التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَئِن سَأَلۡتَهُمۡ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ} (65)

{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ( 64 ) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ( 65 ) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ( 66 ) } ( 64 – 66 ) .

في الآيات :

( 1 ) إشارة إلى ما كان يحذر منه المنافقون من نزول قرآن فيهم يفضح حقائق قلوبهم وأسرار مجالسهم .

( 2 ) وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوعدهم بأن الله محقق ما يتوقعون ويحذرون رغما عما يبدو في طي كلامهم من استخفاف واستهزاء .

( 3 ) وإشارة أخرى إلى ما كانوا يعتذرون به حينما يعاتبون على ما يقع في مجالسهم حيث كانوا يقولون إنما كنا نلهو ونمزح .

( 4 ) وسؤال استنكاري على سبيل التنديد عما إذا كان يصح لمؤمن مخلص أن يلهو ويخوض ويمزح ويستهزئ بالله وآياته ورسوله .

( 5 ) وإيذان لهم على سبيل الإنذار بأن اعتذارهم غير مجد لهم . فقد كفروا بعد إيمان . وإذا كان من الجائز أن يعفو الله عن بعضهم لاحتمال توبته فإنه معذب بعضهم حتما لأنهم مجرمون ومصرون على إجرامهم .

تعليق على الآية :

{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . }

والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وتلقين

وقد روى المفسرون ( 1 ){[1111]} ، روايات عديدة في صدد نزول هذه الآيات . منها أنها نزلت في جماعة من المنافقين كمنوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق عودته من تبوك ليوقعوه عن دابته في هاوية . فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم وعاتبهم فأنكروا واعتذروا . ومنها أن بعض المنافقين كانوا في أثناء السفر إلى تبوك يقدحون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستهزئون بما كان يعد من نصر الله له على الروم ويقولون : أيحسب أن جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا . والله كأننا بهم غدا مقرنين بالجبال فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأقوالهم ، فأوقف الركب وعاتبهم فأنكروا واعتذروا ، ومنهم من تاب وحسن إيمانه . ومنها أن رجلا من المنافقين استغاب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثناء غزوة تبوك وقال : إنهم أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء ، فكذبه أحد المخلصين ، ثم ذهب ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم به فوجد القرآن قد سبقه . ومما رواه المفسرون أن المنافقين كانوا يقولون حينما يجتمعون لاستغابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمخلصين لعل الله لا يفشي سرنا . ومما رواه المفسرون في سياق الرواية الأولى أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترحوا قتل الجماعة المتآمرة فقال : ( أكره أن تقول العرب لما ظفر محمد وأصحابه أقبل يقتلهم ) بل يكفيناهم الله بالدبيلة ( 1 ){[1112]} . وهناك رواية تذكر أن الاستهزاء كان من ابن أبي بن سلول في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاتبه فأخذ يعتذر له ويقول إنما كنا نخوض ونمزح يا رسول الله . وقد ذكر هذا المفسر اسم الشخص الذي تاب وكان مظهر عفو الله وهو مخشي بن حمير الأشجعي وروي أنه كان يقول : ( اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أعنى بها ، تقشعر الجلود وتجب القلوب منها ، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد أنا غسلتن أنا كفنت ، أنا دفنت ) وأنه أصيب يوم اليمامة .

وليس شيء من الروايات واردا في كتب الأحاديث المعتبرة ، والذي يتبادر لنا أن فحوى الآية الأولى وروحها تلهم أن الآيات في صدد مجلس من مجالس المنافقين استغابوا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا ما حكته الآية الأولى من حذرهم على سبيل الهزء والتفكه . وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم فعاتبهم فاعتذروا . ومنهم من تاب وحسن إيمانه ومنهم من ظل مرتكسا في الكفر والنفاق . وقد يكون هذا المجلس أثناء غزوة تبوك ، فجاءت الآيات منسجمة مع السلسلة السابقة واللاحقة . وإن كنا نرجح أنها لم تنزل مستقلة عن ما سبقها ، وأنها جزء من السلسلة ، وأن المجلس كان سابقا فتضمنت الآيات حكايته والتذكير به في جملة ما حكى وذكر به من مواقفهم وأخلاقهم في سياق التنديد بهم على تثاقلهم عن الغزوة . وتكون الآيات والحالة هذه قد نزلت أثناء الغزوة وإن صح هذا الترجيح وهو ما نرجوه ، تكون الرواية التي ذكر فيها اسم ابن أبي سلول هي المحتملة وكان هذا من المتخلفين والله أعلم .

والمشهد الذي حكته الآيات مما يمكن أن يكون من ذوي القلوب المريضة في كل ظرف . وبخاصة في الظروف العصبية . والآيات والحالة هذه تنطوي على تلقين لذوي الشأن بوجوب الوقوف من هذه الفئة موقف اليقظة والشدة وعدم الانخداع بما يبدونه من أعذار كاذبة إلا إذا تحقق صدق اعتذارهم وتوبتهم .

ونقف عند رواية البغوي التي تضمنت جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على اقتراح قتل المتآمرين من المنافقين لنقول : إن مثل هذا الجواب صدر أيضا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حق عبد الله بن أبي بن سلول كبير منافقي المدينة أيضا على ما شرحناه في تفسير سورة ( المنافقون ) حيث يتأكد في هذا ما نبهنا عليه من الحكمة التي انطوت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موقفه من المنافقين وعدم البطش والتنكيل فيهم .


[1111]:انظر كتب التفسير السابقة الذكر أيضا.
[1112]:فسر البغوي الدبيلة بأنها سراج من نار يظهر في أكتافهم حتى ينجم من صدورهم.