ثم قال تعالى : ( لَّيْسَ البِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ) [ 176 ] .
أي : ليس البر الصلاة وحدها ، ولكن البر الجمع لفعل هذه الخلال( {[5299]} ) المذكورة بعده .
قال ابن عباس : " هذا حين نزلت الفرائض وحدت الحدود " ( {[5300]} ) . وقاله الضحاك وغيره( {[5301]} ) . وهو اختيار الطبري ، وهو قول الربيع بن أنس( {[5302]} ) .
وقال قتادة : " كانت اليهود/تصلي قبل المغرب ، والنصارى تصلي قبل المشرق ، فأعلموا أن البر ليس هو كله ما يصنعون ، ولكن البر عمل هذه الخصال التي بيّنها بعد " ( {[5303]} ) .
وقد( {[5304]} ) قيل : إن هذه الآية خصوص في الأنبياء وحدهم صلوات الله عليهم ، لأن هذه الأشياء التي وصفت في الآية لا يؤديها بكلتيها( {[5305]} ) على حق الواجب فيها إلا الأنبياء صلوات الله( {[5306]} ) عليهم ، ولكن الله قد أمر جميع الخلق بالعمل بجميع ما فيها( {[5307]} ) .
وقوله : ( وَءَاتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ) [ 176 ] .
أي : على محبته إياه وشحه عليه .
فالهاء في " حبه " تعود على المؤمن ، أي : على حبه إياه ، يعني المال( {[5308]} ) . وقيل : هي راجعة على المال ، أي : على حب الرجل المال . فأضيف الحب إلى المال فهو المفعول به . كما تقول : " أَعجبني أكلُ الخبز وشربُ الماء " ، أي : أكلُ الرجلِ الخبزَ وشربُ الرجلِ الماءَ( {[5309]} ) .
وقيل : الهاء ترجع( {[5310]} ) على الإيتاء ، ودل عليه : " وَأَتَى " ، والتقدير : على حب الإيتاء أي : على حب الرجل الإيتاء( {[5311]} ) .
وقيل : /الهاء تعود على المؤمن ، وتنصب( {[5312]} ) " ذَوِي القُرْبَى " في هذا( {[5313]} ) الوجه بالحب ، أي : على حب المؤمن ذوي القربى . وتنصب " ذَوِي " في الوجوه المتقدمة ب " آتَى " ( {[5314]} ) .
وقيل : الهاء ترجع على الله جل ذكره ؛ أي : على حُبِّ/الله " ، وتنصب ذوي ب " آتى " ( {[5315]} ) .
قال ابن مسعود : " هُوَ أنْ يُؤْتِيَهُ وَهُوَ( {[5316]} ) صَحيحٌ شَحِيحٌ يَأْمَلُ العَيْشَ وَيَخَافُ الفَقْرَ " ( {[5317]} ) . ورواه ابن مسعود عن النبي [ عليه السلام ]( {[5318]} ) .
وروي( {[5319]} ) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " فِي المالِ( {[5320]} ) حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ " ( {[5321]} ) . وتلا هذه الآية .
قوله تعالى : ( ذَوِي القُرْبَى ) [ 176 ] : أي ذوي الأرحام .
وسئل النبي [ عليه السلام ]( {[5322]} ) عن أفضل الصدقة فقال : " جُهْدُ المُقِلِّ عَلَى ذِي( {[5323]} ) القَرَابَةِ الكاشِحِ( {[5324]} ) " ( {[5325]} ) .
وقوله : ( وَابْنَ السَّبِيلِ ) [ 176 ] . قال قتادة : " هو الضيف " ( {[5326]} ) .
وقيل : " هو المسلم يمر عليك من بلد إلى بلد " . قاله مجاهد وقتادة( {[5327]} ) .
وقيل للمسافر : " ابن السبيل " ، لملازمته السبيل وهي الطريق ، كما يقال لطير( {[5328]} ) الماء : ابن الماء لملازمته الماء( {[5329]} ) . ويقال للرجل الذي أتت عليه الدهور : هو ابن الأيام والليالي( {[5330]} ) .
وعلى هذا يُتأول حديث النبي [ عليه السلام ]( {[5331]} ) في قوله : " لا يَدْخُلْ الجَنَّةَ وَلَدُ زِنا " ( {[5332]} ) ، معناه اللازم للزنا ، جعل ابن زنا لملازمته له ، كما قيل : ابن السبيل ، وابن ماء( {[5333]} ) ، وابن الأيام .
وقوله : ( وَالسَّائِلِينَ ) [ 176 ] . يعني به المعترضين( {[5334]} ) الطالبين للصدقة .
وقوله : ( وَفِي الرِّقَابِ ) [ 176 ] .
يعني : يعان به المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودية .
وقوله : ( وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ) [ 176 ] . أي : أدام العمل بها بحدودها في أوقاتها .
قوله : ( وَءَاتَى الزَّكَاةَ ) [ 176 ] . أي : أعطاها على ما فرضها الله تعالى عليه .
وقوله : ( وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمُ إِذَا عَاهَدُوا ) [ 176 ] .
رفعت ( المُوفُونَ )( {[5335]} ) على العطف على " مَنْ " في قوله : ( وَلَكِن البِرُّ مَنَ اَمَنَ )( {[5336]} ) ، أي : ( {[5337]} ) " وَلَكِنِ البارُّ من آمن( {[5338]} ) " على قراءة من خفف أو شدد( {[5339]} ) .
وبعده : ( وَالصَّابِرِينَ ) هو نصب على المدح( {[5340]} ) .
وقيل : ( المُوفُونَ ) رفع على إضمار مبتدأ " وهم الموفون " ، تجعله مدحاً للمضمرين( {[5341]} ) داخلاً في صلة " من " ( {[5342]} ) .
وتنصب " الصابرين " على العطف على ( ذَوِي القُرْبَى ) أو على " أعني " ( {[5343]} ) . وأجاز الكسائي رفع ( المُوفُونَ )/على العطف على " مَنْ " في قوله : ( وَلَكِنِ( {[5344]} ) البِرُّ مَنَ اَمَنَ( {[5345]} ) ) على ما( {[5346]} ) تقدم( {[5347]} ) .
وتنصب ( وَالصَّابِرِينَ ) على العطف على ( ذَوِي القُرْبَى )( {[5348]} ) . وهو( {[5349]} ) خطأ لأنه يفرق بين الصلة( {[5350]} ) والموصول ، فيعطف على الموصول ، ثم/يعطف بعده على ما في الصلة ، فيفرق بين الصلة وهي : ( وَالصَّابِرِينَ ) والموصول( {[5351]} ) وهو : " مَنْ " ، بِ " المُوفُونَ " : وليس بداخل في الصلة( {[5352]} ) . إنما هو معطوف على الموصول( {[5353]} ) .
وقيل : إن( {[5354]} ) " المُوفُونَ " عطف على المضمر في " آمَنَ " ، و " الصَّابِرِينَ " عطف على " ذَوِي القُرْبَى " أو على " أَعْنِي " على المدح( {[5355]} ) .
وقيل : إن " الصَّابِرِينَ " عطف على " السَّائِلِينَ " ، ومعنى الكلام : والذين لا ينقضون عهد [ الله ]( {[5356]} ) بعد المعاهدة ، ولكن يوفون به .
وقوله : ( وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ )( {[5357]} ) [ 170 ] .
أصل الصبر الحبس عن الشيء( {[5358]} ) .
فالمعنى : والحابسين أنفسهم عن ما يكرهه( {[5359]} ) الله عز وجل في البأساء وفي الفقر ، والضراء وهي السقم . قاله ابن مسعود( {[5360]} ) .
وعنه " أن البأساء : الجوع ، والضراء : المرض " ( {[5361]} ) . وعنه : " البأساء : الحاجة " ( {[5362]} ) . وقال قتادة : " كنا( {[5363]} ) نحدث أن البأساء : البؤس والفقر ، والضراء : السقم( {[5364]} ) " ( {[5365]} )/وهو قول الربيع( {[5366]} ) .
وقال قتادة أيضاً : " البأساء : البؤس ، والضراء : الزمانة في الجسد " ( {[5367]} ) .
قال الضحاك : " البأساء : الفقر ، والضراء : المرض " ( {[5368]} ) .
وقوله : ( وَحِينَ البَأْسِ ) [ 176 ] .
قال ابن مسعود : " وحين القتال " ( {[5369]} ) .
والضُّراء –بالضم- في اللغة الزمانة والمرض . والضَّراء( {[5370]} ) بالفتح ضد النفع( {[5371]} ) . و " البأْساءُ " و " الضَّرَّاءُ " جاءوا على " فَعْلاَءَ " وليس لهما " أفْعَلُ " لأنه اسم وليس بصفة ، كما جاء " أَفْعَلُ " في الكلام وليس له " فَعْلاَءُ " نحو " أَحْمَدَ " . وقد قالوا في الصفة : " أَفعَلَ " ، ولم يأت منه " فَعْلاَءُ " ؛ قالوا : " أنْتَ مِنْ ذَلِكَ أَوْجَلُ " ( {[5372]} ) ، ولم يقولوا : " وَجْلاءَ " ( {[5373]} ) .
وقد قيل : البأساء والضراء اسمان للفعل بمعنى المصدر ، فهما بمعنى البؤس والضر( {[5374]} ) ، يقعان " لمؤنث ولمذكر " ( {[5375]} ) .
ثم قال : ( أُوْلَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا )( {[5376]} ) [ 176 ] .
أي : صدقوا الله في إيمانهم به( {[5377]} ) وحققوا قولهم بفعلهم ، لا مَن ولى وجهه قِبَل المشرق والمغرب وهو( {[5378]} ) يخالف أمره( {[5379]} ) ويكتم وحيه ويُكذِّب رسله .
ثم قال : ( وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ ) [ 176 ] . أي هم الذين( {[5380]} ) اتقوا عقاب الله ، فتجنبوا معاصيه ، ولم يتعدوا( {[5381]} ) حدوده .