التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

29

تعليق خاص على الآية :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } والآية التالية لها

وما ورد في صدد كنز الفضة والذهب وأداء الزكاة من أحاديث

وأقوال ، وما انطوى في ذلك من صور وتلقين ، وتمحيص ما روي من تأخر فرض الزكاة ، واستطراد إلى حركة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

وأسلوب الفقرة الثانية من الآية الأولى أي : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } عام كما هو ظاهر . غير أن وصف الرهبان والأحبار بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله في الفقرة الأولى من الآية يكون قرينة على أن الفقرة الثانية تعنيهم بالدرجة الأولى . فأكلهم أموال الناس بالباطل كان يؤدي إلى اكتنازهم الذهب والفضة . وصدهم عن سبيل الله كان لاستبقاء الوسيلة إلى الاكتناز في يدهم وبذلك تكون الآية محكمة التنديد والإلزام ويكون الإنذار الرهيب المذكور فيها وفي الآية التالية لها موجها إليهم بالدرجة الأولى .

على أن أسلوبها العام يسوغ القول أنها احتوت في الوقت نفسه توجيها وإنذارا عامين على سبيل الاستطراد إلى كل من يكتنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله . ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن المقصود في الآية هم أهل الكتاب ، ولكنها في الوقت نفسه عامة وخاصة أي فيهم وفي المسلمين معا . وهذا متطابق مع ما قررناه آنفا .

ولقد روى المفسرون ( 1 ){[1070]} ، أحاديث عديدة نبوية وصحابية في صدد ومعنى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } وفي إباحة اكتناز المال وذمه فقد روى أبو داود والحاكم ومالك عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز وفي رواية ما أدي زكاته فليس بكنز ) ( 2 ){[1071]} . وقد أخرج الترمذي والحاكم حديثا آخر عن أبي هريرة مرفوعا جاء فيه : ( إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ) ( 3 ){[1072]} . وروي عن ابن عمر أن الكنز هو كل مال لا تؤدى زكاته ولو كان غير مدفون وإن قل ، وأن كل مال تؤدى زكاته ليس كنزا ولو كان مدفونا وإن كثر . وروي مثل هذا عن ابن عباس . وروي عن ابن عمر كذلك قوله : لا أبالي لو أن لي مثل أحد ذهبا أعلم عدده أزكيه وأعمل بطاعة الله فيه . وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث جاء فيه : ( نعم المال الصالح للعبد الصالح ) . وحديث آخر أنه لما نزلت الآية كبر ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يدع لولده شيئا فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : إن هذه الآية قد كبرت على أصحابك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم ، فكبر عمر . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته . وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته ) .

فهذه الأحاديث تفيد كما هو واضح أنه لا حرج من حيازة المال ولو كثر إذا أديت زكاته وأن الإنذار هو للذين لا يؤدون زكاة أموالهم . وأن معنى : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ } لا يؤدون الزكاة عنها التي جعلت للإنفاق في سبيل الله . ولقد روى المفسرون ( 1 ){[1073]} ، في سياق تفسير الآية أحاديث نبوية رهيبة الإنذار للذين لا يؤدون زكاة أموالهم . منها حديث رواه أبو هريرة جاء فيه : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزميه – أي شدقيه – ثم يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ) ( 2 ){[1074]} . ومنها حديث آخر عن أبي هريرة أيضا جاء فيه : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره ، كل ما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار . قيل : يا رسول الله فالإبل ؟ قال : ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها ، ومن حقها حلبها يوم وردها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلا واحدا تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار . قيل : يا رسول الله فالبقر والغنم ؟ قال : ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كل ما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) ( 1 ){[1075]} . حيث يبدو من هذه الأحاديث الاهتمام العظيم الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوليه لإيتاء الزكاة اتساقا مع القرآن الذي يوليها مثل ذلك بكثرة ترديدها والتوكيد على إيتائها والتنويه بفاعليها واعتبارها دليلا لا بد منه على صدق إيمان المسلم . ولا غرو فهي دعامة التضامن الاجتماعي والسلطان الإسلامي في آن واحد على ما شرحناه في المناسبات العديدة السابقة .

وإلى جانب الأحاديث الواردة في معنى الكنز وإباحة الاكتناز إذا أديت زكاته روى المفسرون أحاديث فيها تحديد للحد الأعلى الذي يكون ما فوقه كنز يحق على صاحبه الإنذار وفيها ذم لاكتناز المال والذهب والفضة إطلاقا . فقد روي عن علي بن أبي طالب قوله : إن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم سواء أديت زكاته أم لم تؤد ، وما دون ذلك نفقة لا حرج في حيازته . وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن علي بن أبي طالب جاء فيه : ( لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تبا للذهب ، تبا للفضة ثلاث مرات . فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر : أنا أعلم لكم ذلك ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم . قالوا : أي المال نتخذ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة صالحة تعين أحدكم على دينه ) ( 2 ){[1076]} .

والحديث قد يفيد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهموا أن المذموم هو نوع المال أي عين الذهب والفضة لا جنس المال ، فكان جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منبها إلى أن المذموم هو الجنس على ما هو المتبادر . وفي الحديث الطويل الذي أوردناه آنفا صراحة أكثر ؛ لأنه شمل الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم . وقد روى الطبري هذا الحديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة . وروى معه عن ثوبان حديثا جاء فيه : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده ) ( 1 ){[1077]} . وروي عن أبي سعيد حديث جاء فيه : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا . قال : يا رسول الله كيف لي بذلك ؟ قال : ما سئلت لا تمنع ما رزقت لا تخبأ . قال : يا رسول الله كيف لي بذلك قال : هو ذاك وإلا فالنار ) . وروي عن قتادة : ( أن رجلا من أهل الصفة مات ، فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( كية ) ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال كيتان ) . وهناك أحاديث أخرى وردت في الكتب الخمسة في ذم المال والاكتناز والتحذير من فتنتهما . منها حديث رواه الترمذي عن كعب بن عياض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال ) ( 2 ){[1078]} . وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا ) ( 3 ){[1079]} . وحديث رواه البخاري عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا ) ( 4 ){[1080]} . وحديث رواه مسلم والترمذي عن مطرف عن أبيه قال : ( انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ألهاكم التكاثر . قال : يقول ابن آدم مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت ، أو أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ) ( 5 ){[1081]} . وحديث رواه أبو داود عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( أما إن كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا ، إلا ما لا ، يعني ما لا بد منه ) ( 1 ){[1082]} . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة ، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض ) ( 2 ){[1083]} .

وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( قد أفلح من أسلم ، وكان رزقه كفافا وقنعه الله ) ( 3 ){[1084]} . وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة . فقالت عائشة : لم يا رسول الله ؟ قال : إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ) ( 4 ){[1085]} . وحديث رواه الترمذي عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يا عائشة إن أدرت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا كزاد الراكب ، وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تستخلقي ثوبا حتى ترقعيه ) ( 5 ){[1086]} . وحديث رواه الترمذي عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء ) ( 6 ){[1087]} . وحديث رواه الترمذي عن عبيد الله بن محصن عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ) ( 7 ){[1088]} . وحديث رواه الترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ، ذو حظ من الصلاة ، أحسن عبادة ربه ، وأطاعه في السر ، وكان غامضا في الناس ، لا يشار إليه بالأصابع ، وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك ، ثم نفض يده فقال : عجلت منيته ، قلت بواكيه ، قل تراثه ) ( 8 ){[1089]} . وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( إن هذا المال حلو من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو ، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع ) ( 1 ){[1090]} . وحديث رواه البغوي عن أبي ذر قال : ( انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : هم الأخسرون ورب الكعبة . فجئت حتى جلست فلم أتقار أن قمت فقلت : يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم ؟ فقال : الأكثرون أموالا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم ) . وروي عن أبي ذر أنه كان يقول من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة . ولقد روي عن زيد بن وهب قال : ( مررت على أبي ذر بالربذة – وهي قرية من قرى المدينة – فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ؟ قال : كنا بالشام فقرأت : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . . . . . . } فقال معاوية : ما هذه فينا ، ما هذه إلا في أهل الكتاب . فقلت : إنها لفينا وفيهم فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقبل إليه ، فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان فقال لي : تنح قريبا . قلت : والله لن أدع ما كنت أقول ) ( 2 ){[1091]} . ويروي الطبري في تاريخه بعض مواقف أبي ذر من هذا الباب ويقول : إن الفقراء ولعوا بما كان أبو ذر يقوله ، وصاروا يوجبونه على الأغنياء ، حتى شكا الأغنياء ما يلقونه من الناس ، فكان ذلك مما جعل عثمان يستدعي أبا ذر مع الرفق به . ومما رواه أن عثمان قال لأبي ذر : ما لأهل الشام يشكون منك ؟ فقال : لا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا . فقال عثمان : علي أن أقضي ما علي وآخذ ما على الرعية ولا أجبرهم على الزهد ولا أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد ( 1 ){[1092]} .

وقد عقب المفسر ابن كثير على حديث أبي ذر بقوله : ( كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه وأنزله بالربذة . ومما رواه المفسر : أن معاوية أراد أن يختبره ، فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يوميه ، ثم بعث الذي أتاه بها ليقول له : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال له : ويحك إنها خرجت ، ولكن إذا جاء ما لي حسبانك به .

ولقد عقب الطبري على هذه الأحاديث والأقوال قائلا : وأولى الأقوال بالصحة هو أن كل مال أديت زكاته فليس بكنز يحرم على صاحبه اكتنازه وإن كثر ، وأن كل مال لم تؤد زكاته فصاحبه معاقب وإن قل إذا كان مما تجب فيه الزكاة . وعقب البغوي قائلا : إن القول الأول هو الأصح ؛ لأن الآية في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال . وقد علق النيسابوري والزمخشري والخازن والنسفي والطبري تعليقات مماثلة أيضا . وقد يكون هذا هو المتسق مع طبائع النفوس والأمور . فليس من ذلك أن يطلب من كل الناس أن لا يحتازوا مالا ، أو أن ينفقوا ما يحتازونه دون أن يدخروه أو ينفقوا معظمه . وكل ما يتسق مع ذلك هو أن يطلب منهم أداء ما فرضه الله عليهم من حق . وقد يكون الهدي النبوي في الأحاديث التي ذكر فيها : ( أن المال الذي يؤدي زكاته ليس كنزا ، وأن نعم المال الصالح للعبد الصالح ، وأن الله إنما فرض الزكاة ليطيب بها ما بقي عند الناس من أموال ، وأن المال الذي يفعل به الخير نعم المعونة هو ) هو الاتساق مع طبائع الأمور والنفوس في شأن ليس محرما تحريما باتا . ويمكن أن يضاف إلى هذا أن الهدي القرآني لا يمنع المسلمين من الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق إذا ما راعوا الاعتدال والقصد ؛ لأن ذلك هو المتسق مع تلك الطبائع . غير أن قوة الزجر في الآيتين اللتين نحن في صددهما والأحاديث العديدة الأخرى التي لا نرى تناقضا بينها وبين هذا الاتساق الذي يراعيه هدي القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم معا تسوغ القول : إنها تنطوي في الوقت نفسه على تلقين قوي بشجب اكتناز المال والتكالب عليه وحبسه عن سبيل الله ومصالح المسلمين ومحتاجيهم وعمل الخير ، حتى ولو احتازوه بطرق مشروعة ولو أدوا القدر الزهيد المفروض عليها زكاة . ومن الجدير بالذكر والتأمل :

أولا : إن القليلين من الأغنياء هم الذين يؤدون الزكاة بحقها . أما الأكثر فإما أنهم لا يؤدونها بالمرة ، وإما أنهم يؤدون قدرا أقل من المستحق عليهم . ومعنى هذا أن أكثر الأغنياء هم موضوع الإنذار الرهيب الذي تضمنته الآيات من جهة . وقد فقدوا التكأة التي تجعل حيازتهم للكنوز سائغة على ضوء بعض الأحاديث من جهة أخرى ، ونعني بها إعطاء الزكاة كاملة عنها .

وثانيا : إن كثرة الثروة في أيدي الأفراد مؤدية في الأعم الأغلب كما هو مشهود دائما في أيامنا بنوع خاص إلى التبذير والإسراف والفسق والفجور والبغي والاستعلاء على الفقراء المحرومين ، وهو المستنكر المندد به والمنهي عنه في آيات وأحاديث كثيرة على ما نبهنا عليه ، أوردنا نصوصه في سور سبق تفسيرها مما يجعل التلقين القرآني واللغوي أشد لزاما واستحكاما .

وثالثا : إن سبيل الله الذي أنذرت الآيات الذي لا ينفقون أموالهم فيها ذلك الإنذار الرهيب هي الدعوة الإسلامية نفسها من نطاقها نشر الدعوة وحمايتها والدفاع عنها وحماية الإسلام والمسلمين من البغي والعدوان . وتوفير الكرامة والعزة والحرية لهما على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المزمل ، وكل هذا من مهام السلطان وأولي أمر المسلمين .

وبناء على ذلك كله يسوغ القول : إن لأولياء أمر المسلمين أن يعالجوا أمر استقطاب الثروة في جانب واستقطاب الفقر والعوز في جانب وتعديل الفروق بأساليب متنوعة تضمن منع الأفراد عن التبذير والسفه والاستعلاء مع عدم الإجحاف بحق الحيازة المعتدلة وحاجات الحياة المشروعة من جهة وسد حاجة سبيل الله ووجوه الخير ومساعدة المحتاجين من جهة أخرى . ولعل الفاروق رضي الله عنه حينما قال كلمته المشهورة : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء وفرقتها على الفقراء ) ( 1 ){[1093]} . كان يستوحي من هذا التلقين القرآني والنبوي . والله تعالى أعلم .

ومن الجدير بالذكر أن آيات التوبة التي نحن في صددها ليست هي الوحيدة في بابها ، فإن الآيات التي تندد بحب المال حبا جما والتكاثر فيه والبخل به عن سبيل الله والمحتاجين وبالذين ينهجون هذا المنهج وتنذرهم ، قد تكررت كثيرا في سور عديدة مكية ومدنية . وكل ما في الأمر أن أسلوب آيات التوبة قد جاء على أشد ما يكون زجرا وإنذارا ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك في أواخر ما نزل من القرآن ليظل شديدا على الأسماع والأذهان . والله أعلم .


[1070]:انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري. والنصوص التي ننقلها هي من الطبري والبغوي وابن كثير.
[1071]:التاج ج 2 ص 6.
[1072]:تفسير القاسمي.
[1073]:انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والقاسمي. ومعظم ما نورده من نصوص وارد في تفسير الطبري.
[1074]:روى هذا الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 7.
[1075]:روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي. انظر التاج ج 2 ص 6 – 7.
[1076]:روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصيغة: (لما نزلت الآية قال: بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزل في الذهب والفضة ما أنزل لو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) انظر التاج ج 4 ص 116.
[1077]:أوردناه قبل حديثا رواه الشيخان عن أبي هريرة صيغته مقاربة لهذه الصيغة مع فارق مهم هو أن الوعيد لمن لا يؤدي زكاة كنزه.
[1078]:التاج ج 5 ص 147 – 159.
[1079]:المصدر نفسه.
[1080]:المصدر نفسه.
[1081]:المصدر نفسه.
[1082]:التاج ج 5 ص 147 – 159.
[1083]:المصدر نفسه.
[1084]:المصدر نفسه.
[1085]:المصدر نفسه.
[1086]:المصدر نفسه.
[1087]:المصدر نفسه.
[1088]:المصدر نفسه.
[1089]:المصدر نفسه.
[1090]:التاج ج 5 ص 147 – 159.
[1091]:روى هذا الطبري وروى البخاري شطرا من هذا الحديث وهو هذا عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرات: {والذين يكنزون الذهب والفضة....................} الآية. قال معاوية: ما هذه فينا ما هي إلا في أهل الكتاب قلت إنها لفينا وفيهم. وقال ابن عمر هذا قبل الزكاة. فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال) التاج ج 4 ص 116 ونقول استطرادا: إن كلام ابن عمر يوهم أن الزكاة فرضت بعد هذه الآية. وهناك من قال: إن آية الزكاة نسخت هذه الآية وإن الزكاة فرضت في السنة التاسعة. وقال القاسمي الذي أورد هذا: إن ابن كثير جزم بذلك في تاريخه. وإن بعضهم قواه بسبب كون آيات الصدقات في هذه السورة قد نزلت بعد هذه الآية. والمقصود من آية الزكاة وآية الصدقات هو هذه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}. وهذا القول غريب من نواح عديدة. فالزكاة ذكرت في سور مكية مبكرة ثم ظلت تذكر متلازمة مع الصلاة في السور المكية ثم في السور المدنية بأسلوب يفيد بكل قوة أنها كانت مفروضة وممارسة في العهد المكي. وهناك آيات مكية قوية الدلالة على أن مقدارها كان معينا، وكان المسلمون يؤدونه مثل آيات سورة المعارج هذه: {والذين في أموالهم حق معلوم (24) للسائل والمحروم (25)} وآية الصدقات أو الزكاة المذكورة ليست في صدد فرض الزكاة وإنما هي في صدد ذكر المصارف التي تصرف فيها. بل إن أسلوبها لا يدل على أن هذه المصارف تعين تعيينا جديدا. وإنما هو في صدد تقرير ذلك كأنما هو المعروف الذي يجب أن يوقف عنده. والرقاب ورد ذكرها في معرض ما يجب الإنفاق عليه في آية سورة البقرة (177) وليس في القرآن والحديث ما يفيد أن الزكاة فرضت في العهد المدني فضلا عن أواخره. ونحن نجل ابن عمر رضي الله عنه عن أن يجهل ذلك. ولذلك فإما أن يكون كلامه نقل محرفا أو أن المقصود منه هو أن الآية في حق الذين لم يؤتوا الزكاة، وأن الزكاة جعلت طهرا للأموال. وهذا هو ما جاء في الحديث النبوي المروي سابقا والله أعلم.
[1092]:تاريخ الطبري ج 3 ص 335.
[1093]:تاريخ الطبري ج 3 ص 291.