البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَبَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعۡضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحۡنَ أَزۡوَٰجَهُنَّ إِذَا تَرَٰضَوۡاْ بَيۡنَهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ مِنكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۗ ذَٰلِكُمۡ أَزۡكَىٰ لَكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} (232)

العضل : المنع ، عضل أيّمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها ، قال ابن هرمة :

وإن قضاء يدي لك فاصطنعني***

كرائم قد عضلن عن النكاح

ويقال : دجاج معضل إذا احتبس بيضها ، قاله الخليل ، وقال :

ونحن عضلنا بالرماح نساءنا***

وما فيكم عن حرمة الله عاضل

ويقال : أصله الضيق ، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها ، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم ؛ قال أوس :

ترى الأرض منا بالفضاء مريضة***

معضلة منا بجيش عرمرم

وأعضل الداء الأطباء أعياهم ، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق ، قالت ليلى الأخيلية :

شفاها من الداء العضال الذي بها***

غلام إذا هزَّ القناة سقاها

وأعضل الأمر اشتدّ وضاق ، وكل مشكل عند العرب معضل ، وقال الشافعي رحمة الله عليه :

إذا المعضلات تصدينني***

كشفت حقائقها بالنظر

{ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهن } قال ابن عباس ، والزهري ، والضحاك ؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها ، وقيل : نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله ، طلقها زوجها ، وانقضت عدتها فاراد رجعتها ، فأتى جابر وقال : طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها ؟ وكانت المرأة تريد زوجها ، فنزلت .

وقيل : في معقل بن يسار ، وأخته جمل ، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان ، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته ، ذكر معناه البخاري .

فعلى السبب الأوّل يكون المخاطبون هم الأزواج ، وعلى هذا السبب الأولياء ، وفيه بُعد ، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع ، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار ، ويبعد جداً أن يكون الخطاب في : { وإذا طلقتم } للأزواج وفي { فلا تعضلوهنّ } للأولياء ، لتنافي التخاطب ، ولتنافر الشرط والجزاء ، فالأولى ، والذي يناسبه سياق الكلام ، أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج ، لأن الخطاب من أوّل الآيات هو مع الأزواج ولم يجر للأولياء ذكر ، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة ، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهنّ بعد انقضاء العدّة ، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل ، إذ كانوا يفعلون ذلك ظلماً وقهراً وحمية الجاهلية ، لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج ، وعلى هذا يكون معنى : { أن ينكحن أزواجهن } أي : من يردن أن يتزوّجنه ، فسموا أزواجاً باعتبار ما يؤولون إليه .

وعلى القول بأن الخطاب للأولياء يكون أزواجهن هم المطلقون ، سموا أزواجاً باعتبار ما كانوا عليه ، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدّة أزواجاً حقيقة .

وجهات العضل من الزوج متعددة : بأن يجحد الطلاق ، أو يدعي رجعة في العدة ، أو يتوعد من يتزوّجها ، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها ، فنهوا عن العضل مطلقاً بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره .

وقال الزمخشري : والوجه أن يكون خطاباً للناس ، أي : لا يوجد فيما بينكم عضل ، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين ؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية ، فقال : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فلا تعضلوهنّ } الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الإزواج ، ومنهم الأولياء ، لأنهم المراد في تعضلوهنّ .

انتهى كلامه .

وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في : طلقتم ، للأزواج ، وفي : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر .

{ أن ينكحن أزواجهنّ } هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال ، أو على أن أصله من أن ينكحن ، وينكحن مضارع نكح الثلاثي ، وفيه دلالة على أن للمرأة أن تنكح بغير ولي ، لأنه لو كان له حق لما نهى عنه ، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق ، وظاهره العقد .

وظاهر الآية إذا كان الخطاب في : فلا تعضلوهنّ ، للأولياء النهي عن مطلق العضل ، فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد ، وقال مالك : إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلاً .

وقال أبو حنيفة : الثيب تزوّج نفسها وتستوفي المهر ولا اعتراض للوليّ عليها .

وهو قول زفر ؛ وإن كان غير كفء جاز ، وللأولياء أن يفرّقوا بينهما .

وعلى جواز النكاح بغير وليّ : ابن سيرين ، والشعبي ، والزهري ، وقتادة .

وقال أبو يوسف : إن سلم الولي نكاحها جاز وإلاَّ فلا ، إلاَّ إن كان كفؤاً فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم ، وهو قول محمد .

وروي عن أبي يوسف غير هذا .

وقال الأوزاعي : إذا ولت أمرها رجلاً ، وكان الزوج كفؤا ، فالنكاح جائز ، وليس للولي أن يفرّق بينهما .

وقال ابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، والثوري ، والحسن بن صالح : لا يجوز النكاح إلاَّ بولي ، وهو مذهب الشافعي .

وقال الليث : تزوّج نفسها بغير ولي .

وقال ابن القاسم ، عن مالك : إذا كانت معتقة ، أو مسكينة ، أو دنيئة ، فلا بأس أن تستخلف رجلاً يزوّجها ، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول ، وعنه خلاف بعد الدخول ، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوّجها إلا الولي أو السلطان ، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه .

{ إذا تراضوا } : الضمير عائد على الخطاب والنساء ، وغلب المذكر ، فجاء الضمير بالواو ، ومن جعل للأولياء ذكراً في الآية قالوا : احتمل أن يعود على الأولياء والأزواج .

والعامل في : إذا ، ينكحن .

{ بينهم بالمعروف } الضمير في : بينهم ، ظرف مجازي ناصبه : تراضوا ، بالمعروف : ظاهره أنه متعلق بتراضوا ، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط ، وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد .

ويجوز أن يتعلق : بالمعروف ، بينكحن ، لا : بتراضوا ، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي ، بل هو من الفصل الفصيح ، لأنه فصل بمعمول الفعل ، وهو قوله : { إذا تراضوا } فإذا منصوب بقوله : { أن ينكحن } و : بالمعروف ، متعلق به ، فكلاهما معمول للفعل .

{ ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر } ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل ، و : ذلك ، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ، وان كان الحكم قريباً ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى : يوعظ به أي يذكر به ، ويخوّف .

و : منكم ، متعلق بكان ، أو : بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في : يؤمن ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ، الناهي لهم ، والآمر .

و : اليوم الآخر ، لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي .

وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن ، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول { إنما يستجيب الذين يسمعون } وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى ، { إنما يتذكر أولوا الألباب }

{ ذلكم أزكى لكم وأطهر } أي : التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب ، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح ، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان ، اقتضى ذلك أن من الإحسان أن يأخذ الزوج من امرأته شيئاً مما أعطى واستثنى من هذه الحالة قصة الخلع ، فأباح للرجل أن يأخذ منها على ما سنبينه في الآية ، وكما قاله الله تعالى : { وآتيتم احداهن قنطاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } الآية ، والخطاب في : لكم ، وما بعده ظاهره أنه للأزواج ، لأن الأخذ والإيتاء من الإزواج حقيقة ، فنهوا ان يأخذوا شيئاً ، لأن العادة جرت بشح النفس وطلبها ما أعطت عند الشقاق والفراق ، وجوزوا أن يكون الخطاب للأمة والحكام ليلتئم مع قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } لأنه خطاب لهم لا للأزواج ، ونسب الأخذ والايتاء إليهم عند الترافع ، لأنهم الذين يمضون ذلك .

ومن قال : أنه للأزواج أجاب بأن الخطاب قد يختلف في الجملتين ، فيفرد كل خطاب إلى من يليق به ذلك الحكم ، ولا يستنكر مثل هذا ، ويكون حمل الشيء على الحقيقة إذ ذاك أولى من حمله على المجاز ، { وَمِمَّا } ظاهر في عموم وما أتوا على سبيل الصداق أو غيره من هبة ، وقد فسره بعضهم بالصدقات ، واللفظ عام ، { وشيئاً } إشارة إلى خطر الأخذ منهن ، قليلاً كان أو كثيراً ، { وشيئاً } نكرة في سياق النهي فتعم ، و : مما ، متعلق بقوله : تأخذوا ، أو بمحذوف فيكون في موضع نصب على الحال من قوله : شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان نعتاً له .

{ إِلاَّ أَن يَخَافَا أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ الله } الألف في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين ، وهو من باب الالتفات ، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب ، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب ، فتقول : أنت وزيد تخرجان ، ولا يجوز يخرجان ، وكذلك مع التكلم نحو : أنا وزيد نخرج ، ولما كان الاستثناء بعد مضى الجملة للخطاب جاز الالتفات ، ولو جرى على النسق الأول لكان : إلاَّ أن تخافوا أن لا تقيموا ، ويكون الضمير إذ ذاك عائداً على المخاطبين وعلى أزواجهم ، والمعنى : إلاَّ أن يخافا أي : صنفا الزوجين ، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية ، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سبباً لمواقعة الكفر ، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت ، { وَأَنْ يَخَافَا } قيل : في موضع نصب على الحال ، التقدير : إلاَّ خائفين ، فيكون استثناء من الأحوال ، فكأنه قيل : فلا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً في كل حال إلاَّ في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله ، وذلك أنّ : أن ، مع الفعل بتأويل المصدر ، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو منصوب على الحال ، وهذا في إجازته نظر ، لأن وقوع المصدر حالاً لا ينقاس ، فأحرى ما وقع موقعه ، وهو : أن الفعل ، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون : أن والفعل ، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل .

ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله : { والمطلقات يتربصن } لكنه أمر ندب لا إيجاب ، إذ لو كان واجباً لما استحق الأجرة .

/خ233