التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (232)

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ {[362]} أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ { 232 } } .

[ 1 ] لا تعضلوهن : معنى العضل لغويا الحبس والمنع والتضييق . ومعنى الجملة : لا تمنعوهن بالإكراه وتمسكوهن بالرغم عن رغبتهن عن الرجوع إلى أزواجهن .

تعليق على الآية

{ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ }

لقد روى المفسرون في صدد نزول هذه الآية حديثاً رواه البخاري والترمذي عن معقل بن يسار جاء فيه : «إنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة ، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له : يا لكعُ أكرمتك بها وزوجتك فطلقتَها ، والله لا ترجع إليك أبداً . فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } الآية ، فلما سمعها معقل قال سمعا وطاعة لربّي . ثم دعاه فقال : أزوجُكَ وأكرمُك » {[363]} .

والآية معطوفة على السياق واستمرار له . ويتبادر لنا والله أعلم أنها نزلت معاً . ولا يمنع هذا أن يكون قد حدث ما ورد في الحديث فالتزم الأخ أمر الله ، وزوّج أخته بعد أن عضلها . وقد احتوت الآية تعليماً عاما للمسلمين بعدم ممانعة زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها إذا ما تراضى الزوجان في صدد ما رسم الله . وتنبيهاً على أن هذا هو الأزكى والأطهر في علم الله وحكمته . وجملة { إِذَا تَرَاضَوْاْ } تؤكد حق الزوجة المطلقة في الرضاء والموافقة على مراجعة زوجها إذا ما أراد أن يراجعها ، ويكون ذلك منوطاً برضائها أيضا ، والله أعلم .

وقد احتوت الآية تنبيها للمسلمين عن منع زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها ، وجملة : { إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } جديرة بالتنويه في صدد الأمر ؛ حيث ينطوي فيها ضرورة التأكد من رضاء كل من الزوجين بالرجوع إلى الآخر وتوافقهما على ذلك على ما فيه الخير والمصلحة مما فيه قيد احترازي لضمان صلاحية الرجعة وخيرها .

وفي هذا التعليم القرآني تبدو الحكمة البالغة التي تبدو في جميع حالات التشريع الأخرى .

تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء

وظاهر مما تقدم أنه ليس من الطلاق القرآني ما يجري على ألسنة الناس من يمين بالطلاق بسائق الغضب أو الإكراه والتهديد أو التعامل مع الناس أو الأيمان التي يحلفها الزوج بالطلاق للناس حتى بدون إكراه ولا تهديد ولا غضب على أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا أو لم يفعل كذا أو الأيمان التي تصدر في حالة اللاوعي من سكر أو غيبوبة وإغماء وعته وجنون ومرض شديد يجعله في تلك الحالة ما دام ليس هناك نية للفراق وسبب مبرر له بين الزوجين من نزاع وخصام ونشوز واستحالة توفيق وإصلاح وامتزاج وتعايش ؛ لأن الآيات صريحة العبارة والتوجيه بأن الطلاق إنما أبيح على كونه أبغض الحلال إليه عند نية وقصد الفراق ولأسباب مبررة له . وعند استحالة التوفيق والإصلاح بين الزوجين . ولقد روى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ثلاث جدّهنّ جدٌّ وهزلهنّ جدٌّ النكاح والطلاق والرجعة » {[364]} . وإزاء النصوص القرآنية وتلقيناتها نميل إلى التوقف في هذا الحديث وما من بابه إلا أن يكون صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظرف خاص به من قبيل الزجر . وهو على كل حال غير ما ذكرناه مما يجري على الألسنة في الحالات التي ذكرناها . وكثير من العلماء ، ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم يعتبرون مثل هذه الأيمان أيماناً عادية إذا حنث فيها الحالف يكفرها بكفارة اليمين العادية ولا يرتبون عليها فراقاً وطلاقاً ، ولابن القيم في أعلام الموقعين فصول قيمة في هذا الباب .

وينتقد بعض الأغيار إباحة الإسلام للطلاق وحينما يمعن المنصف من غير المسلمين بالأسلوب الرائع الحكيم الذي أبيح به إذا ما كان هو الحل الوحيد الذي لا مندوحة عنه بعد أن تكون قد بذلت كل الجهود للتوفيق ومنحت الفرص الكافية المتكررة للتروي والتوفيق لا يمكن إلا أن يسلم بما فيه من روعة وحكمة وصلاح . ولا يكابر في ذلك إلا مكابر مغرض حتى ليصح أن يقال : إن الطلاق نعمة من نعم الله في بعض الحالات التي تنقلب الحياة الزوجية فيها إلى جحيم وشقاء مقيم ، وقد انطوى هذا المعنى السامي في آية النساء هذه التي جاءت بعد آيتين وصّتا ببذل الجهد في الإصلاح والتوفيق : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً { 130 } } حيث يكون الفراق عند استحالة التوفيق والإصلاح والصلح خيراً للطرفين من دون ريب .

والتقاليد النصرانية الدينية تحرّم الطلاق إلا في حالة جرم الزنا المشهود . وما تزال كنائسها تشدد في ذلك في حين نرى الدول النصرانية قد أباحته وأساغ ذلك الجمهور الأعظم من النصارى ومارسوه بمقياس واسع حتى صار مجوناً وميوعة أكثر منه بحثاً عن الراحة والخلاص من شقاء أكيد . حيث ينطوي في ذلك حاجة المجتمع الإنساني إلى ذلك العلاج الذي جاء في التشريع الإسلامي الذي رشحه الله ليكون دين البشرية جمعاء في كل زمان ومكان على أحسن وأقوى وأحكم الصور .

ولقد ذكرنا قبل قولاً للزمخشري أن آية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ . . . } هي خطاب للحكام والأئمة أي إنهم هم الذين يجب أن يرفع إليهم هذا الأمر لتقديره . ولقد احتوى القرآن آيات فيها نفس المدى مثل آية سورة النساء هذه : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { 35 } } وفي سورة الطلاق هذه الآية : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } والاستشهاد وإقامة الشهادة إنما يكونان لأجل النظر في الأمر من جانب القاضي . فكل هذا وما ورد من أحاديث كثيرة مرّت طائفة منها تذكر مراجعات الأزواج والزوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه في شؤون الطلاق والإيلاء والظهار والنفقة والرضاع الخ الخ . . . وتدخلهم في حل المشاكل بينهم يسوغ القول إنه ليس من مانع شرعي من إناطة أمر الطلاق بالقضاء الشرعي ، وإذا ما أخذ بهذا يكون في ذلك تمام الصورة الحكيمة حيث يتاح درس الأسباب والموقف من جانب القاضي الشرعي فيصدر حكمه أو توجيهاته نتيجة لها .

وما يقال : إن أسرار الناس لا يصح أن تفشى ولو للقضاء في غير محله . فالقضاء مؤتمن على أسرار الناس . وهناك حالات كثيرة فيها أسرار وتناط شرعاً وقانوناً بالقضاء . ويمكن أن يجاب على ما يقال من أن الله قد أباح للزوج أن يطلق زوجته ولا يصح حرمانه من هذا الحق مستقلا ، وإذا ما استعمل حقه هذا ولم ينفذ عاشر زوجته حراماً . إن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه كانوا يراجعونهم في ذلك ويسيرون وفق فتاواهم . وفي القرآن عبارات تجعل للقضاء موقفاً وكلمة في هذا الشأن . وإذا ما أقر ولي أمر المسلمين هذا استناداً إلى تلك التوجيهات القرآنية والآثار النبوية صار ذلك ملزماً . وصار تطليق الأزواج بدون واسطة القضاء لغواً شأن طلاقهم الذي لا ينفذ على ما ذكرناه في مطلع هذا التعقيب ، والله أعلم .

ولقد أقرّ هذا وطبق بقانون في الجمهورية التونسية التي تدين غالبيتها بالإسلام . والمتبادر أن أولي الحل والعقد والشورى وافقوا على ذلك استناداً إلى دراسات واستنباطات شرعية لعلها ما ذكرناه أو لعل منها ما ذكرناه .


[363]:التاج 4/56
[364]:التاج 2/309، وروى الطبري هذا الحديث بهذه الصيغة: «من طلّق أو أعتق أو نكح جادا ولاعبا جاز عليه». وهناك حديث يرويه عن الحسن قال: «كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلّق لاعباً أو أعتق لاعباً جاز عليه. وفي ذلك نزلت: {ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً} وفي تفسير ابن كثير صيغ عديدة من هذا الباب. والصيغة الواردة في الكتب المعتبرة هي التي أوردناها في المتن