اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (232)

الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها ، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في : " طَلَّقتم " للأزواجِ ، وفي : " فَلاَ تعضُلُوهُنَّ " للأولياء ؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان :

الأول : أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ ، وقيل : كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ{[3724]} عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها ، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها ، ثم ندم ؛ فجاء يخطبُها ، فقال : زوجتُك ، وفرشتُك ، وأكرمتُك ؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها ؟ ! لا والله ، لا تعود إليك أبداً ، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه ، فقال لها معقل : إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته ؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ ، إنْ راجعته ؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ ، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معقل بن يسار ، وتلا عليه الآيةَ ، فقال : رغم أنْفِي لأَمْرِ رِبِّي ، اللَّهُمّ رضيتُ ، وسلّمْتُ لأَمْرك ، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها{[3725]} .

الثاني : روَى مجاهد ، والسدي : أَنَّ جابر بن عبد الله ، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها ، وأراد رجعتها بعد العِدّة ؛ فأَبَى جابر ؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ ، وكان جابرٌ يقولَ : فِيَّ نزلت هذه الآيةُ{[3726]} .

وقيل : الخطابُ فيهما للأزواج ، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم ؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يُطَلِّقُونَ ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم ؛ ظلماً وقهراً .

قوله : " أَزْوَاجَهُنَّ " مجازٌ ؛ لأنه إذا أُريد به المطلِّقون ، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه ، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه . قال ابن الخطيب{[3727]} : وهذا هو المختارُ ؛ لأن قوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } شرطٌ ، والجزاءُ قوله : " فلا تَعْضُلُوهُنَّ " والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً ؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لصار تقديرُ الآيةِ : إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج ، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً ، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ ، وتنزيه كلام اللهِ عز وجل عن مثل هذا ، واجبٌ . ثم يتأكدُ بوجهين آخرين :

الأول : أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع ، خطابٌ مع الأزواجِ ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ اَلْبَتَّة ، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ .

الثاني : أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ ، أولى ؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ .

واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ .

ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين :

الأول : أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى - ، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ .

الثاني : أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا ؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ : فِيّ نزلت هذه الآية ، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت ، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله تعالى سليماً عن المعارِضِ ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ ، ولا تعارُضَ بين الخبرين ؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ .

واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج ، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ ، أو بعد انقضائِها .

والأولُ باطل ؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى ، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى ، كان تكراراً من غير فائدةٍ ، وأيضاً فقد قال تعالى : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي ، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح ، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة ، وقال تعالى : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } [ البقرة :235 ] .

والثاني - أيضاً - باطلٌ ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة ، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه ؟ !

ويمكنُ أن يُجابَ : بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة ، بعد انقضاءِ عدَّتها ، وتلحقُه الغيرة ، إذا رأى مَنْ يخطبُها ، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها ، إِمَّا بأن يجحد الطلاق ، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة ، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها : بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها ، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى ، وأطهر ، من دنسِ الآثام .

واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } قالوا : معناه : ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك ، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ .

ويمكن الجوابُ : بأنَّ معنى قوله : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه ، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه .

[ وقيل : الخِطَابُ فيهما للأَولياء ، وفيهِ بُعْدٌ ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقَ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً ] والفاءُ في " فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ " جوابُ " إذا " .

والعَضْلُ : قيل : المَنْعُ ، ومنه : " عَضَلَ أَمَتَهُ " ، مَنَعَها من التزوُّجِ ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها ؛ قال ابن هرمزٍ : [ الوافر ]

وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي *** كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ{[3728]}

وقال : [ الطويل ]

وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا *** وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ{[3729]}

ومنه : " دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ " ، أي : احتبسَ بَيْضُها ، وقيل : أَصلهُ الضِّيقُ ؛ قال أوس : [ الطويل ]

تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةً *** مُعَضَّلَةً مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ{[3730]}

أي : ضَيِّقة بِهم ، وعَضَلَتِ المَرْأَة ، أي : نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا ، وكذلك عضلت الشَّاةُ ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء : إِذَا أَعياهُمْ ، ويُقَالُ : دَاءٌ عُضَالٌ ، أي : ضَيِّقُ العِلاج ؛ وقالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]

شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا *** غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا{[3731]}

والمُعْضِلاتُ : المُشْكِلاَتُ ؛ لضِيق فَهْمِها ؛ قال الشافعيُّ : [ المتقارب ]

إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي *** كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ{[3732]}

قوله تعالى : " أَن يَنكِحْنَ " فيه وجهان :

أحدهما : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في " تَعْضُلُوهُنَّ " بدلُ اشْتِمالٍ ، فيكون في محلِّ نصب ، أي : فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ .

والثاني : أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ ، وهو إمَّا " مِنْ " ، أو " عَنْ " فيكونُ في محلِّ " أَنْ " الوجهان المشهُورانِ : أعني مذهب سيبويه{[3733]} ، ومذهب الخليل . و " يَنْكِحْنَ " مضارعُ " نَكَحَ " الثّلاثيّ ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه ؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ .

قوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان :

أحدهما : " ينكِحْنَ " أي : أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي .

والثاني : أَنْ يكونَ " تَعْضُلُوهنَّ " أي : لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي ، والأولُ أظهرُ . و " إذا " هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ . والضميرُ في " تراضَوا " يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج ، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ .

قوله : " بَيْنَهُمْ " ظرفُ مكانٍ مجازيّ ، وناصبُه " تراضَوا " .

قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } فيه أربعةُ أوجهٍ :

أحدها : أنه متعلقٌ بتراضَوا ، أي : تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ .

والثاني : أن يتعلَّق ب " يَنْكِحْنَ " فيكون " ينكِحْنَ " ناصباً للظرفِ ، وهو " إِذا " ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً .

والثالث : أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا .

والرابع : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، دلَّ عليه الفعلُ ، أي : تراضياً كائناً بالمعروف .

فصل

تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء ، قال : لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها ، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها ، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح ، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث ، وإِنْ سلم ، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك ؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء ، في بَابِ النكاحِ ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن ، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم ، وتدبيرهم ، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن ، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه ، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، في تفسير هذه الآيةِ{[3734]} . وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ .

وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ ، قال : لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله ، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه ، قال : ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة :230 ] ، وبقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة :234 ] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ ، فعلٌ بالمعروفِ ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ .

وقوله تعالى : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب :50 ] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ .

وأجاب الأولون : بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر ، قد يُضافُ إلى المتسبّب ، يقال : بني الأمِيرُ داراً ، وضرب ديناراً ، وإنْ كان مجازاً ، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه ؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح .

فصل في اختلاف البلوغين

قال الشَّافعيُّ - رحمه اللهُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين ، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة :231 ] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت ، لما قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةً ، فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية ، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج ، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه ، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي " دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين " .

فصل في معنى التراضي بالمعروف

في التَّراضي بالمعرُوف ، وجهان :

أحدهما : ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ ، ومهرٍ جائِزٍ ، وشُهُودٍ عُدُول .

الثاني : هو ما يُضادُّ قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة :231 ] فيكون معناه : أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه ؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ ، وتدوم الأُلفَةُ .

قال بعضهم : التراضِي بالمعرُوف ، هو مهرُ المِثْلِ ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً ، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها ، نقصاناً فاحشاً ، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة ، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ .

وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك .

قوله : " ذلِكَ " مبتدأٌ و " يُوعَظُ " وما بعده خبرهُ . والمُخَاطبُ قيل : إمَّا الرسُولُ - عليه الصلاة والسلام - أو كلُّ سامع ، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد ، وقيل : للجماعةِ ، وهو الظَّاهِرُ ، فيكونُ " ذلك " بمعنى : " ذلكم " ، ولذلك قال بعده : " مِنكُمْ " وهو جائِزٌ في اللُّغة ، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ ، قال تعالى : { ذلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي } [ يوسف :37 ] وقال : { فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف :32 ] وقال : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } [ الطلاق :2 ] وقال : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } [ الأعراف :22 ] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء ؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع " لَكُمْ " ثم كثر حتَّى توهَّموا أن " الكَافَ " مِنْ نفسِ الحرفِ ، وليست بكافِ خِطابٍ ؛ فقالوا ذلك ، فإِذَا قالوا هذا ، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين ، والجمع ، والمؤَنَّثِ ، و " مَنْ كان " في محلِّ رفعٍ ؛ لقيامه مقامَ الفاعل . وفي " كان " اسمُها ، يعودُ على " مَنْ " و " يؤمِنُ " في محلِّ نصبٍ ، خبراً ل " كان " و " مِنْكُمْ " : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ . فإن قيل : لِمَ أتى باسمِ الإشارة البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل ؟

والجواب : أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه . وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم ؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم ؛ كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة :2 ] وهو هدى لِلْكُلِّ ، كما قال : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة :185 ] ، وقال : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات :45 ] { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [ يس :11 ] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ ؛ كما قال : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان :1 ] .

فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة{[3735]}

احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام ؛ لأن تَخْصِيصهُ المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها ، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر .

وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً ؛ قال تعالى { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران :97 ] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين ، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين ؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تذكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ ، والتحذير .

قوله تعالى : { أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ البقرة :232 ] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو ، وقوله : " أزكى " إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ ، وقوله : " أَطْهَرُ " إشارة إلى إزالة الذنُوبِ .

قال المفَسِّرون : أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ . و " لكم " متعلقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " أَزْكَى " فهو في محلِّ رفع وقوله : " وَأَطْهَرُ " أي : لَكُمْ ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ ؛ لِلْعِلْم به ، أي : مِنَ العَضْل .

قوله : { وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } معناه : أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى ، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير ؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ .

قال بعض المفسِّرين{[3736]} : معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين ، قَدْ يكونُ في نفسه من الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما ، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك ، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلِّ واحدٍ منهما لصاحبه ، ما لا تعلمون أَنْتم .


[3724]:- عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام البلوي العجلاني حليف الأنصار. كان سيد بني عجلان، وهو أخو معن بن عدي ويكنى: أبا عمرو، يقال: أبا عبد الله، واتفقوا على ذكره في البدريين، ويقال: إنه لم يشهدها بل خرج فكسر فرده النبي-صلى الله عليه وسلم- من الروحاء واستخلفه على العالية من المدينة وله ذكر في الصحيح من حديث سهل بن سعد في قصة المتلاعنين، وغاير البغوي بين عاصم بن عدي العجلاني وبين عاصم والد أبي القداح، فوهم، وصرح ابن خزيمة في صحيحه بأن والد ابن القداح هو عاصم بن عدي العجلاني، وقال ابن سعد وابن السكن وغيرهما: مات سنة خمس وأربعين وهو ابن مائة وخمس عشرة وقيل: عشرين وقال الزبير بن بكار في ترجمة عبد الرحمن بن عوف: ومن ولده عمر ومعن وزيد وأمهم سهلة بنت عاصم بن عدي العجلاني كان عبد العزيز بن عمران يحدث عن أبيه عن جده عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال عاش عاصم بن عدي عشرين ومائة سنة، فلما حضرته الوفاة بكى عليه أهله فقال: لا تبكوا علي إنما فنيت فناء وذكر الطبري أنه كان قصير القامة ينظر الإصابة ترجمة رقم (4346)، الأعلام 3/248.
[3725]:- أخرجه بهذا اللفظ الحاكم (2/174) والبيهقي (7/138) والطبري في "تفسيره" (5/19) عن الحسن وأخرجه الحاكم (2/180) والطبري في "تفسيره" (5/18) مختصرا عن معقل بن يسار. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: الفضل ضعفه ابن معين وقواه غيره. وأخرجه باختصار أيضا البخاري (9/425-426) والطبري في "تفسيره" (5/17) عن الحسن عن معقل بن يسار.
[3726]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/21-22) والأثر ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/511) وزاد نسبته لابن المنذر عن السدي.
[3727]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/96.
[3728]:- ينظر: الكشاف 2/278، الدر المصون 1/566.
[3729]:- ينظر: البحر 2/215، الدر المصون 1/566.
[3730]:- ينظر ديوانه (121)، اللسان: مرض، الدر المصون 1/566.
[3731]:- ينظر ديوانه (118)، اللسان: عضل، الدر المصون 1/567.
[3732]:- ينظر ديوانه (48)، البحر 2/216، الدر المصون 1/567.
[3733]:- ينظر: الكتاب لسيبويه 1/17.
[3734]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/97.
[3735]:- تحرير محل النزاع هو هل الكفار مخاطبون بأداء فروع الشريعة مع انتفاء شرطها وهو الإيمان وهل يعاقبون في الآخرة على تركها كما يعاقبون على ترك الإيمان أم لا؟ مع أنهم متفقون على أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات والعبادات في حق المؤاخذة في الآخرة بترك الاعتقاد. فذهب الشافعية، والمالكية، وفي إحدى الروايات عن أحمد، والمعتزلة، والعراقيون من الحنفية؛ إلى أنهم مخاطبون بفروع الشريعة؛ كما أنهم مخاطبون بالاعتقاد، ويعاقبون على ترك الاعتقاد والفروع جميعا في الآخرة، وقالوا: بأن الكفر لا يصلح أن يكون مانعا من دخولهم في الإسلام، لأنهم متمسكون في إزالته بالإيمان، ويكون زمن الكفر ظرفا للتكليف لا للإيقاع، فهو مأمور بأن يسلم ثم يوقع الفعل. والمقتضي للتكليف قائم والمانع مفقود كالمحدث، والحديث يقتضي سبق التكليف به ولكنه يسقط ترغيبا في الإسلام. وذهب مشايخ علماء سمرقند من الحنفية، ومنهم أبو زيد، وشمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام البزدوي، وأبو حامد الإسفرائيني من الشافعية وعزاه البيضاوي في "المنهاج" إلى المعتزلة. وفي "مسلم الثبوت"، وفي إحدى الروايات عن أحمد إلى أنهم غير مكلفين بفروع الشريعة، ولا يعاقبون في الآخرة، إلا على ترك الاعتقاد بها لوا يعاقبون على ترك أدائها، وقالوا بأن الكافر ليس أهلا للأداء وتصير ذمته كالمعدومة حكما في الصلاحية؛ لوجوب أداء العبادات تحقيقا لمعنى الهوان في حقهم؛ لأن التكليف بالفروع إنما هو لتهذيب الأخلاق الحميدة وتكميل الإيمان، والتقرب إلى الله ونيل الدرجات العلى والكافر لا يصلح لهذا كله، فلا يصلح للتكليف، فمثله كمريض لا يرجى تأثير الدواء فيه فيعرض الطبيب عنه فإعراض الله تعالى لا يسمى تشريفا لهم، بل لكمال إذلالهم، فاندفع ما قيل بأن الكفر لا يصلح مرفها بإسقاط التكليف، واعلم أن هذه المسألة ليست محفوظة عن أبي حنيفة وأصحابه نصا، وإنما استنبطها مشايخ سمرقند اللاحقون من الفروع الفقهية من قول محمد بن الحسن فيمن نذر صوم شهر فارتد، ثم أسلم لم يلزمه المنذور، فعلم أن الكفر يبطل وجوب أداء العبادات؛ لعدم الفرق بين الواجب بالنذر وسائر الواجبات في الوجوب. وهناك مذهب ثالث ذهب إلى التفصيل: وهو أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، والفرق أن النواهي يخرج المكلف عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها، فضلا عن القصد إليها وأما الأمر فلا يخرج عن عهدته حتى يعتقد وجوبه. قال النووي في "شرح المهذب": وأما الكافر الأصلي: فاتفق أصحابنا في كتب الفروع على أنه لا تجب عليه الصلاة والزكاة والصوم، والحج وغيرها من فروع الإسلام، وأما في كتب الأصول فقال جمهورهم: هو مخاطب بالفروع، كما هو مخاطب بأصل الإيمان، وقيل: لا يخاطب بالفروع، وقيل: يخاطب بالمنهي عنه؛ كتحريم الزنا والسرقة والخمر وأشباهها دون المأمور به كالصلاة والحج، والصحيح الأول، وليس هو مخالفا لقولهم في الفروع، لأن المراد هنا غير المراد هناك، فمرادهم في كتب الفروع أنهم لا يطالبون بها في الدنيا مع كفرهم وإذا أسلم أحدهم، لم يلزمه قضاء الماضي، ولم يتعرضوا لعقوبة الآخرة، ومرادهم في كتب الأصول أنهم يعذبون عليها في الآخرة زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعا لا على الكفر وحده ولم يتعرضوا للمطالبة في الدنيا، فذكروا في الأصول حكم أحد الطرفين، وفي الفروع حكم الطرف الآخر. البحر المحيط للزركشي 3/63، التمهيد للإسنوي ص 364، ونهاية السول له 1/369، زوائد الأصول ص /170، منهاج العقول للبدخشي 1/203، التحصيل من المحصول للأرموي 1/321، المنخول للغزالي ص/31، الإبهاج لابن السبكي 1/177، الآيات البينات لابن قاسم العبادي 1/285، تخريج الفروع على الأصول للزناجي ص /98، كشف الأسرار للنسفي 1/137، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني 1/213، نسمات الأسحار لابن عابدين ص /60، ميزان الأصول للسمرقندي 1/304.
[3736]:- ينظر: تفسير البغوي 1/211.