اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡۖ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ} (35)

قوله : " يَوْمَ يحمى " منصوبٌ بقوله : " بِعَذَابٍ أَلِيمٍ " .

وقيل : بمحذوفٍ يدلُّ عليه " عذاب " أي : يُعذَّبُون يوم يُحْمَى ، وقيل : هو منصوبٌ ب " أليم " . وقيل : الأصلُ : عذاب يوم ، و " عذاب " بدل من " عذاب " الأوَّلُ ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه .

وقيل : منصوبٌ بقولٍ مضمر ، وسيأتي بيانه .

و " يحمى " يجوزُ أن يكون من " حَمَيْت أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً ، يقالُ : حَمَيْتُ الحديدة ، وأحميتُهَا ، أي : أوْقَدْتُ عليها ، لِتَحْمَى ، والفاعلُ المحذوفُ هو " النَّارُ " تقديره : يوم تُحْمَى النارُ عليها ، فلما حذف الفاعل ، ذهبت علامةُ التأنيث ، لذهابه كقولك : رُفِعَت القضية إلى الأمير ، ثم تقول : رُفع إلى الأمير .

وقيل : لأنَّ تأنيثَ " النَّار " مجازي ، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه ، بل إلى قوله " عَلَيْهَا " فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث .

وقيل : المعنى : يُحْمَى الوقود . وقرأ{[17758]} الحسنُ " تُحْمَى " بالتَّاءِ من فوق ، أي : النَّار ، وهي تؤيد التأويل الأوَّل .

وقرأ أبو حيوة{[17759]} " يُكْوى " بالياء من تحت ؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ .

وقرأ الجمهور : " جِباهُهُم " بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو{[17760]} في بعض طرقه بالإدغام ، كما أدغم { سَلَكَكُمْ } [ المدثر : 42 ] ، و{ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، ومثل " جِباهُهم " ، { وُجُوهُهُمْ } [ آل عمران : 106 ] ، والمشهور الإظهار .

قوله : { هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } معمول لقولٍ محذوف أي : يقال لهم ذلك يوم يحمى . وقوله : { ما كنتم تكنزون } أي : جزاء ما كنتم ؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و " ما " يجوزُ أن تكون بمعنى " الذي " ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأن تكون مصدرية . وقرئ{[17761]} " تَكْنُزُون " بضم عين المضارع ، وهما لغتان ، يقال : كَنَزَ يَكْنِزُ ، ويَكْنُزُ ، ك : يقتل .

فصل

أصل الكنز في كلام العرب : الجمع ، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز . واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم ، فقال الأكثرون : هو المالُ الذي لم تؤد زكاته ، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ : " ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين ، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين " {[17762]} . وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } يريد : الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم{[17763]} . وروى أبُو هريرة قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ " {[17764]} .

قال القاضي " تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه ، بل الواجب أن يقال : الكنزُ : هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه ، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات ، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة ، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وضمان المتلفات ، وأروش الجنايات ؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد " .

وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال : كل مال زاد على أربعة آلاف درهم ؛ فهو كنز ، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ ، وما دونها نفقة{[17765]} . وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ : " مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ " {[17766]} وقيل : ما فضل عن الحاجةِ كنز ، لما روى أبو أمامة قال : " مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : كَيُّةٌ ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كَيتانِ " {[17767]} والقولُ الأول أصح ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ " {[17768]} وقوله عليه الصلاة والسلام : " ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ " {[17769]} وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال : لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً ، فذكر ذلك عمر للرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم " {[17770]} وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال : كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة ، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال{[17771]} . وقال ابنُ عمر : " مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه ، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ{[17772]} " .

وكان في زمان الرسول - عليه الصلاة والسلام - جماعة مياسير كعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف وكان عليه الصلاة والسلام يعدُّهم من أكابر المؤمنين ، وندب عليه الصلاة والسلام إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض ، ولو كان جمع المال محرماً لكان عليه الصلاة والسلام يأمر المريض بالتَّصدق بكله ، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك ، وقال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبي وقاص : " إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ " {[17773]} .

فصل

اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد : لا زكاة فيه . وهو قول الشافعي بالعراقِ ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر ، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي : فيه الزكاة .

فإن قيل : مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي ، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله . قيل : إنَّ ذلك أشدّ ، فإن من بذل ماله في المعاصي ، عصى من جهتين : بالإنفاق والتناول ، ك : شراء الخَمْرِ وشربها . بل من جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله .

فإن قيل : لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ ؟ فالجواب من وجوه :

أحدها : أنَّ المقصودَ من كسب الأموال ، حصول فرح القلب ، فيظهر أثره في الوجه ، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان ، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم ، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة ، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور .

وثانيها : أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر إليها ، بخلاف سائر الأعضاء .

وثالثها : قال أبُو بكر الوراق : خصت هذه المواضع بالذكر ؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره .

ورابعها : أنهم يُكوون على الجهات الأربع ، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة ، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر ، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين .


[17758]:ينظر: الكشاف 2/268، المحرر الوجيز 3/29، البحر المحيط 5/39، الدر المصون 3/461.
[17759]:ينظر: الكشاف 2/268، البحر المحيط 5/39، الدر المصون 3/461.
[17760]:ينظر: المحرر الوجيز 3/29، البحر المحيط 5/39، الدر المصون 3/461.
[17761]:ينظر: البحر المحيط 5/40، الدر المصون 3/461.
[17762]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/357-358) وذكره البغوي (2/287).
[17763]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/287).
[17764]:أخرجه مسلم (2/680) كتاب الزكاة: باب إثم مانع الزكاة (24/987) والبيهقي (4/82) والبغوي في "شرح السنة" (3/311).
[17765]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/288) وأخرجه الطبري (6/358).
[17766]:انظر المصدر السابق وقد روي مرفوعا عن أبي ذر بلفظ: ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلا كوي بها. ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/420) وعزاه إلى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وابن مردويه وأخرجه الطبري في "تفسيره" (6/359).
[17767]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/359) وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/243) وقال: رواه أحمد بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير شهر بن حوشب وقد وثق.
[17768]:أخرجه أحمد (4/197) والبخاريفي "الأدب المفرد" (299) من حديث عمرو بن العاص. وذكره العجلوني في "كشف الخفاء" (2/242) وعزاه لأحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص.
[17769]:ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1/223) رقم (647) من طريق أبي الزبير عن جابر مرفوعا. وقال: قال أبو زرعة: والصحيح موقوف. وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه البيهقي (4/82).
[17770]:أخرجه أبو داود (1/522) كتاب الزكاة: باب في حق المال حديث (1664) والحاكم (1/408) والبيهقي (4/83) من طريق مجاهد عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[17771]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/288).
[17772]:انظر المصدر السابق.
[17773]:أخرجه مالك (2/763) كتاب الوصية: باب الوصية في الثلث (4) والبخاري (3/164) كتاب الجنائز: باب رثاء النبي صلى الله عليه وسلم سعدا (1295) ومسلم (3/1250) كتاب الوصية: باب الوصية بالثلث حديث (5/1628) وأحمد (1/179) والدارمي (2/407) والطيالسي (1/282-منحة) (1433) وأبو داود (2864) والترمذي (2116) والنسائي (6/241-242) وابن ماجه (2/903) حديث (2708) من حديث سعد بن أبي وقاص.