التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ} (5)

بسم الله الرحمان الرحيم

{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ( 1 ) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ( 2 ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ( 3 ) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ( 4 ) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( 5 ) } .

تضمنت الآيات :

( 1 ) تقريرا لحال أهل الكتاب والمشركين قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان كل منهم متمسكا بما هو عليه لا ينفك عنه حتى تأتيهم بينة جديدة من الله في صورة رسول يتلو عليهم كتابا طاهرا مقدسا فيه شرح للطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسيروا فيه .

( 2 ) نعيا عليهم لأنهم إنما تفرقوا وشذوا بعد أن جاءتهم البينة التي هي رسول الله صلى لله عليه وسلم ، والقرآن الذي أنزله الله عليه في حين أن ما جاءهم لم يكن ليتحمل خلافا ولا شذوذا ؛ لأنه إنما أمرهم بعبادة الله وحده مخلصين ، وبإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة . وهذا هو الدين المستقيم والطريق القويم .

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات ، وكل ما قاله المفسرون في صددها أنها في صدد موقف أهل الكتاب والمشركين من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما هو واضح في الآيات .

ويلحظ أن النعي الأقوى فيها موجه إلى أهل الكتاب ، وننبه إلى أن القرآن المكي خلا من وصف أهل الكتاب بالكفر أولا ، واحتوى آيات عديدة فيها تقرير كونهم يعرفون صدق القرآن ورسالة الرسول كما يعرفون أبناءهم . واعترافهم بأن القرآن منزل من الله ، وكونهم فرحوا به وبالرسالة المحمدية ، واعتبروها مصدقا لوعد الله الذي في كتبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته ، وأعلنوا إيمانهم وانضواءهم للإسلام ، وخشعوا وسجدوا وبكوا دون مبالاة بما كان من تثريب المشركين لهم على ما ورد في آيات من سور الأنعام والأعراف والإسراء والقصص والعنكبوت والأحقاف ، وشرحناه في سياق تفسيرها ، بحيث يقال : إنه لم يبق كتابي في مكة إلا انضوى للإسلام ، وكان فيهم أولو علم وثقافة ، فكان ذلك شاهدا عيانا داحضا لكل موقف كتابي مناوئ للقرآن والرسالة المحمدية بعد العهد المكي إلى آخر الزمان ، وردا ساحقا صاعقا ؛ لأنه كان في وقت قلة الإسلام وضعفه . وكان هذا من مؤيدات مدنية السورة على ما ذكرناه في تعريفها .

ولقد اختلف الأمر في العهد المدني والقرآن المدني ؛ حيث كان من اليهود في يثرب والحجاز ومن النصارى في مشارق الشام وما بعدها كتل كبيرة لها مصالح أعمتها عن رؤية الحق والنور اللذين رآهما أهل الكتاب في العهد المكي ، فوقف معظمهم مواقف المناوأة مما مر شرحه في سور البقرة وآل عمران والأنفال ، وكان لرجال دينهم أثر كبير في ذلك عبرت عنه آية سورة التوبة { يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ) ( 34 ) فكانت حملات القرآن المدني شديدة قاصمة فاضحة ضدهم ، ومن جملتها آيات هذه السورة .

ويتبادر لنا أن الآيات نزلت بمناسبة مشهد جدلي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين فريق منهم أو تعقيبا عليه . ولعل بعض المشركين كانوا طرفا في المشهد . أو لعل ذكرهم جاء استطراديا ليكون الكلام جامعا للكافرين بالرسالة المحمدية ، ولا سيما أن المشركين العرب كانوا يقولون بأنه لو جاء نذير أو لو نزل لهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى من أهل الكتاب على ما حكته عنهم آية سورة فاطر ( 42 ) وآية الأنعام ( 157 ) فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم بالنعي ؛ لأنهم شذوا وكفروا بما كانوا يتمنون مجيئه من عند الله من نذير وكتاب .

ولا يمنع ما نقول أن يكون بعض النصارى الذين جحدوا رسالة النبي في العهد المدني ممن شهد المشهد ، وأن تكون عنتهم فيما عنته أيضا . والله تعالى أعلم .

وهكذا تكون الآيات احتوت تقريرا واضحا للدعوة النبوية . وحجة جدلية دامغة على الذين يطلبون البرهان من النبي على صحة دعوته . فدعوته هي إلى عبادة الله وحده والإخلاص له والصلاة إليه ومساعدة المحتاجين بالزكاة ، ولا يطلب البرهان على صحة هذه الدعوة ويكفر بها إلا سيء النية خبيث الطوية .