الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنٗا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُۥ قَلِيلٗا ثُمَّ أَضۡطَرُّهُۥٓ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ} (126)

قوله تعالى : { اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً } : الجَعْلُ هنا بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنين ف " هذا " مفعولٌ أولُ و " بلداً " مفعولٌ ثانٍ ، والمعنى : اجْعَلْ هذا البلدَ أو هذا المكانَ . و " آمناً " صفةٌ أي ذا أَمْن نحو : " عيشةٌ راضيةٌ " أو آمِناً مَنْ فِيه نحو : ليلةٌ نائمٌ . / والبلدُ معروفٌ وفي تسميته قولان ، أحدُهما : أنه مأخوذُ من البَلْدِ . والبَلْدُ في الأصل : الصَّدْر يقال : وضَعَتِ الناقةُ بَلْدَتها إذا بَرَكَتْ أي : صدرَها ، والبَلَدُ صدرُ القُرى فسُمِّي بذلك . والثاني : أنَّ البلدَ في الأصل الأثَرُ ومنه : رجلٌ بَليد لتأثير الجهل فيه ، وقيل لِبَرْكَةِ البعيرِ " بَلْدَة " لتأثيرِها في الأرض إذا بَرَك قال :

719 - أُنِيخَتْ فأَلْقَتْ بَلْدَةً فوق بلْدةٍ *** قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها

قوله : { مَنْ آمَنَ } بدلُ بعضٍ من كل وهو " أهلَه " ولذلك عادَ فيه ضميرٌ على المُبْدَلِ منه ، و " مِنْ " في " مِن الثمرات " للتبعيضِ . وقيل : للبيانِ ، وليس بشيءٍ إذ لم يتقدَّمُ مُبْهَمٌ يبيَّنُ بها .

قولُه : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ } يجوزُ في " مَنْ " ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكونَ موصولةً ، وفي محلِّها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه ، قال اللهُ وأرزقُ مَنْ كَفَرَ ، ويكونُ " فأمتِّعُه " معطوفاً على هذا الفعلِ المقدَّرِ . والثاني من الوجهين : أن يكونَ في محلِّ رفعٍ بالابتداء و " فأمتِّعُه " الخبرَ ، دَخَلَت الفاءُ في الخبرِ تشبيهاً له بالشرطِ ، وسيأتي أنَّ أبا البقاء يمنعُ هذا والردُّ عليه . الثاني من الثلاثةِ الأوجهِ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ذكرَه أبو البقاء ، والحكمُ فيها ما تقدَّم من كونِها في محلِّ نصبٍ أو رفع . الثالث : أن تكونَ شرطيةً ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ فقط ، و " فأمتِّعُه " جوابُ الشرط .

ولا يجوزُ في " مَنْ " في جميع وجوهِها أَنْ تكونَ منصوبةً على الاشتغال ، أمَّا إذا كانَتْ شرطاً فظاهرٌ لأنَّ الشرطيةَ إنما يفسِّر عاملَها فعلُ الشرطِ لا الجزاءُ ، وفعلُ الشرطِ هنا غيرُ ناصبٍ لضميرِها بل رافعُه ، وأمَّا إذا كانت موصولةً فلأنَّ الخبرَ الذي هو " فأمتِّعه " شبيهٌ بالجَزاء ولذلك دَخَلَتْه الفاءُ ، فكما أن الجزاءَ لا يفسِّر عاملاً فما أشبهَه أَوْلى بذلك ، وكذا إذا كانَتْ موصوفةً فإنَّ الصفةَ لا تُفَسِّرُ . وقال أبو البقاء : " لا يجوزُ أن تكونَ " مَنْ " مبتدأ و " فأمتِّعُه " الخبرَ ، لأنَّ " الذي " لا تدخُل الفاءُ في خبرها إلا إذا كان الخبرُ مُسْتَحِقَّاً بالصلةِ نحو : الذي يأتيني فله درهمٌ ، والكفرُ لا يَسْتَحِقُّ به التمتُّعُ ، فإنْ جَعَلْتَ الفاءَ زائدةً على قولِ الأخفش جازَ ، أو [ جعلت ] الخبرَ محذوفاً و " فأمتِّعُه " دليلاً عليه جاز ، تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقُه فَأمتِّعه .

ويجوز أَنْ تكونَ " مَنْ " شرطيةً والفاءُ جوابَها . وقيل : الجوابُ محذوفٌ تقديرُه : ومَنْ كَفَرَ أرزُقْ ، و " مَنْ " على هذا رفعٌ بالابتداءِ ، ولا يجوزُ أَنْ تكونَ منصوبةً لأن أداةَ الشرطِ لا يَعْمل فيها جوابُها بل فعلُ الشرطِ " . انتهى .

أمَّا قولُه : " لأنَّ الكفرَ لا يَسْتِحقُّ به التمتُّعُ " فليس بِمُسَلَّم ، بل التمتعُ القليلُ والمصيرُ إلى النار مُسْتَحِقَّان بالكفرِ ، وأيضاً فإنَّ التمتعَ إنْ سَلَّمْنا أنَّه ليس مُسْتَحِقاً بالكفر ، ولكن قد عُطِفَ عليه ما هو مُسْتَحِقٌ به وهو المصيرُ إلى النار فناسَبَ ذلك أنْ يَقَعا جميعاً خبراً ، وأيضاً فقد ناقَض كلامَه لأنه جَوَّز فيها أن تكونَ شرطيةً ، وهل الجزاءُ إلا مُسْتَحِقٌّ بالشرط ومُتَرَتِّبٌ عليه فكذلك الخبرُ المُشَبَّهُ به . وأما تجويزُه زيادةَ الفاءِ وحَذْفَ الخبر أو جوابَ الشرطِ فأوجهٌ بعيدة لا حاجةَ إليها . وقرىء : أُمْتِعُه مخففاً من أَمْتَع يُمْتِعُ وهي قراءةُ ابنِ عامر ، وفَأُمْتِعُّه بسكونِ العينِ وفيها وجهان : أحدُهما : أنه تخفيفٌ كقولِه :

720 - فاليومَ أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ *** . . . . . . . . . . . . . .

والثاني : أنَّ الفاءَ زائدةٌ وهو جوابُ الشرط فلذلك جُزِمَ بالسكونِ . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد { فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } على صيغةِ الأمر فيهما ، ووجهُها أَنْ يكونَ الضميرُ في " قال " لإِبراهيم ، يعني سألَ ربَّه ذلكَ ، و " مَنْ " على هذه القراءة يجوز أن تكونَ مبتدأ وأن تكونَ منصوبة على الاشتغال بإضمارِ فعلٍ سواءً جَعَلْتَها موصولةً أو شرطيةً ، إلا أنك إذا جَعَلْتَها شرطيةً قَدَّرْتَ الناصبَ لها متأخراً عنها لأنَّ أداة الشرط لها صدرُ الكلامِ .

وقال الزمخشري : { وَمَن كَفَرَ } عَطْفٌ على " مَنْ آمَنَ " كما عَطَفَ " ومِنْ ذريتي " على الكافِ في " جاعِلُك " . قال الشيخ : أمَّا عطفُ " مَنْ كَفَر " على " من آمَنَ " فلا يَصِحُّ لأنه يتنافى تركيبُ الكلامِ ، لأنه يصيرُ المعنى : قال إبراهيم : وارزُقْ مَنْ كَفَرَ لأنه لا يكونُ معطوفاً عليه حتى يُشْرِكَه في العامل ، و " من آمن " العامل فيه فعلُ الأمر وهو العاملُ في " ومَنْ كفر " ، وإذا قَدَّرْتَه أمراً تنافى مع قوله " فَأُمَتِّعه " لأنَّ ظاهرَ هذا إخبارٌ من اللهِ بنسبةِ التمتع وإلجائِهم إليه تعالى وأنَّ كلاً من الفعلين تضمَّن ضميراً ، وذلك لا يجوزُ إلا على بُعْدٍ بأن يكون بعد الفاء قولٌ محذوفٌ فيه ضميرٌ الله تعالى أي : قال إبراهيم وارزُقْ مَنْ كفر ، فقال الله أمتِّعُه قليلاً ثم اضطرُّه ، ثم ناقَضَ الزمخشري قوله هذا أنه عَطَفَ على " مَنْ " كما عَطَفَ " ومِنْ ذرِّيتي " على الكاف في " جاعِلك " فقال : " فإنْ قُلْتَ لِمَ خَصَّ إبراهيمُ المؤمنينَ حتى رَدَّ عليه ؟ قلت : قاسَ الرزقَ على الإِمامة فَعَرَف الفرْقَ بينهما بأنَّ الإِمَامة لا تكون للظالِم ، وأمَّا الرزقُ فربما يكون استدراجاً ، والمعنى : قال وأرزقُ مَنْ كفر فأمتِّعه " فظاهرُ قولِه " والمعنى قال " أنَّ الضمير ٌٌٌٌٌٌفي " قال " لله تعالى ، وأنَّ " مَنْ كَفَرَ " منصوبٌ بالفعلِ المضارعِ المسندِ إلى ضميرِ المتكلِّم "

و " قليلاً نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو زمانٍ ، وقد تقدَّم له نظائرُ واختيار سيبويه فيه .

وقرأ الجمهور : " أضطَرُّه " خبراً . وقرأ يحيى بن وثاب : " إضطرُّه " بكسر الهمزة ، ووجهُها كسرُ حرفِ المضارعةِ كقولهم في أخال : إخالُ . وقرأ ابن مُحَيْصِن : " أطَّرُّه " بإدغامِ الضادِ في الطاءِ نحو : اطّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع ، وهي مرذولةٌ لأن الضادَ من الحروفِ الخمسةِ التي يُدْغَمُ فيها ولا تُدْغَم هي في غيرها وهي حُروف : ضم شغر نحو : اطَّجع في اضطجع [ قاله الزمخشري ، وفيه نظرٌ ، فإن هذه الحروف قد أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الداني اللام في { يَغْفِرْ لَكُمْ } [ نوح : 4 ] ، والضاد في الشين : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [ النور : 62 ] ، والشين في السين : { الْعَرْشِ سَبِيلاً } [ الإسراء : 42 ] ، وأدغم الكسائي الفاء في الباء : { نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ } [ سبأ : 9 ] ، وحكى سيبويه أن " مُضَّجعاً " أكثر فدل على أن " مُطَّجعاً كثير . وقرأ يزيد بن أبي حبيب : " أضطُّرُّه " بضم الطاء كأنه للإِتباع . وقرأ أُبَيّ : " فَنُمَتِّعُه ثم نَضَطَرُه " بالنون .

واضْطَرَّ افتعَل من الضُرِّ ، وأصلُه : اضْتَرَّ فأُبدلت التاءُ طاءً لأن تاء الافتعال تُبْدل طاءً بعد حروفِ الإِطباق وهو متعدٍّ ، وعليه جاء التنزيل ، وقال :

اضطَرَّكَ الحِرْرُ مِنْ سَلْمى إِلى أَجَأٍ *** . . . . . . . . . . . . . .

والاضطرارُ : الإِلجاءُ والإِلزازُ إلى الأمرِ المكروهِ .

قوله : " وبئس المصيرُ " " المصير " فاعل والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : النارُ . ومصير : مَفْعِل من صار يصير ، وهو صالحٌ للزمان والمكانِ ، وأمَّا المصدرُ فقياسُه الفتحُ لأنَّ ما كُسِر عينُ مضارِعِه فقياسُ ظرفِيَّة الكسرُ ومصدرُه الفتحُ/ . ولكن النحويين اختلفوا فيما كانَتْ عينُه ياءً على ثلاثةِ مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : مذاهبَ ، أحدها : أنه كالصحيحِ وقد تقدَّم . والثاني : أنه مُخَيَّرٌ فيه . والثالث : أن يتُبع المسموعُ فما سُمِعَ بالكسرِ أو الفتح لا يَتَعَدَّى ، فإنْ كان " المصيرُ " في الآية اسمَ مكانٍ فهو قياسي اتفاقاً ، والتقدير : وبِئْسَ المصيرُ النارُ كما تقدَّم ، وإن كان مصدراً على رأي مَنْ أجازه فالتقدير : وبِئْسَ الصيرورةُ صَيْرورتُهم إلى النار .