الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (128)

قوله : { مُسْلِمَيْنِ } مفعولٌ ثان للجَعْل لأنَّه بمعنى التصيير ، والمفعولُ الأولُ هو " نا " وقرأ ابن عباس " مسلمِين " بصيغةِ الجمع ، وفي ذلك تأويلان أحدُهما : أنهما أَجْرَيَا التثنية مُجْرَى الجمعِ ، وبه استدلَّ مَنْ يَجْعَلُ التثنيةَ جمعاً . والثاني : أنهما أرادا أنفسهما وأهلَهما كهاجر .

قوله { لَّكَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أن يتعلَّق بمُسْلِمَيْن ، لأنه بمعنى نُخْلِصُ لك أوجهَنَا نحو : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } فيكونَ المفعولُ محذوفاً لفَهْمِ المعنى . والثاني : أنه نعتٌ لِمُسْلِمَيْن ، أي : مُسْلِمَيْن مستقرَّيْنِ لك أي : مستسلمَيْن ، والأولُ أقوى معنىً .

قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } فيه قولان ، أحدهُما - وهو الظاهر - أنَّ " مِنْ ذريتنا " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مفعولٌ أولُ ، و " أمة مسلمة " مفعولٌ ثان تقديرُه : واجْعَلْ فريقاً من ذريتنا أمةً مسلمةً . وفي " من " حينئذ ثلاثة أقوالٍ ، أحدُها : أنها للتبعيض ، والثاني - أجازه الزمخشري - أن تكونَ لتبيين ، قال : كقولِه : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] . الثالث : أن تكون لابتداءِ غايةِ الجَعْل ، قاله أبو البقاء .

الثاني من القولَيْن : أن يكونَ " أمَّةً " هو المفعولَ الأولَ ، و " مِنْ ذريتنا " حالٌ منها ؛ لأنه في الأصل صفةٌ نكرةٍ فلمَّا قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً ، و " مُسْلِمَةً " هو المفعولُ الثاني ، والأصل : " واجعَلْ أمةً من ذريتنا مسلمةً " ، فالواو داخلةٌ في الأصلِ على " أمة " وإنما فَصَلَ بينهما بقولِه : " مِنْ ذرِّيَّتنا " وهو جائزٌ لأنَّه من جملةِ الكلام المعطوفِ ، وفي إجازتِه ذلك نظرٌ ، فإنَّ النحويين كأبي علي وغيره منعوا الفصلَ بالظرفِ بين حرفِ العطفِ إذا كان على حرفٍ واحدٍ وبين المعطوفِ ، وجَعَلوا قولَه :

يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال *** عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً

ضرورةً فالفصلُ بالحالِ أبعدُ ، وصار ما أجازه نظيرَ قولِك : " ضَرَبَ الرجلَ ومتجردةً المرأةَ زيدٌ " وهذا غيرُ فصيحٍ ، ولا يجوزُ أن يكونَ " اجعَلْ " المقدرةُ بمعنى اخلُقْ وأوجِدْ ، فيتعدَّى لواحدٍ ويتعلَّقَ " من ذريتنا " به ، ويكونُ " أمةً " مفعولاً به ؛ لأنه إنْ كان مِنْ عطفِ المفردات لَزِمَ التشريكُ في العاملِ الأولِ والعاملُ الأولُ ليس معناه " اخلُقْ " إنما معناه صيِّر ، وإن كان من عطفِ الجملِ فلا يُحْذَفُ إلا ما دَلَّ عليه المنطوقُ ، والمنطوقُ ليس بمعنى الخَلْقَ فكذلك المحذوفُ ، ألا تراهم مَنَعوا في قولِه :

{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] أن يكونَ التقديرُ : وملائكتُه يُصَلُّون لاختلافِ مدلولِ الصلاتين ، وتأوَّلوا ذلك على قَدْرٍ مشتركٍ بينهما ، وقوله " لكَ " فيه الوجهان المتقدمان بعد " مسلِمَيْنِ " .

قوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } الظاهرُ أن الرؤيةَ هنا بَصَرِيَّة ، فرأى في الأصلِ يتعدَّى لواحدٍ ، فلمّا دَخَلَتْ همزةُ النقلِ أَكْسبتها مفعولاً ثانياً ، ف " نا " مفعولٌ أولُ ، و " مناسِكَنا " مفعولٌ ثانٍ .

وأجاز الزمخشري أن تكون منقولةً من " رأى " بمعنى عَرَفَ فتتعدَّى أيضاً لاثنينِ كما تقدَّم ، وأجاز قومٌ فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبيَّةٌ ، والقلبيةُ قبلَ النقلِ تتعدَّى لاثنين ، كقوله :

وإنَّا لَقومٌ ما نرى القَتْلَ سُبَّةً *** إذا ما رَأَتْه عامرٌ وسَلُولُ

وقال الكميت :

بأيِّ كتابٍ أم بأيَّةِ سُنَّةٍ *** ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحسِبُ

وقال ابن عطية : " ويلزَمُ قائلَه أَنْ يتعدَّى الفعلُ منه إلى ثلاثةٍ : وينفصلُ عنه بأنّه يوجدُ مُعَدَّىً بالهمزةِ من رؤيةِ القلب كغيرِ المُعَدَّى وأنشد قولَ حطائط بن يعفر :

أَريني جواداً مات هَزْلاً لأَنني *** أرى ما تَرَيْنَ أَوْ بخيلاً مُخَلَّدا

يعني : أنه قد تَعدَّت " عَلِم " القلبيةُ إلى اثنين سواءً كانت مجردةً من الهمزةِ أم لا ، وحينئذٍ يُشْبه أن يكونَ ما جاء فيه فَعِل وأَفْعل بمعنىً وهو غريبٌ ، ولكنَّ جَعْلَه بيتَ حطائط من رؤيةِ القلبِ ممنوعٌ بل معناه من رؤيةِ البصرِ ، ألا ترى أن قولَه " جواداً ماتَ " من متعلِّقات البصر ، فيَحْتاجُ في إثباتِ تعدِّي " أعلَم " القلبية إلى اثنين إلى دليلٍ . وقال بعضهم : " هي هنا بَصَريَّةٌ قلبيةٌ معاً لأنّ الحَجَّ لا يَتِمُّ إلا بأمورٍ منها ما هو معلومٌ ومنها ما هو مُبْصَر " ، ويلزَمُه على هذا الجمعُ بين الحقيقةِ والمجاز أو استعمالُ المشتركِ في معنييه معاً .

وقرأ الجمهور : " أَرِنَا " بإشباعِ كسرِ الراءِ هنا وفي النساء وفي الأعرافِ . " أَرِني أنظرْ " ، وفي فُصّلت : { أَرِنَا الَّذَيْنِ } [ فصلت : 29 ] ، وقرأ ابن كثير بالإِسكان في الجميعِ ووافقه في فصلت ابنُ عامر وأبو بكر عن عاصم/ ، واختُلِف عن أبي عمرو فروى عنه السوسي موافقةَ ابنِ كثير في الجميع ، وروى عنه الدوري اختلاسَ الكسرِ فيها . أمَّا الكسرُ فهو الأصلُ ، وأمَّا الاختلاسُ فَحَسَنٌ مشهور ، وأما الإِسكان فللتخفيفِ ، شَبَّهوا المتصلَ بالمنفصلِ فسكَّنوا كسره ، كما قالوا في فَخِذ : فَخْذ وكتِف : كتْف .

وقد غَلَّط قومٌ راويَ هذه القراءةِ وقالوا : صار كسرُ الراءِ دليلاً عَلى الهمزةِ المحذوفةِ فإنَّ أصلَه : " أَرْءِنا " ثم نُقِل ، قاله الزمخشري تابعاً لغيره . قال الفارسي : " التغليطُ ليس بشيءٍ لأنَّها قراءةُ متواترةٌ ، وأمّا كسرةُ الراءِ فصارَتْ كالأصلِ لأنَّ الهمزةَ مرفوضةُ الاستعمالِ " وقال أيضاً : " ألا تراهم أَدْغموا في { لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي } [ الكهف : 38 ] ، والأصل : " لكنْ أنا " " نَقَلوا الحركةَ وحذفوا ثم أدغموا ، فذهابُ الحركةَ في " أَرِنا " ليس بدونِ ذهابِها في الإِدغامِ ، وأيضاً فقد سُمِع الإِسكانُ في هذا الحرفِ نَصَّاً عن العرب قال :

أَرْنا إدواةَ عبْدِ الله نَمْلَؤُها *** من ماءِ زمزمَ إن القومَ قد ظَمِئوا

وأصل أَرِنَا : أَرْءِنا ، فنُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى الراء وحُذِفَتْ هي ، وقد تقدّم الكلامُ بأشبع مِنْ هذا عند قولِه : { حَتَّى نَرَى اللَّهَ } [ البقرة : 55 ] .

والمناسِكُ واحدُها : مَنْسَك بفتح العين وكسرِها ، وقد قرئ بهما والمفتوحُ هو المقيسُ لانضمامِ عينِ مضارعه . والمنسَكُ : موضعُ النسُك وهو العبادة .