرّحم الكاشح " .

سليمان بن يسار عن ميمونة زوج النبّي صلى الله عليه وسلم قالت : " أعتقت جارية لي فدخلت على النبّي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بعتقها فقال : " آجرك الله أما إنّك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك " . { وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } سمّي المجاز واختلفوا فيه ، فقال أبو جعفر البارقي ومجاهد : يعني المسافر المنقطع عن أهله يمّر عليك .

قتادة : هو الضّيف ينزل بالرجل ، قال : وذكرنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .

وكان يقول : " حقّ الضيافة ثلاث ليال فكل شيء أضافه فهو صدقة " .

وإنّما قيل للمسافر والضيف الّذي يحلّ ويرتحل ابن السبيل لملازمته الطريق كما قيل للرّجل الّذي ( أتت عليه الدهور ) ابن الأيّام واللّيالي ، ولطير الماء : ابن الماء لملازمته إيّاه ، قال ذو الرّمة :

وردت اعتسافاً والثريّا كأنّها *** على قمّة الرأس ابن ماء محلّق { وَالسَّآئِلِينَ } المستطعمين الطّالبين .

عبد الله بن الحسين عن أمّه فاطمة بنت الحسين قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حقّ وإن جاء على فرس " .

مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" هدية الله إلى المؤمن السّائل على بابه " . { وَفِي الرِّقَابِ } يعني المكاتبين قاله أكثر المفسّرين ، وقيل : فداء الاسارى ، وقيل : عتق النّسمة وفكّ الرّقبة . { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } المفروضة . { وَآتَى الزَّكَاةَ } الواجبة . { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } فيما بينهم وبين النّاس إذا وعدوا انجزوا وإذا حلفوا اوفوا ، وإذا قالوا صدقوا وإذا أئتمنوا أدَّوا .

قال الرّبيع بن أنس : فمن أعطى عهد الله ثمّ نقضه فالله سبحانه منتقم منه ، ومن أعطى دمه النبّي صلى الله عليه وسلم ثمّ غدر فالنبّي صلى الله عليه وسلم خصمه يوم القيامة .

وفي وجه ارتفاع الموفّين قولان : قال الفرّاء والأخفش : هو عطف على محل ( من ) في قوله : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } و( من ) في موضع جمع ومحلّه رفع كأنّه قال : ولكن البّر المؤمنون والموفون .

وقيل : رفع على الابتداء والخبر تقديره هُم الموفون ، ثمّ قال : { وَالصَّابِرِينَ } وفي نصبها أربعة أقاويل . قال أبو عبيد : نصب على تطاول الكلام ومن شأن العرب أن تغير الاعراب إذا طال الكلام ( والنسق ) .

وقال الكسائي : نصبه نسقاً على قوله { ذَوِي الْقُرْبَى } الصابرين .

وقال بعضهم : معناه وأعني الصابرين .

وقال الخليل بن أحمد والفرّاء : نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه .

فأمّا المدح فقوله تعالى : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ } [ النساء : 162 ]

وأنشد الكسائي :

وكلّ قوم أطاعوا أمر مرشدهم *** إلاّ نميراً اطاعت أمر غاويها

والطاعنين ولما يطعنوا أحدا *** والقائلين لمن دار يخليها

وأنشد أبو عبيده لحزنق بن عفان :

[ لا يبعدن ] قومي الَّذين هم *** سم العداة وانه الجزل

النازلين بكل معترك *** والطيبين معاقد الأزل

وأما الذّم ، فقوله تعالى { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } [ الأحزاب : 61 ] أخذوا .

وقال عروة بن الوردتسقوني الخمر ثمّ تكفوني *** عداة الله من كذب وزور { فِي الْبَأْسَآءِ } يعني الشدة والفقر { والضَّرَّاءِ } المرض والزمانة وهما إسمان بنيا على فعلاءً ولا أفعل لهما لانهما إسمان وليسا بنعت . { وَحِينَ الْبَأْسِ } وقت القتال : وقال علي ( رضي الله عنه ) : كنّا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا إلى العدّو إذا اشتدّ الحرب . { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ } في دمائهم . { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } روى القاسم : أن أ با ذر سُئل عن الإيمان ؟ فقرأ هذه الآية فقال السائل : انّما سألنا عن الإيمان وتخبرنا عن البّر ، فقال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإيمان فقرأ هذه الآية .

وقال أبو ميسرة : وقرأ هذه الآية ومن عمل بهذه الآية فقد استكمل البرّ .