فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ وَٱلۡكِتَٰبِ وَٱلنَّبِيِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَٰهَدُواْۖ وَٱلصَّـٰبِرِينَ فِي ٱلۡبَأۡسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ} (177)

{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } قيل أن هذه الآية نزلت للرد على اليهود والنصارى لما أكثروا الكلام في شأن القبلة عند تحويل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وقيل أن سبب نزولها ( أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سائل عن الإيمان فتلا هذه الآية حتى فرغ منها ثم سأله أيضا فتلاها ثم سأله فتلاها قال وإذا علمت بحسنة أحبها قلبك ، وإذا علمت بسيئة أبغضها قلبك ) أخرجه ابن أبي حاتم وصححه عن أبي ذر .

قيل أشار سبحانه بذكر المشرق إلى قبلة النصارى لأنهم يستقبلون مطلع الشمس وأشار بذكر المغرب إلى قبلة اليهود لأنهم يستقبلون بيت المقدس ، وهو في جهة الغرب منهم إذ ذاك . وزعم كل طائفة منهم أن البر في ذلك فأخبر الله تعالى أن البر ليس فيما زعموا ولكنه فيما بينه في هذه الآية . وقيل المخاطب هم المسلمون وقيل هو عام لهم ولأهل الكتابين أي ليس البر مقصورا على أمر القبلة .

والبر اسم جامع لكل طاعة وعمل الخير ، ويجوز أن يكون بمعنى البار ويطلق المصدر على اسم الفاعل كثيرا ومنه في التنزيل { إن أصبح ماؤكم غورا } أي غائرا وهذا اختيار أبي عبيدة ، والمشرق جهة شروق الشمس والمغرب جهة غروبها ، وهذا مشكل بما تقدم من أن قبلة اليهود إنما هي بيت المقدس ، وهو بالنسبة إلى المدينة شمالا لا مغرب{[155]} لأن من استقبل بيت المقدس يكون فيها ظهره مقابلا لميزاب الكعبة ووجهه مقابلا لبيت المقدس الذي هو من جهة الشام وكذا بالنسبة لمكة فلم يظهر المراد في هذه الآية ، وقد تنبه أبو السعود لهذا وأجاب عنه بما لا يجدي شيئا فليتأمل فإني لم أر من حقق المقام والله أعلم .

{ ولكن البر } أي لكن ذا البر وقرئ البار أو بر { من آمن بالله } والأخير أوفق وأحسن ، والبر اسم جامع لكل طاعة وأعمال الخير مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها والمراد بالبر هنا الإيمان والتقوى ( والكتاب ) قيل أراد به القرآن وقيل جميع الكتب المنزلة لسياق ما بعده وهو قوله { والنبيين } يعني أجمع ، وإنما خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة لأنه يدخل تحت كل واحد منها أشياء كثيرة مما يلزم المؤمن أن يصدق بها .

{ وآ تى المال على حبه } ضمير حبه راجع إلى المال ، وقيل إلى الإيتاء المدلول عليه بقوله وآتى المال وقيل أنه راجع إلى الله سبحانه أي على حب الله ، والمعنى على الأول أنه أعطى المال وهو يحبه ويشح به ، ومنه قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وعلى الثاني أنه يحب إيتاء المال وتطيب به نفسه ، وعلى الثالث أنه أعطى من تضمنته الآية في حب الله عز وجل لا لغرض آخر ، وهو مثل قوله { ويطعمون الطعام على حبه } .

عن ابن مسعود قال : يعطي وهو صحيح شحيح يأمل العيش ويخاف الفقر ، وأخرج الحاكم عنه مرفوعا مثله ، وعن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الصدقة أعظم قال ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان ) أخرجه الشيخان{[156]} .

{ ذوي القربى } يعني أهل قرابة المعطي وقدم ذوي القربى لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة ) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي في سننه من حديث سلمان ابن عامر الضبي{[157]} وفي الصحيحين وغيرهما من حديث زينب امرأة ابن مسعود أنها سألت رسول الله هل تجزئ عنها من الصدقة النفقة على زوجها وأيتام في حجرها فقال : ( لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة ) وأخرج الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من حديث أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) .

{ واليتامى } أي وهكذا اليتامى المحاويج الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى لعدم قدرتهم على الكس . واليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر { والمساكين } جمع مسكين ، والمسكين الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئا { وابن السبيل } المسافر المنقطع ، وجعل ابنا للسبيل لملازمته له ، وهو اسم جنس أو واحد أريد به الجمع .

{ والسائلين } يعني الطالبين للإحسان المستطعمين ولو كانوا أغنياء ، عن علي ابن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لسائل حق ولو جاء على فرس ) {[158]} ، أخرجه أحمد وأبو داوود ، وعن زيد ابن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس ) أخرجه مالك في الموطأ وعن أم نجيد قالت : قلت يا رسول الله المسكين يقوم على بابي فلم أجد شيئا أعطيه إياه قال ( إن لم تجد إلا ظلفا محرقا فادفعيه إليه في يده ) أخرجه أبو داوود والترمذي وقال حديث صحيح . وفي رواية مالك في الموطأ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( ردوا المسكين ولو بظلف محرق ) .

{ وفي الرقاب } يعني المكاتبين وقيل هو فك النسمة وعتق الرقبة وفداء الأساري أي دفعه في فكها أي لأجله وبسببه { وأقام الصلاة وآتى الزكاة } المفروضة ، فيه دليل على أن الإيتاء المتقدم هو صدقة التطوع لا صدقة الفريضة { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } الله أو الناس ، قيل المراد بالعهد القيام بحدود الله والعمل بطاعته وقيل النذر ونحوه ، وقيل الوفاء بالمواعيد والبر في الحلف وأداء الأمانات { والصابرين في البأساء } الشدة والفقر { والضراء } المرض والزمانة ، والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء ولا فعل لهما لأنهما اسمان وليسا بنعت ونصب والصابرين على المدح وقيل على الاختصاص ولم يعطف على ما قبله لمزيد شرف الصبر وفضيلته . قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح أو الذم وخولف الإعراب في بعضها فذلك تفنن ويسمى قطعا ، لأن غير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع الذكر ومزيد اهتمام بشأنه .

قال الراغب : ولما كان الصبر من وجه مبدأ للفضائل ومن وجه جامعا للفضائل إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ ، غير إعرابه تنبيها على هذا المقصد ، وهذا كلام حسن ، فالآية جامعة لجميع الكمالات الإنسانية وهي صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس .

{ وحين البأس } أي وقت الحرب وشدة القتال في سبيل الله وسمى الحرب بأسا لما فيه من الشدة .

{ أولئك الذين صدقوا } وصفهم بالصدق في أمورهم والوفاء بها وإنهم كانوا جادين في الدين واتباع الحق ، وتحري البر ، حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال ، قال ربيع : صدقوا أي تكلموا بكلام الإيمان فكانت حقيقته العمل ، قال : وكان الحسن يقول هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء .

{ وأولئك هم المتقون } عن الكفر وسائر الرذائل ، وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم ، وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم ، قال الواحدي : إن الواوات في هذه الأوصاف تدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها ، فمن قام بواحد منها لا يستحق الوصف بالبر ، وقيل هذه خاصة الأنبياء ، وا لأول أولى إذ لا دليل على التخصيص .


[155]:إنما يأتي الإشكال على قول من فسر الآية بهذا القول ، أما على قول الآخرين فلا إشكال.
[156]:مسلم/1032 - البخاري /757
[157]:أحمد 4/- 7 , 18, 214 .
[158]:مسند أحمد 1/201