والرِّبا لامُه واوٌ لقولِهم : رَبا يَرْبو ، فلذلك يُثَنَّى بالواوُ ويكتَبُ بالألفِ . وجَوَّز الكوفيون تثنيته بالياءِ وكذلك كتابتُه ، قالوا لكسر أولِه ولذلك أمالوه ، وليس هذا مختصاً بمكسور الأولِ ، بل الثلاثي من ذواتِ الواوِ المكسورُ الأولِ أو المضمومُه نحو : " رِبا " و " عُلا " حكمُه ما ذكرته عنهم ، فأمَّا المفتوحُ الأولِ نحو : عصا وقَفَا فلم يُخالفوا البصريين ، وكُتب في القرآنِ بخطِ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ . والمادةُ تَدُلُّ على الزيادةِ والارتفاعِ ومنه الرَّبْوَةُ . وقال حاتم الطائي يصف رُمْحاً :
نَوَى القَسْبِ قد أَرْبَى ذِراعاً على العُشْرِ
وقيل : إنما كُتِبَ بالواوِ لأنَّ أهلَ الحجازِ تَعَلَّموا الخطَّ من أهلِ الحِيرة ، وأهلُ الحِيرةِ يقولونَ : " الرِّبو " بالواوِ " فكتبوها كذلك ونقلَها أهلُ الحجاز كذلك خَطَّاً لا لفظاً . وقد قرأ العدويُّ : " الرِّبَو " كذلك بواوٍ خالصة بعد فتحةِ الباء . فقيل : هذا القارىءُ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ ، وذلك أنَّ من العربِ مَنْ يقلِبُ ألفَ المقصورِ واواً فيقول : هذه أَفْعَو ، وهذا من ذاك ، إلا أنه أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
وقد حكى أبو زيد ما هو أغربُ من ذلك فقال : " قرأ بعضُهم بكسرِ الراءِ وضمِ الباء وواوٍ بعدها " ، ونَسَبَ هذه للغلط ؛ وذلك لأنَّ لسانَ العرب [ لا ] يبقي واواً بعد ضمةٍ في الأسماءِ المعربة ، بل إذا وُجد ذلك لم يُقَرَّ على حاله ، بل تُقْلَبُ الضمةُ كسرةً والواوُ ياءً نحو : دَلْوٍ وأَدْلٍ ، وجَرْوٍ وأَجْرٍ وأنشد أبو عليّ :
ليثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه *** بالرَّقْمتينِ له أَجْرٍ وأَعْراسُ
ونهايةُ ما قيلَ فيها أنَّ قارئها قَلَبَ الألفَ واواً كقولِهم في الوقف : أَفْعَو ، ثم أُجْرِي مُجْرى الوقفِ في ذلك ، ولم يَضْبِطِ الراوي عنه ما سَمِع فظنَّه بضمِّ الباء لأجلِ الواوِ فنقلها كذلك ، وليت الناسَ أَخْلَوا تصانيفهم من مثلِ هذه القراءات التي لو سَمِعها العامةُ لمَجُّوها ومن تعاليلها ، ولكن صارَ التاركُ لها يَعُدُّه بعضُهم جاهلاً بالاطلاع عليها .
ويقال : رِبا ورِما ، بإبدالِ بائِه ميماً ، كما قالوا : كََثَم في كَثَب . والألفُ واللام في " الرِّبا " يجوز أن تكونَ للعهدِ ، إذ المرادُ الربا الشرعيُّ ، ويجوز أن تكونَ لتعريفِ الجنس/ .
قوله : { لاَ يَقُومُونَ } الظاهرُ أنها خبرُ الموصولِ المتقدِّم . وقال بعضهم : إنها حالٌ ، وهو سهوٌ ، وقد يُتَكلَّفُ تصحيحُه بأن يُضْمَرَ الخبرُ كقراءة من قرأ { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } وقوله :
. . . لا أنا باغياً *** . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : { إِلاَّ كَمَا يَقُومُ } فيه الوجهان المشهوران وهما : النصبُ على النعتِ لمصدرٍ محذوفٍ أي : لا يقومون إلا قياماً مثلَ قيامِ الذي يتخبطه الشيطانُ ، وهو المشهورُ عند المعربين ، أو النصبُ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدرِ المقدَّرِ أي : لا يقومونَهُ أي القيامَ إلا مُشْبِهاً قيامَ الذي يتخبطه الشيطانُ ، وهو رأي سيبويه ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقهما .
و " ما " الظاهرُ أنها مصدريةٌ أي : كقيامِ . وجَوَّزَ بعضُهم أن تكون بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، والتقديرُ : إلا كالقيامِ الذي يقومه الذي يتخبَّطُه الشيطانُ ، وهو بعيد .
و " يتخبَّطه " يَتَفَعَّلُه ، وهو بمعنى المجردِ أي يخبِطُه ؛ فهو مثل : تَعدَّى الشيءَ وعَدَاه . ومعنى ذلك مأخوذٌ من خَبَط البعيرُ بأخفافِه : إذا ضرب بها الأرضَ . ويقال : فلان يَخْبِط خَبْطَ عَشْواء ، قال علقمة :
وفي كل حَيًّ قد خَبَطْتَ بنعمةٍ *** فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ
رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ *** تُمِتْه ومَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّر فَيَهْرَمِ
قوله : { مِنَ الْمَسِّ } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهةِ الجنونِ ، فيكونُ في موضعِ نصبٍ قاله أبو البقاء . والثاني : أنه يتعلَّقُ بقوله : " يقومُ " أي : لا يقومون من المسِّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . الثالث : أنه يتعلَّقُ بقولِه : " يقومُ " أي : كما يقومُ المصروع من جنونِه . ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشري .
قال الشيخ : " وكان قَدَّم في شرحِ المَسِّ أنه الجنونُ ، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّقِ " من المس " بقوله " لا يقومون " ضعيفٌ لوجهين ، أحدُهما : أنه قد شَرَحَ المسَّ بالجنون ، وكان قد شَرَحَ أنَّ قيامَهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنونٌ ولا مَسٌّ ، ويَبْعُدُ أن يَكْنى بالمسِّ الذي هو الجنونُ عن أكلِ الربا في الدنيا ، فيكونُ المعنى : لا يقومون يومَ القيامة أو من قبورهم من أجلِ أكلِ الرِّبا إلا كما يقومُ الذي يتخبَّطُهُ الشيطان ، إذ لو أُريد هذا المعنى لكان التصريحُ به أَوْلَى من الكنايةِ عنه بلفظِ المَسِّ ، إذ التصريحُ به أَبْلَغُ في الزجرِ والردعِ . والوجه الثاني : أنَّ ما بَعد . " إلاَّ " لا يتعلَّقُ بما قبلها إلا إنْ كان في حَيِّز الاستثناء ، وهذا ليسَ في حَيَّز الاستثناء ، ولذلك منعوا أَنْ يتعلَّقَ " بالبيناتِ والزبرِ " بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } [ النحل : 44 ] وأنَّ التقديرَ : وما أرسلنا بالبيناتِ والزبرِ إلا رجالاً " .
قلت : أمَّا تضعيفُه المعنى فليس بجيدٍ ، بل الكنايةُ في لسانِهم أَبْلَغُ وهذا مِمَّا لا يُخْتَلَفُ فيه . وأمَّا الوجهُ الثاني فإنه يُغتْفرُ في الجارِّ والظرفِ ما لا يُغْتَفَرُ في غيرِه ، وشواهدُهُ كثيرةٌ .
والمَسُّ عُبِّر به عن الجنونِ في لسانهم ، قالوا : مُسَّ فهو مَمْسُوس ، مثل : جُنَّ فهو مَجْنون ، وأنشد أبو بكر :
أُعَلِّلُ نفسي بما لا يكونُ *** كذي المَسِّ جُنَّ ولم يُخْنَقِ
وأصلُه أنَّهم يقولون : إنَّ الشيطانَ يَمَسُّ الإِنسانَ بيدِه ويُرْكِضُه برجلِه ، ويُعَبَّرُ بالجنونِ عن النشاطِ والسرعةِ وخفةِ الحركةِ ، لذلك قال الأعشى يصف ناقته :
1100 - وتُصبحُ عن غِبِّ السُّرى وكأنما *** أَلَمَّ بها مِن طائفِ الجنِّ أَوْلَقُ
بَخِيلٍ عليها جِنَّةٌ عبقريةٌ *** . . . . . . . . . . . . .
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } مبتدأٌ وخبرٌ ، أي : ذلك التخبُّطُ ، أو ذلك القيامُ بسبب افترائِهم هذا القولَ . وقيل : " ذلك " خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه : قيامُهم ذلك . قال الشيخ : " إلا أنَّ في هذا الوجهِ فصلاً بين المصدرِ ومتعلَّقِه الذي هو " بأنهم " ، على أنه لا يَبْعُدُ جوازُ ذلك لحذفِ المصدرِ ، فلم يَظْهَرْ قُبْحٌ بالفصلِ بالخبرِ " .
وقد جَعَلوا الربا أصلاً والبيعَ فرعاً حتى شَبَّهوه به ، قال الزمخشري : " فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إنما الربا مثلُ البيع ، لأنَّ الكلامَ في الربا لا في البيعِ . قلت : جِيء به على طريقةِ المبالغةِ ، وهو أنهم قد بَلَغ من اعتقادهم في حِلّ الربا أنهم جَعَلوه أصلاً وقانوناً في الحِلِّ ، حتى شَبَّهوا به البيع " . قلت : وهو بابٌ في البلاغةِ مشهورٌ ، وهو أعلى رتب التشبيه ، ومنه قوله :
ورَمْلٍ كأوراكِ العَذارى قَطَعْتُه *** . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } الظاهرُ أنه من كلامِ اللهِ تعالى ، أَخْبر بأنه أَحَلَّ هذا وحَرَّم ذاك ، وعلى هذا فلا محلَّ لهذه الجملةِ من الإِعراب . وقال بعضُهم : " هذه الجملةُ من تَتِمَّةِ قولِ الذين يأكلون الربا ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ بالقول عطفاً على المقول " وهو بعيدٌ جداً ، نَقَلْتُه عن قاضي [ القضاء عز الدين في درسه ] .
قوله : { فَمَن جَآءَهُ } يُحتمل أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ موصولةً وعلى كِلا التقديرَيْنِ فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء .
وقوله : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } هو الخبرُ ، فإنْ كانَتْ شرطيةًَ فالفاءُ واجبةٌ ، وإن كانَتْ موصولةً فهي جائزةٌ ، وسببُ زيادتِها ما تقدَّم مِنْ شَبَهِ الموصولِ لاسمِ الشرطِ . ويجوزُ حالَ كونها شرطيةً وجهٌ آخرُ وهو أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعدَه ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ ، ويُقَدَّر الفعلُ بعدَها لأنَّ لها صدرَ الكلامِ ، والتقديرُ : فأيُّ شخصٍ جاءَتِ الموعظةُ جاءته ، ولا يجوزُ ذلك فيها موصولةً لأنَّ الصلةَ لا تُفَسِّر عاملاً ، إذ لا يَصِحُّ تسلُّطها على ما قبلها ، وشرطُ التفسيرِ صحةُ التسلُّطِ . وسَقَطَتِ التاءُ من الفعلِ لشيئين : الفصلُ بين الفعلِ وفاعلِه بالمفعولِ ، وكونُ التأنيثِ مجازياً ، وقرأ الحسن ، " جاءَتْه " على الأصل .
قوله : { مِّنْ رَّبِّهِ } يجوزُ أن تكونَ متعلقةً بجاءَتْه ، وتكونُ لابتداءِ الغاية مجازاً ، وأن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظة ، أي : موعظةٌ من موعظاتِ ربه ، أي بعضُ مواعِظه .
وقوله : { فَانْتَهَى } نَسَقٌ على " جاءَتْه " عَطَفَه بفاءِ التعقيبِ أي : لم يتراخَ انتهاؤُه عن مجيء الموعظهِ . /
وقوله : { وَمَنْ عَادَ } الكلامُ على " مَنْ " هذه في احتمالِ الشرطِ والموصولِ كالكلامِ على التي قبلها . والضميرُ في قولِه " فَأَمْرُه " يعودُ على " ما سَلَف " ، أي : وأمرُ ما سلَفَ إلى الله ، أي : في العفوِ عنه وإسقاطِ التِّبِعَةِ منه . وقيل : يعودُ على المنتهي المدلولِ عليه بانتهى أي : فأمرُ المنتهي عن الربا إلى الله في العفوِ والعقوبةِ . وقيل : يعودُ على ذي الربا في أَنْ ينتبهَ على الانتهاءِ أو يعيدَه إلى المعصيةِ . وقيل : يعودُ على الرِبا أي : في عفو الله عمَّا شاء منه أو في استمرارِ تحريمِه .