الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يخرجون حقوق الله منها يا محمد بعذاب أليم "يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا في نارِ جَهَنّم "فاليوم من صلة العذاب الأليم، كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم يعذّبهم الله به في يوم يحمى عليها. ويعني بقوله: "يُحْمَى عَلَيْهَا" تدخل النار فيوقد عليها أي على الذهب والفضة التي كنزوها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وكل شيء أدخل النار فقد أُحمي إحماء، يقال منه: أحميت الحديدة في النار أحميها إحماء.

وقوله: "فَتُكْوَى بها جبِاهُهُمْ" يعني بالذهب والفضة المكنوزة، يحمى عليها في نار جهنم يكوي الله بها، يقول: يحرق الله جباه كانزيها وجنوبهم وظهورهم. "هَذَا ما كَنَزْتُمْ" ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها "لأنفسكم فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" يقول: فيقال لهم: فأطعموا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوق الله وتكنزونها مكاثرة ومباهاة. وحذف من قوله «هذا ما كنزتم» و «يقال لهم» لدلالة الكلام عليه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وقوله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) الآية قد جعل الله تعذيب الكفرة في الآخرة بالأسباب التي منعتهم عن طاعة الله، ودعتهم إلى مخالفة أمره، ويجمع بينهما في النار كقوله: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض شيطانا فهو له قرين) [الزخرف: 36] وقوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) [الصافات: 22] ونحو ذلك. فعلى ذلك ما كنزوا (يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) يعذبهم بها لما منعتهم تلك الأموال عن طاعته ودعتهم إلى صد الناس عن سبيل الله، يجعل عذابهم في الآخرة بها. ويحتمل قوله: (جباههم) كناية على التقديم إلى الآخرة أي لم يقدموها، ولم ينفقوها في سبيل الله، وقوله (وجنوبهم) لما أخذوها مما يحل ومما لا يحل من كل جهة، وقوله وظهورهم لما أنفقوها في الصد عن سبيل الله. ويحتمل ذكر هذا إحاطة العذاب بهم من كل الجهات كقوله: (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) [الأعراف: 41] وقوله: (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) [الزمر: 16] أي يحيط العذاب بهم. فعلى ذلك هذا، والله أعلم...

وقوله تعالى: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ) الآية روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها من نار جهنم ثم يكوى بها جبينه وجبهته وظهره (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) [المعارج: 4]... حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» [مسلم 26/987]...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وإنما غلظ بهذا الوعيد لما في طباع النفوس من الشح بالأموال ليسهل لهم تغليظ الوعيد إخراجها في الحقوق.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لمَّا طلبوا الجاهَ عند الخلْقِ بمالِهم، وَبَخلوا بإخراج حقِّ الله عنه شَانَ وجوهَهم. ولمَّا أسندوا ظهورَهم إلى أموالهم. قال تعالى: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}. ويقال: لمَّا (عبسوا) في وجوه العفاة وعقدوا حواجِبَهم وُضِعَتْ الكيَّةُ على تلك الجباه المقبوضة عند رؤية الفقراء، ولمَّا طَوَوْا كَشْحَهُم دون الفقراء -إذا جالسوهم- وَضَعَ المِكوَاةَ على جُنُوبِهم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: لم خصّت هذه الأعضاء؟ قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم -حيث لم ينفقوها في سبيل الله- إلاّ الأغراضَ الدنيوية، ومن وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصوناً عندهم، يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذهب أهل الدثور بالأجور" وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه وتولوا بأركانهم وولوه ظهورهم. وقيل: معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم ومآخيرهم وجنوبهم {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول. وقوله: {لأَنفُسِكُمْ} أي كنزتموه لتنتفع به نفوسكم وتلتذ وتحصل لها الأغراض التي حامت حولها وما علمتم أنكم كنزتموه لتستضر به أنفسكم وتتعذب وهو توبيخ لهم {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ}...أي وبال المال الذي كنتم تكنزونه أو وبال كونكم كانزين.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... وردت أحاديث كثيرة في معنى هذه الآية من الوعيد لكنها مفسرة في منع الزكاة فقط لا في كسب المال الحلال وحفظه، ويؤيد ذلك حال أصحابه وأموالهم رضي الله عنهم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

السؤال الثالث: لم خصت هذه الأعضاء؟

والجواب لوجوه:

أحدها: أن المقصود من كسب الأموال حصول فرح في القلب يظهر أثره في الوجوه، وحصول شبع ينتفخ بسببه الجنبان، ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلما طلبوا تزين هذه الأعضاء الثلاثة، لا جرم حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور.

...

.

ورابعها: أن المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع، إما من مقدمه فعلى الجبهة، وإما من خلفه فعلى الظهور، وإما من يمينه ويساره فعلى الجنبين. وخامسها: أن ألطف أعضاء الإنسان جبينه والعضو المتوسط في اللطافة والصلابة جنبه، والعضو الذي هو أصلب أعضاء الإنسان ظهره، فبين تعالى أن هذه الأقسام الثلاثة من أعضائه تصير مغمورة في الكي، والغرض منه التنبيه على أن ذلك الكي يحصل في تلك الأعضاء.

وسادسها: أن كمال حال بدن الإنسان في جماله وقوته أما الجمال فمحله الوجه، وأعز الأعضاء في الوجه الجبهة، فإذا وقع الكي في الجبهة، فقد زال الجمال بالكلية، وأما القوة فمحلها الظهر والجنبان، فإذا حصل الكي عليها فقد زالت القوة عن البدن، فالحاصل: أن حصول الكي في هذه الأعضاء الثلاثة يوجب زوال الجمال وزوال القوة، والإنسان إنما طلب المال لحصول الجمال ولحصول القوة...

ثم إنه تعالى قال: {هذا ما كنزتم لأنفسكم} والتقدير: فيقال لهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا والغرض منه تعظيم الوعيد، لأنهم إذا عاينوا ما يعذبون به من درهم أو من دينار أو من صفيحة معمولة منهما أو من أحدهما جوزوا فيه أن يكون عن الحق الذي منعه وجوزوا خلاف ذلك، فعظم الله تبكيتهم بأن يقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم لم تؤثروا به رضا ربكم ولا قصدتم بالإنفاق منه نفع أنفسكم والخلاص به من عقاب ربكم فصرتم كأنكم ادخرتموه ليجعل عقابا لكم على ما تشاهدونه، ثم يقول تعالى: {فذوقوا ما كنتم تكنزون} ومعناه لم تصرفوه لمنافع دينكم ودنياكم على ما أمركم الله به {فذوقوا} وبال ذلك به لا بغيره.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم، فنصب بذلك قوله: {يوم يحمى} أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد {عليها} أي الأموال التي جمعوها {في نار جهنم} أي التي لا يقاربها ناركم، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة {فتكوى بها} أي بهذه الأموال {جباههم} التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء {وجنوبهم} التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء {وظهورهم} التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان. ثم يقال لهم: {هذا ما كنزتم} وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله: {لأنفسكم} أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله {فذوقوا ما} أي وبال وعذاب ما {كنتم تكنزون} أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على ذلك...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{يوم يحمى عليها في نار جهنم} الظرف هنا يتعلق بقوله تعالى قبله {بعذاب أليم}، وقد بينا من قبل أن الأصل في البشارة الخبر المؤثر يظهر تأثيره في بشرة الوجه بالسرور أو الكآبة، ولكن غلب في الأول، ولذلك يحمل في مثل هذا المقام على التهكم والمراد به الإنذار، أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم- أي دار العذاب- بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها، فهو كقوله تعالى: {وما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع} [الرعد: 17]، وهو أبلغ من "يوم تحمى"، فتكون من الإحماء عليها كالميسم. وظاهر العبارة أنه يحمى عليها بأعيانها والله قادر على إعادتها، وإن كان المعنى المراد من الإنذار يحصل بالإحماء عليها وعلى مثلها، وليس في أعيانها من المعنى ولا الحكمة ما في إعادة الأجساد، وأمور الآخرة من عالم الغيب، فلا ندرك كنهها وصفاتها من الألفاظ المعبرة عنها، فمذهب السلف الحق الإيمان بالنصوص مع تفويض أمر الكنه والصفة إلى عالم الغيب سبحانه، والواجب علينا مع الإيمان بالنص العبرة المرادة منه في إصلاح النفس. ويرد عليه أن هذه الأموال تفنى بخراب الدنيا وصيرورة الأرض بقيام الساعة هباء منبثاً، ويجاب عنه بما أجيب عن القول بإعادة الأجساد بأعيانها من قدرة الله تعالى على ذلك. وأهون منه إيراد كون الدرهم أو الدينار الواحد قد يكنزه كثير من الناس بالتداول، وقد يقال: إنهم يكوون بها بالتناوب، وفي معناه إيرادهم على إعادة الأعيان أن جسد الإنسان الواحد قد يكون جسداً لكثير من الناس والحيتان والوحوش والأنعام، وتقدم تفصيل هذا في الكلام على بعث الأجساد من سورة الأعراف. وفي بعض الآثار أن الدنانير والدراهم المكنوزة تحمى كلها وإن كثرت، ويتسع جسده لها كلها، حتى لا يوضع دينار مكان دينار، ولم يصح هذا مرفوعاً، وإنما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: (ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره) الحديث، والصفائح غير الدراهم والدنانير، وهي بالرفع نائب الفاعل لجعل، فيجوز أن تكون مما يخلقه الله يوم القيامة، ورواية الرفع هي المشهورة. قال الشراح: وفي رواية بالنصب. وفي البخاري والنسائي عنه مرفوعاً أيضا: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمته يقول: أنا مالك، أنا كنزك)، ثم تلا صلى الله عليه وسلم آية {سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [آل عمران: 180]، وفي رواية للنسائي (إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، فليزمه أو يطوقه. يقول: أنا كنزك إنا كنزك)، فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في أن ذلك التعذيب بجعل المال صفائح يكوى بها مانع الزكاة أو شجاعا (وهو ذكر الحيات) يطوقه، إنما هو ضرب من التمثيل أو التخييل، لا نفس ذلك المال الذي كان يكنزه في الدنيا، وبه يبطل كل إيراد ويزول كل إشكال، والتعذيب حقيقي على كل حال. {فتكوى بها جباههم} التي كانوا يستقبلون بها الناس منبسطة أساريرها من الاغتباط بعظمة الثروة، ويستقبلون بها الفقراء منقبضة متغضنة من العبوس والتقطيب في وجوههم لينفروا ويحجموا عن السؤال. {وجنوبهم وظهورهم} التي كانوا يتقلبون بها على النعمة اضطجاعا واستلقاء، ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات ازوراراً وإدباراً، فلا يكون لهم في جهنم ارتفاق ولا استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على وجوههم، كما قال: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر} [القمر: 48] وكذلك قال هنا. {هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم: هذا العذاب الأليم الواقع بكم هو جزاء ما كنتم تكنزون في الدنيا، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفرد بالتمتع به. {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي ذوقوا وباله ونكاله، أو وبال كنزكم له، وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله. وحاصل المعنى أن ما كنتم تظنون من منفعة كنزه لأنفسكم خاصة بها، لا يشارككم فيها أحد، قد كان لكم خُلفاً، وعليكم ضدا، فإنه صار في الدنيا لغيركم، وكان عذابه في الآخرة هو الخاص بكم، كدأب جميع أهل الباطل، فيما زين لهم من الرذائل، يرى البخلاء أن البخل حزم، كما يرى الجبناء أن الجبن حزم، وتلك خديعة الطبع اللئيم، واجتهاد الرأي الأفين، فالأولون من خوف الفقر في فقر، والآخرون يعرضون أنفسهم للأذى أو الموت بهربهم من الموت، فإن جبنهم هو الذي يغري المعتدين بإيذائهم، ويمكن المقاتلين من الفتك بهم. وإن أكبر أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وتمكين أعدائهم من سلب ملكهم، ومحاولة تحويلهم عن دينهم هو بخل أغنيائهم، وجبن ملوكهم وأمرائهم، وقوادهم وزعمائهم، الذي جعلهم أعوانا لسالبي ملكهم على أنفسهم. وقد تقدم بيان هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، فلو أسس الأغنياء مدارس للجمع بين تعليم العلوم الدينية والدنيوية، لاستغنوا بها عن مدارس دعاة النصرانية، ولأمكن للمصلحين منهم إذا تولوا إدارتها أن يخرجوا لهم فيها رجالاً يحفظون للأمة دينها وملكها، ويعيدون إليها مجدها، ويجذبون أقوام أولئك المعتدين عليها إلى الإسلام فيدخلون فيه أفواجا، ويعود الأمر كما بدأ...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة،... وذكر اللّه في هاتين الآيتين، انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين: إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة اللّه، وإخراجها للصد عن سبيل اللّه. وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و {النهي عن الشيء، أمر بضده}...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... والسياق القرآني يصور عذابهم في الآخرة بما كنزوا، وعذاب كل من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل اللّه، في مشهد من المشاهد التصويرية الرائعة المروعة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).. إن رسم المشهد هكذا في تفصيل؛ وعرض مشهد العملية منذ خطواتها الأولى إلى خطواتها الأخيرة، ليطيل المشهد في الخيال والحس.. وهي إطالة مقصودة: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشرهم بعذاب أليم).. ويسكت السياق: وتنتهي الآية على هذا الإجمال والإبهام في العذاب.. ثم يأخذ في التفصيل بعد الإجمال: (يوم يحمى عليها في نار جهنم). وينتظر السامع عملية الإحماء! ثم ها هي ذي حميت واحمرت. وها هي ذي معدة مهيأة. فليبدأ العذاب الأليم... ها هي ذي الجباه تكوى... لقد انتهت عملية الكي في الجباه، فليداروا على الجنوب... ها هي ذي الجنوب تكوى... لقد انتهت هذه فليداروا على الظهور... ها هي ذي الظهور تكوى... لقد انتهى هذا اللون من العذاب؛ فليتبعه الترذيل والتأنيب: (هذا ما كنزتم لأنفسكم).. هذا هو بذاته الذي كنزتموه للذة، فانقلب أداة لهذا اللون الأليم من العذاب! (فذوقوا ما كنتم تكنزون)! ذوقوه بذاته، فهو هو الذي تذوقون منه مسه للجنوب والظهور والجباه! ألا إنه لمشهد مفزع مروع، يعرض في تفصيل وتطويل وأناة! وهو يعرض أولاً لتصوير مصائر الكثير من الأحبار والرهبان.. ثم لتصوير مصائر الكانزين للذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل اللّه.. والسياق يمهد لغزوة العسرة كذلك حينذاك! وبعد. فلا بد أن نقف هنا وقفة قصيرة للتعقيب. نبرز فيها دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ومن دين ومن خلق ومن سلوك -وذلك بالإضافة إلى الإشارات التي أوردناها خلال الفقرات السابقة. إن تعرية أهل الكتاب من شبهة أنهم على شيء من دين اللّه، ألزم وأشد ضرورة من بيان حال المشركين الصريحين في شركهم، الشاهدين على أنفسهم بالكفر بظاهر عقائدهم وشعائرهم.. ذلك أن نفوس المسلمين لا تنطلق الانطلاق الكامل لمواجهة الجاهلية إلا حين يتجلى لها تماماً وجه الجاهلية! ووجه الجاهلية مكشوف صريح فيما يختص بالمشركين؛ وليس الحال كذلك فيما يختص بأهل الكتاب [ومن يزعمون أنهم على شيء من دين اللّه من أمثالهم، كالشأن في الغالبية العظمى ممن يدعون أنفسهم اليوم "مسلمين "] ولقد احتاج الانطلاق الكامل لمواجهة المشركين كثيراً من البيان في هذه السورة، نظراً للملابسات التي شرحناها في التقديم لهذه السورة وفي التقديم للمقطع الأول منها كذلك. حيث قال اللّه- سبحانه -للمؤمنين: (كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله. إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إن اللّه يحب المتقين. كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة؛ يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون. اشتروا بآيات اللّه ثمناً قليلاً فصدوا عن سبيله، إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة وأولئك هم المعتدون). ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدأوكم أول مرة؟ أتخشونهم؟ فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين. قاتلوهم يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم، ويتوب اللّه على من يشاء، واللّه عليم حكيم (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد اللّه شاهدين على أنفسهم بالكفر، أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون). (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون)...

الخ... الخ... وإذا كان الانطلاق لمجاهدة المشركين قد اقتضى كل هذه الحملة- وأمرهم ظاهر -نظراً لتلك الملابسات التي كانت قائمة في التكوين العضوي للمجتمع المسلم في تلك الفترة.. فقد كان الانطلاق لمجاهدة أهل الكتاب في حاجة إلى حملة أشد وأعمق. تستهدف- أول ما تستهدف -تعرية أهل الكتاب هؤلاء من تلك "اللافتة "الشكلية التي لم تعد وراءها حقيقة؛ وتظهرهم على حقيقتهم الواقعية.. مشركين كالمشركين.. كفاراً كالكفار.. محاربين للّه ولدينه الحق كأمثالهم من المشركين الكافرين.. ضلالاً يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه..

في مثل هذه النصوص القاطعة الصريحة:"قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقالت اليهود:عزير ابن اللّه، وقالت النصارى:المسيح ابن اللّه. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل. قاتلهم اللّه! أنى يؤفكون؟ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون. يريدون أن يطفئوا نور اللّه بأفواههم ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره. ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.. يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل اللّه... الخ".. وذلك بالإضافة إلى التقريرات القرآنية الحاسمة- في السور المكية والمدنية على السواء -عن حقيقة ما انتهى إليه أمر أهل الكتاب من الشرك والكفر والخروج من دين اللّه الذي جاءهم به أنبياؤهم من قبل؛ فضلاً على وقفتهم من رسالة اللّه الأخيرة، التي على أساس موقفهم منها يتحدد وصفهم بالكفر أو بالإيمان. فلقد سبق أن ووجه أهل الكتاب بأنهم ليسوا على شيء من دين اللّه أصلاً في قوله تعالى: (قل:يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل.. وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس على القوم الكافرين). [المائدة:68]. كذلك سبق وصفهم بالكفر، وضمهم إلى المشركين في هذه الصفة.. يهوداً ونصارى.. أو مجتمعين في صفة (أهل الكتاب) في مثل قوله تعالى: (وقالت اليهود:يد اللّه مغلولة! غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً...)... [المائدة:64]. (لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه هو المسيح ابن مريم...)... [المائدة:72]. (لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه ثالث ثلاثة...)... [المائدة:73] (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة).. "البينة:1". وغيرها كثير، أثبتنا بعضه فيما تقدم، والقرآن الكريم- مكيُّه ومدنيّه -حافل بمثل هذه التقريرات. وإذا كانت الأحكام القرآنية قد جعلت لأهل الكتاب بعض الامتيازات في التعامل عن المشركين. وذلك كإحلال طعامهم للمسلمين، وإجازة التزوج بالمحصنات [أي العفيفات] من نسائهم.. فإن ذلك لم يكن مبيناً على أساس أنهم على شيء من دين اللّه الحق؛ ولكن كان مراعى فيه- واللّه أعلم -أن لهم أصلاً من دين وكتاب- وإن كانوا لا يقيمونه -فمن الممكن محاكمتهم إلى هذا الأصل الذي يدعون أنهم عليه! فهم في هذا يفترقون عن المشركين الوثنيين الذين لا كتاب لهم؛ لأنه ليس لهم من أصل يردون إليه ويمكن محاكمتهم له.. أما تقريرات القرآن عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب من عقيدة ودين، فهي صريحة وحاسمة في أنهم ليسوا على شيء من دين اللّه؛ بعد ما تركوا كتبهم ودينهم إلى ذلك الذي صنعه لهم أحبارهم ورهبانهم ومجامعهم وكنائسهم! وفي قول اللّه- سبحانه -فصل الخطاب في هذا الموضوع! والمهم الآن أن نبرز دلالة هذا البيان الرباني لحقيقة ما عليه أهل الكتاب من العقيدة والدين.. إن هذه" اللافتة "المضللة التي ليس وراءها شيء من الحقيقة، تحول دون الانطلاق الإسلامي الكامل لمواجهة" الجاهلية". فتتحتم- إذن -إزالة هذه اللافتة؛ وتعريتهم من ظلها الخادع؛ وكشفهم على حقيقتهم الواقعة.. ولا نغفل الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك- والتي أشرنا إليها من قبل -سواء منها ما يختص بالتكوين العضوي لهذا المجتمع يومها، وما يختص بظروف الغزوة ذاتها في الحر والعسرة! وما يختص كذلك بالتهيب من لقاء الروم بسبب ما كان لهم في نفوس العرب- قبل الإسلام -من هيبة وسمعة ومخافة!.. ولكن الأعمق من هذا كله هو ما يحيك في النفس المسلمة، عند الأمر بقتال أهل الكتاب على هذا النحو الشامل.. وهم أهل كتاب!!! وأعداء هذا الدين، الراصدون لحركات البعث الإسلامي الجديدة في هذا الجيل يرصدونها عن خبرة واسعة بطبيعة النفس البشرية، وبتاريخ الحركة الإسلامية، على السواء.. وهم من أجل ذلك حريصون- كل الحرص -على رفع "لافتة إسلامية" على الأوضاع والحركات والاتجاهات والقيم والتقاليد والأفكار التي يعدونها ويقيمونها ويطلقونها لسحق حركات البعث الإسلامي الجديدة في أرجاء الأرض جميعاً. ذلك لتكون هذه اللافتة الخادعة مانعة من الانطلاق الحقيقي لمواجهة "الجاهلية" الحقيقية القابعة وراء تلك اللافتة الكاذبة! لقد أخطأوا- مضطرين -مرة أو مرات في إعلان حقيقة بعض الأوضاع والحركات؛ وفي الكشف عن الوجه الكالح للجاهلية المنقضة على الإسلام فيها.. وأقرب مثال لذلك حركة "أتاتورك" اللاإسلامية الكافرة في تركيا.. وكان وجه الاضطرار فيها هو حاجتهم الملحة إلى إلغاء آخر مظهر للتجمع الإسلامي تحت راية العقيدة. ذلك المظهر الذي كان يتمثل في قيام "الخلافة".. وهو- وإن كان مجرد مظهر -كان آخر عروةتنقض قبل نقض عروة الصلاة! كما قال رسول اللّه- [ص] -" ينقض هذا الدين عروة عروة، فأولها الحكم، وآخرها الصلاة".. ولكن أولئك الأعداء الواعين -من أهل الكتاب والملحدين الذين لا يجتمعون إلا حين تكون المعركة مع هذا الدين!- لم يكادوا يتجاوزون منطقة الاضطرار في الكشف عن الوجهة اللاإسلامية الكافرة في حركة "أتاتورك" حتى عادوا يحرصون بشدة على ستر الأوضاع التالية المماثلة لحركة "أتاتورك" في وجهتها الدينية، بستار الإسلام؛ ويحرصون على رفع تلك اللافتة الخادعة على تلك الأوضاع -وهي أشد خطراً على الإسلام من حركة أتاتورك السافرة- ويفتنون افتناناً في ستر حقيقة هذه الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً؛ ويهيئون لها أسباب الحماية بأقلام مخابراتهم وبأدوات إعلامهم العالمية؛ وبكل ما يملكونه من قوة وحيلة وخبرة؛ ويتعاون أهل الكتاب والملحدون على تقديم المعونات المتنوعة لها؛ لتؤدي لهم هذه المهمة التي لم تنته منها الحروب الصليبية قديماً ولا حديثاً؛ يوم كانت هذه الحروب الصليبية معركة سافرة بين الإسلام وأعدائه المكشوفين الظاهرين! والسذج ممن يدعون أنفسهم "مسلمين" يخدعون في هذه اللافتة.. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن "الجاهلية" القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة.. صفة الشرك والكفر الصريحة.. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة؛ لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة! بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي؛ كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين. هؤلاء السذج -من الدعاة إلى الإسلام- أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين! إن هذا الدين يَغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة -في أي زمان وفي أي مكان- والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون؛ بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج؛ ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام؛ بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة! إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف؛ وإظهارها على حقيقتها.. شركاً وكفراً.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم؛ كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة. بل كيما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم -وهي الحقيقة التي انتهى إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير- عسى أن يوقظهم هذا التنبيه إلى تغيير ما بأنفسهم، ليغير اللّه ما بهم من الشقوة والنكد والعذاب الأليم الذي هم فيه مبلسون! وكل تحرج في غير موضعه؛ وكل انخداع بالأشكال والظواهر واللافتات؛ هو تعويق لنقطة الانطلاق الأولى لأية حركة إسلامية في الأرض جميعاً؛ وهو تمكين لأعداء هذا الدين من مكرهم الذي أرادوه بالحرص على إقامة تلك اللافتات...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

نحن لا نعلم أن النار لا تُحمى إلا للمعادن، فإن كان ما كنزوه أوراق نقد فكيف يُحمى عليها؟ وإن كان ما كنزوه معادن فهي صالحة لأن تُكوى بها أجسادهم، أما الورق فكيف يتم ذلك؟ ونقول: إن القادر سبحانه وتعالى يستطيع أن يجعل من غير المُحمى عليه مُحمى، أو يحولها إلى ذهب وفضة؛ وتكوى بها نَواح متعددة من أجسادهم، والكية هي أن نأتي بمعدن ساخن وتلصقه بالجلد فيحرقه ويترك أثرا. وحين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها دينارا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم:"هذه كيّة من النار"، لأن صاحبه كان حريصا على أن يكنزه، كما وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هاتان كيّتان". كان هذا قبل أن تشرع الزكاة، أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق الله فيه فلا يُعدّ كنزا، وإلا لو قلنا: إنّ الإنسان إذا أبقى بعضا من المال لأولاده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزا، لو قلنا ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها، لأن آيات الميراث جاءت لتورث ما عند المتوفى. والمال المورَّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلال وأدى فيه صاحبه حق الله، لذلك لا يعتبر كنزا. وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ}، لماذا خصَّ الله هذه الأماكن بالعذاب؟ لأن كل جارحة من هذه الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل الله. كيف؟ مثلا: تجدون الوجه هو أداة المواجهة، وإذا رأيت إنسانا فقيرا متجها إليك ليطلب صدقة، وأنت تعرف أنه فقير وقد جاءك لحاجته الشديدة، فإن كان أول ما تفعله حتى لا تؤدي حق الله أن تشيح بوجهك عنه، أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب، فإن هذا الفقير يحس بالمهانة والذلة، لأن الغني قد تركه وابتعد عنه، فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من الغني، فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا، فإذا استمر الفقير واقفا بجانبه فإنه يعطي له ظهره. إذن: فالجوارح الثلاث قد تشترك في منع الإنفاق في سبيل الله، وهي الوجه الذي أداره بعيدا، ثم أعطاه ظهره. هذه هي الجوارح الثلاث التي تشترك في منع حق الله عن الفقير، ولذلك لابد أن تُعذَّب فَتُكْوى الجباه والجنوب والظهور. ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {هذا ما كَنزتم لأنفسكم}، أي: هذا ما منعتم فيه حق الله، فإن كنز الإنسان مالا كثيرا فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالا قليلا؛ لأن الكَيَّ سيكون بمساحة كبيرة، أما إن كان الكنز صغيرا فتكون الكية صغيرة. ولهذا لا يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز؛ لأن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز. وقوله سبحانه وتعالى: {فذوقوا ما كنتم تَكنزون} أي: أن عذابكم في الآخرة سيكون بسبب كنزكم المال، فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سببا في حزنكم؛ لأنكم تكنزون عذابا لأنفسكم يوم القيامة، ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا، فسوف يقابله في الآخرة عذاب، كُلٌّ على قدر ما كنز...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يُحْمَى}: الإحماء: جعل الشيء حاراً في الإحساس وهو فوق الإسخان. {فَتُكْوَى}: الكي: إلصاق الشيء الحار بالعضو من البدن. {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} لتتحول كل تلك الكنوز التي ادخروها ومنعوها عن أهلها إلى نار تحرق الجباه والظهور والجُنُوب، {فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} ويقال لهم في تلك الحال، إننا لم نظلمكم ولم نأت لكم بشيء من عندنا، بل كل هذا الذي ترونه، هو ما جمعتموه من المال في الدنيا، فتحوّل إلى لهيب في الآخرة، {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ} ومنعتموه عن الآخرين البائسين المحرومين {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} لأن الإنسان لا يجني إلا ثمرة عمله؛ إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر. اَية الكنز عامة وشاملة لكل الناس وفي ضوء هذا العرض الذي قدمناه، نفهم أن الآية لا تختص بأهل الكتاب، وإن جاءت في سياق الحديث عنهم، بل هي شاملة لكل الناس، لأنها في معرض الحديث عن الظواهر العامّة التي تمثِّل المبادئ الشاملة لكل أوضاع الحياة. كما أنها لا تختص بزمانٍ دون زمانٍ، فإن مثل هذه القضايا لا تمثل شريعةً محدودةً لتنسخها شريعةٌ أخرى، بل هي شريعةُ الحياة في ما تحتاجه من قواعد للانطلاق والإبداع والاستمرار...