الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها ، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في : " طَلَّقتم " للأزواجِ ، وفي : " فَلاَ تعضُلُوهُنَّ " للأولياء ؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان :
الأول : أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ ، وقيل : كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ{[3724]} عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها ، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها ، ثم ندم ؛ فجاء يخطبُها ، فقال : زوجتُك ، وفرشتُك ، وأكرمتُك ؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها ؟ ! لا والله ، لا تعود إليك أبداً ، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه ، فقال لها معقل : إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته ؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ ، إنْ راجعته ؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ ، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معقل بن يسار ، وتلا عليه الآيةَ ، فقال : رغم أنْفِي لأَمْرِ رِبِّي ، اللَّهُمّ رضيتُ ، وسلّمْتُ لأَمْرك ، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها{[3725]} .
الثاني : روَى مجاهد ، والسدي : أَنَّ جابر بن عبد الله ، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها ، وأراد رجعتها بعد العِدّة ؛ فأَبَى جابر ؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ ، وكان جابرٌ يقولَ : فِيَّ نزلت هذه الآيةُ{[3726]} .
وقيل : الخطابُ فيهما للأزواج ، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم ؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يُطَلِّقُونَ ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم ؛ ظلماً وقهراً .
قوله : " أَزْوَاجَهُنَّ " مجازٌ ؛ لأنه إذا أُريد به المطلِّقون ، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه ، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه . قال ابن الخطيب{[3727]} : وهذا هو المختارُ ؛ لأن قوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } شرطٌ ، والجزاءُ قوله : " فلا تَعْضُلُوهُنَّ " والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً ؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لصار تقديرُ الآيةِ : إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج ، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً ، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ ، وتنزيه كلام اللهِ عز وجل عن مثل هذا ، واجبٌ . ثم يتأكدُ بوجهين آخرين :
الأول : أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع ، خطابٌ مع الأزواجِ ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ اَلْبَتَّة ، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ .
الثاني : أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ ، أولى ؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ .
واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ .
ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين :
الأول : أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى - ، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ .
الثاني : أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا ؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ : فِيّ نزلت هذه الآية ، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت ، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله تعالى سليماً عن المعارِضِ ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ ، ولا تعارُضَ بين الخبرين ؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ .
واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج ، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ ، أو بعد انقضائِها .
والأولُ باطل ؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى ، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى ، كان تكراراً من غير فائدةٍ ، وأيضاً فقد قال تعالى : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي ، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح ، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة ، وقال تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } [ البقرة :235 ] .
والثاني - أيضاً - باطلٌ ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة ، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه ؟ !
ويمكنُ أن يُجابَ : بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة ، بعد انقضاءِ عدَّتها ، وتلحقُه الغيرة ، إذا رأى مَنْ يخطبُها ، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها ، إِمَّا بأن يجحد الطلاق ، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة ، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها : بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها ، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى ، وأطهر ، من دنسِ الآثام .
واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } قالوا : معناه : ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك ، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ .
ويمكن الجوابُ : بأنَّ معنى قوله : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه ، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه .
[ وقيل : الخِطَابُ فيهما للأَولياء ، وفيهِ بُعْدٌ ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً ] والفاءُ في " فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ " جوابُ " إذا " .
والعَضْلُ : قيل : المَنْعُ ، ومنه : " عَضَلَ أَمَتَهُ " ، مَنَعَها من التزوُّجِ ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها ؛ قال ابن هرمزٍ : [ الوافر ]
وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي *** كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ{[3728]}
وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا *** وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ{[3729]}
ومنه : " دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ " ، أي : احتبسَ بَيْضُها ، وقيل : أَصلهُ الضِّيقُ ؛ قال أوس : [ الطويل ]
تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةً *** مُعَضَّلَةً مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ{[3730]}
أي : ضَيِّقة بِهم ، وعَضَلَتِ المَرْأَة ، أي : نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا ، وكذلك عضلت الشَّاةُ ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء : إِذَا أَعياهُمْ ، ويُقَالُ : دَاءٌ عُضَالٌ ، أي : ضَيِّقُ العِلاج ؛ وقالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا *** غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا{[3731]}
والمُعْضِلاتُ : المُشْكِلاَتُ ؛ لضِيق فَهْمِها ؛ قال الشافعيُّ : [ المتقارب ]
إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي *** كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ{[3732]}
قوله تعالى : " أَن يَنكِحْنَ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في " تَعْضُلُوهُنَّ " بدلُ اشْتِمالٍ ، فيكون في محلِّ نصب ، أي : فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ .
والثاني : أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ ، وهو إمَّا " مِنْ " ، أو " عَنْ " فيكونُ في محلِّ " أَنْ " الوجهان المشهُورانِ : أعني مذهب سيبويه{[3733]} ، ومذهب الخليل . و " يَنْكِحْنَ " مضارعُ " نَكَحَ " الثّلاثيّ ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه ؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ .
قوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان :
أحدهما : " ينكِحْنَ " أي : أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي .
والثاني : أَنْ يكونَ " تَعْضُلُوهنَّ " أي : لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي ، والأولُ أظهرُ . و " إذا " هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ . والضميرُ في " تراضَوا " يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج ، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ .
قوله : " بَيْنَهُمْ " ظرفُ مكانٍ مجازيّ ، وناصبُه " تراضَوا " .
قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بتراضَوا ، أي : تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ .
والثاني : أن يتعلَّق ب " يَنْكِحْنَ " فيكون " ينكِحْنَ " ناصباً للظرفِ ، وهو " إِذا " ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً .
والثالث : أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا .
والرابع : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، دلَّ عليه الفعلُ ، أي : تراضياً كائناً بالمعروف .
تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء ، قال : لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها ، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها ، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح ، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث ، وإِنْ سلم ، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك ؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء ، في بَابِ النكاحِ ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن ، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم ، وتدبيرهم ، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن ، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه ، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، في تفسير هذه الآيةِ{[3734]} . وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ .
وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ ، قال : لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله ، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه ، قال : ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة :230 ] ، وبقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :234 ] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ ، فعلٌ بالمعروفِ ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ .
وقوله تعالى : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب :50 ] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ .
وأجاب الأولون : بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر ، قد يُضافُ إلى المتسبّب ، يقال : بني الأمِيرُ داراً ، وضرب ديناراً ، وإنْ كان مجازاً ، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه ؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح .
قال الشَّافعيُّ - رحمه اللهُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين ، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة :231 ] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت ، لما قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةً ، فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية ، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج ، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه ، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي " دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين " .
في التَّراضي بالمعرُوف ، وجهان :
أحدهما : ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ ، ومهرٍ جائِزٍ ، وشُهُودٍ عُدُول .
الثاني : هو ما يُضادُّ قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة :231 ] فيكون معناه : أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه ؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ ، وتدوم الأُلفَةُ .
قال بعضهم : التراضِي بالمعرُوف ، هو مهرُ المِثْلِ ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً ، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها ، نقصاناً فاحشاً ، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة ، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ .
وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك .
قوله : " ذلِكَ " مبتدأٌ و " يُوعَظُ " وما بعده خبرهُ . والمُخَاطبُ قيل : إمَّا الرسُولُ - عليه الصلاة والسلام - أو كلُّ سامع ، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد ، وقيل : للجماعةِ ، وهو الظَّاهِرُ ، فيكونُ " ذلك " بمعنى : " ذلكم " ، ولذلك قال بعده : " مِنكُمْ " وهو جائِزٌ في اللُّغة ، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ ، قال تعالى : { ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } [ يوسف :37 ] وقال : { فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف :32 ] وقال : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } [ الطلاق :2 ] وقال : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } [ الأعراف :22 ] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء ؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع " لَكُمْ " ثم كثر حتَّى توهَّموا أن " الكَافَ " مِنْ نفسِ الحرفِ ، وليست بكافِ خِطابٍ ؛ فقالوا ذلك ، فإِذَا قالوا هذا ، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين ، والجمع ، والمؤَنَّثِ ، و " مَنْ كان " في محلِّ رفعٍ ؛ لقيامه مقامَ الفاعل . وفي " كان " اسمُها ، يعودُ على " مَنْ " و " يؤمِنُ " في محلِّ نصبٍ ، خبراً ل " كان " و " مِنْكُمْ " : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ . فإن قيل : لِمَ أتى باسمِ الإشارة البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل ؟
والجواب : أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه . وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم ؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم ؛ كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة :2 ] وهو هدى لِلْكُلِّ ، كما قال : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة :185 ] ، وقال : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات :45 ] { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس :11 ] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ ؛ كما قال : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان :1 ] .
فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة{[3735]}
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام ؛ لأن تَخْصِيصهُ المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها ، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر .
وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً ؛ قال تعالى { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران :97 ] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين ، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين ؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تذكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ ، والتحذير .
قوله تعالى : { أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ البقرة :232 ] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو ، وقوله : " أزكى " إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ ، وقوله : " أَطْهَرُ " إشارة إلى إزالة الذنُوبِ .
قال المفَسِّرون : أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ . و " لكم " متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " أَزْكَى " فهو في محلِّ رفع وقوله : " وَأَطْهَرُ " أي : لَكُمْ ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ ؛ لِلْعِلْم به ، أي : مِنَ العَضْل .
قوله : { وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } معناه : أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى ، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير ؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ .
قال بعض المفسِّرين{[3736]} : معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين ، قَدْ يكونُ في نفسه من الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما ، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك ، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلِّ واحدٍ منهما لصاحبه ، ما لا تعلمون أَنْتم .