قوله تعالى : { إِلَى أَجَلٍ } : متعلِّقٌ بتدايَنْتُمْ ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لدَيْن . و " مُسَمَّى " صفةٌ لدَيْن ، فيكونُ قد قَدَّم الصفةَ المؤولةَ على الصريحةِ وهو ضعيفٌ ، فكان الوجهُ الأولُ أوجَهَ .
و " تَدَايَنَ " تفاعَلَ من الدَّيْن كتبايَعَ من البَيْع ، يقال : داينْتُ الرجل أي : عاملْتُه بدَيْنٍ ، وسواءً كنت معطياً أم آخذاً ، قال رؤبة :
دايَنْتُ أَرْوى والديونُ تُقْضى *** فَمَطَّلَتْ بعضاً وأَدَّتْ بَعْضَا
ويقال : دِنْتُ الرجلَ : إذا بِعْتُهُ بدَيْنٍ ، وأَدِنْتُه أنا : أَخَذْتُ منه بدَيْن ، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعَلَ .
قوله : { فَاكْتُبُوهُ } الضميرُ يعودُ على " بدَيْن " وإنما ذَكَرَ قولَه " بدَيْن " ليعيدَ عليه هذا الضميرَ ، وإنْ كان الدَّيْن مفهوماًن قولِهِ : " تدايَنْتُم " ، أو لأنه قد يُقال : تَداينوا أي : جازى بعضُهم بعضاً فقال : " بَدْينٍ " ليُزِيلَ هذا الاشتراكَ ، أو ليدُل به على العمومِ ، أي : أيِّ دين كان من قليلٍ وكثيرٍ .
وقوله : { إِلَى أَجَلٍ } على سبيلِ التأكيدِ ، إذ لا يكونُ الدَّيْن إلاَّ مؤجَّلاً ، وألفُ " مُسَمَّى " منقلبةٌ عن ياءٍ ، تلك الياءُ منقلبةٌ عن واو ، لأنه من التسميةِ ، وقد تقدَّم أنَّ المادةَ مِنْ سما يسمو .
قوله : { بِالْعَدْلِ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ الجارُّ متعلقاً بالفعلِ قبلَه . قال أبو البقاء : " بالعدلِ " متعلِّقٌ بقولِهِ : فَلْيَكْتُبْ ، أي : ليكتبْ بالحقِّ ، فيجوزُ أَنْ يكونَ حالا أي : ليكتبْ عادِلاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به أي : بسببِ العَدْلِ " . قولُه أولاً : " بالعدلِ متعلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب " يريدُ التعلقَ المعنويَّ ؛ لأنه قد جَوَّزَ فيه بعدَ ذلك أَنْ يكونَ حالاً ، وإذا كانَ حالاً تعلَّقَ بمحذوفٍ لا بنفسِ الفعلِ . وقوله : " ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً " يعني فتتعلَّقُ الباءُ حينئذٍ بنفسِ الفعلِ .
والثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب " كاتب " . قال الزمخشري : " متعلَّقٌ بكاتب صفةً له ، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتب " وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء . وقال ابنُ عطية : " والباءُ متعلقةٌ بقولِهِ : " وَلْيَكْتُب " ، وليْسَتْ متعلقةً بقولِهِ " كاتبٌ " لأنه كان يَلْزَمُ ألاَّ يكتبَ وثيقةً إلا العدلُ في نفسِهِ ، وقد يكتُبها الصبيُّ والعبدُ " .
الثالث : أن تكونَ الباءُ زائدةً ، تقديرُهُ : فَلْيكتب بينكم كاتبُ العدلِ .
قوله : { أَنْ يَكْتُبَ } مفعولٌ به أي : لا يأبَ الكتابَةَ .
و " كما عَلَّمه الله " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقولِهِ : " أَنْ يَكْتُبَ " على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضميِرِ المصدرِ على رأيِ سيبويه ، والتقدير : أَنْ يكتبَ كتابةً مثلَ ما عَلَّمه الله ، أو أَنْ يكتبَهُ أي : الكَتْبَ مثلَ ما عَلَّمه الله . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بقوله " فَلْيَكْتُبْ " بعدَه .
قال الشيخ : " والظاهرُ تعلُّق الكافِ بقولِهِ : " فَلْيَكْتُب " وهو قَلِقٌ لأجلِ الفاءِ ، ولأجلِ أنه لو كانَ متعلِّقاً بقولِهِ : " فَلْيكتب " لكان النظمُ فَلْيكتب كما عَلَّمه الله ، ولا يُحتاج إلى تقديمِ ما هو متأخرٌ في المعنى " .
وقال الزمخشري : - بعد أَنْ ذكرَ تعلُّقَهُ بِأَنْ يكتُبَ ، و ب " فليكتب " - " فإنْ قلت : أيُّ فرقٍ بين الوجهين ؟ قلت : إنْ عَلَّقْتَه بأَنْ يكتب فقد نَهَى عن الامتناعِ من الكتابةِ المقيَّدةِ ، ثم قيل له : فَلْيَكْتُب تلك الكتابةَ لا يَعْدِلُ عنها ، وإنْ عَلَّقْته بقوله : " فَلْيكتب " فقد نَهَى عن الامتناعِ بالكتابة على سبيلِ الإِطلاق ، ثم أَمَرَ بها مقيدةً " ويجوزُ أن تكونَ متعلقةً بقولِهِ : لا يَأْبَ ، وتكونُ الكافُ حينئذٍ للتعليلِ . قالَ ابنُ عطية : " ويُحْتَمل أن يكونَ " كما " متعلقاً بما في قولِه " ولا يأْبَ " من المعنى أي : كما أَنْعَمَ الله عليه بعلمِ الكتابةِ فلا يَأْبَ هو ، وَلْيُفْضِل كما أُفْضِلَ عليه " . قال الشيخ : " وهو خلافُ الظاهِرِ ، وتكونُ الكافُ في هذا القولِ للتعليلِ " قلت : وعلى القولِ بكونِها متعلقةً بقوله : " فَلْيكتب " يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليلِ أيضاً ، أي : فلأجلِ ما عَلَّمه اللَّهُ فليكتبْ .
وقرأ العامةُ : " فَلْيكتب " بتسكينِ اللام كقولهم : " كَتْف " في كَتِف ، إجراءً للمنفصلِ مُجْرى المتصلِ . وقد قرأَ الحسن بكسرِها وهو الأصلُ .
قوله : { وَلْيُمْلِلِ } أمرٌ من أَمَلَّ يُمِلُّ ، فلمَّا سَكَنَ الثاني جزماً جَرى فيه لغتان : الفكُّ وهو لغةُ الحجازِ ، والإِدْغامُ وهو لغةُ تميم ، وكذا إذا سَكَنَ وقفاً نحو : أملِلْ عليه وأَمِلَّ ، وهذا مطَّرِدٌ في كلِّ مضاعفٍ وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قراءتَيْ : " مَنْ يَرْتَدِدْ ، ويرتدَّ " في المائدةِ وعلَّة كلِّ لغةٍ .
وقُرىء هنا شاذاً : " وَلْيُمِلَّ " بالإِدغامِ ، ويقال : أَمَلَّ يُمِلُّ إملالاً ، وأَمْلَى يُملي إملاءً . ومِنْ الأولى قولُه :
ألا يا ديارَ الحيِّ بالسَّبُعان *** أَمَلَّ عليها بالبِلَى المَلَوانِ
ومن الثانيةِ قولُه تعالى : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } [ المائدة : 54 ] ، ويقال : أَمْلَلْتُ وَأَمْلَيْتُ ، فقيل : هما لغتانِ ، وقيل : الياءُ بدلٌ من أحدِ المِثْلَيْنِ ، وأصلُ المادتين : الإِعادةُ مرةً بعد أخرى .
و " الحقُّ " يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً ، و " عليه " خبرٌ مقدمٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتمادِهِ على الموصولِ ، والموصولُ هو فاعِلُ " يملل " ومفعولُه محذوفٌ أي : وَلْيُمْلِلُ الديَّانُ الكتابَ ما عليه من الحقِّ ، فَحَذَفَ المفعولين للعلمِ بهما . ويتعدَّى ب " على " إلى أحدِاهما : فيُقال : أَمْلَلْتُ عليه كذا ، ومنه الآيةُ الكريمة .
قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ } يجوزُ في " منه " أن يكونَ متعلقاً بيبخَسْ ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، والضميرُ في " منه " للحقِّ . والثاني : أنها متعلقة بمحذوفٍ لأنها في الأصلِ صفةٌ للنكرةِ ، فلمَّا قُدِّمَتْ على النكرةِ نُصِبَتْ حالاً .
و " شيئاً " : إمَّا مفعولٌ به وإمَّا مصدرٌ .
والبَخْسُ : النَّقْصُ ، يُقال منه : بَخَس زيدٌ عمراً حقَّه يَبْخَسُهُ بَخْسَاً ، وأصلُهُ من : بَخَسْتُ عينه ، فاستعيرَ منه بَخْسُ الحق ، كما قالوا : " عَوَرْتُ حَقَّه " استعارةً مِنْ عَوَرِ العَيْنِ . ويقال : بَخَصْتُه بالصادِ . والتباخُسُ في البَيْعِ : التناقُصُ ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايِعَيْنِ يُنْقِصُ الآخرَ حَقَّه .
قوله : { أَن يُمِلَّ هُوَ } أَن وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً به ، أي : لا يستطيعُ الإِملالَ ، و " هو " تأكيدٌ للضميرِ المستتر . وفائدةُ التوكيِدِ به رَفْعُ المجازِ الذي كان يحتمِلُه إسنادُ الفعلِ إلى الضميرِ ، والتنصيصُ على أنه غيرُ مستطيعٍ بنفسِه ، قاله الشيخ .
وقُرىء بإسكان هاء " هو " وهي قراءةٌ ضعيفة لأنَّ هذا الضميرَ كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلَها . ومَنْ سَكَّنَهَا أجرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في أول/ هذه السورة . قال الشيخ : " وهذا أشذُّ مِنْ قراءةِ مَنْ قَرَأَ : { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ القصص : 6 ] قلت : فَجَعَلَ هذه القراءةَ شاذةً وهذه أشدَّ منها ، وليسَ بجيدٍ ، فإنَّها قراءةٌ متواترةٌ قرأ بها نافع بن أبي نُعَيم قارىءُ أهلِ المدينة فيما رواه عنه قالُون ، وهو أضبطُ رواتِهِ لحرفِهِ ، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة .
والهاء في " وَليُّه " للذي عليه الحقُّ إذا كان متَّصفاً بإحدى الصفاتِ الثلاثِ . وقولُه " بالعَدْل " كما تقدَّم في نظيرِهِ فلا حاجةَ إلى إعادتِهِ .
وقوله : { وَاسْتَشْهِدُواْ } يجوزُ أن تكونَ السينُ على بابِها من الطلب أي : اطلُبوا شهيدَيْن ، ويجوزُ أن يكونَ استفعلَ بمعنى أَفْعَلَ ، نحو : اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعْجَل ، واسْتيقن بمعنى أَيْقَنَ وفي قوله : " شهيدين " تنبيهٌ على أنه ينبغي أن يكونَ الشاهدُ ممَّن تتكرَّرُ منه الشهادةُ حيث أتى بصيغةِ المبالغة .
قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } يجوزُ أن يتعلَّقَ باستشهِدوا ، وتكونُ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لشهيدَيْن و " مِنْ " تبعيضيةٌ .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } جَوَّزُوا في " كان " هذه أَنْ تكونَ الناقصةَ وأَنْ تكونَ التامَةَ ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانَتْ ناقصةً فالألفُ اسمُها ، وهي عائدةٌ على الشهيدَيْن أي : فإن لم يكنِ الشاهدان رَجُلَيْن ، والمعنى على هذا : إن أغْفَلَ ذلك صاحبُ الحق أو قصد أَنْ لا يُشْهِدَ رجلين لغرضٍ له ، وإنْ كانَتْ تامةً فيكون " رجلين " نصباً على الحال المؤكِّدة كقولِهِ : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } [ النساء : 176 ] ، ويكونُ المعنى على هذا أنه لا يُعْدَل إلى ما ذَكَرَ إلا عند عدمِ الرجال . والألفُ في " يكونا " عائدةٌ على " شهيدين " ، تفيدُ الرجوليةَ ، والتقديرُ : فإنْ لم يُوجَدِ الشهيدان رَجُلَيْن .
قوله : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } يجوزُ أَنْ يرتفعَ ما بعدَ الفاءِ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ تقديرُهُ : فرجلٌ وامرأتان يَكْفُون في الشهادةِ ، أو مُجْزِئون ونحوُه .
وقيل : هو خبرٌ والمبتدأٌ محذوفٌ تقديرُهُ : فالشاهدُ رجلٌ وامرأتان وقيل : بل هو مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديرُهُ : فيكفي رجلٌ أي : شهادةُ رجلٍ ، فَحُذِفَ المضافُ للعلمِ به ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه . وقيل : تقديرُه الفعلِ : فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ ، وهو أحسنُ ، إذ لا يُحْوِج إلى حذفِ مضافٍ ، وهو تقديرُ أبي القاسم الزمخشري . وقيل : هو مرفوعٌ بكان الناقصةِ ، والتقديرُ : فليكن مِمَّنْ يشهدون رجلٌ وامرأتان . وقيل : بل بالتامةِ وهو أَوْلى ، لأنَّ فيه حذفَ فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ ، وفي تقدير الناقصة حذفُها مع خبرِها ، وقد عُرِفَ ما فيه ، وقيل : هو مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ ، تقديرُهُ : فليُسْتَشْهَد رجلٌ . قال أبو البقاء : " ولو كان قد قرئ بالنصبِ لكانَ التقديرُ : فاسْتَشْهِدُوا " قلت : وهو كلامٌ حسنٌ .
وقرىء : " وامرأْتان " بسكون الهمزةِ التي هي لامُ الكلمة ، وفيها تخريجان ، أحدُهما : أنه أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً ، وليس قياسُ تخفيفِها ذلك ، بل بَيْنَ بينَ ، ولمَّا أبدلَهَا ألفاً هَمَزَهَا كمَا هَمزتِ العربُ نحو : العَأْلَم والخَأْتم وقوله :
وخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَأْلَمِ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الفاتحة ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إن شاء الله تعالى في قراءة ابنِ ذكوان : { مِنسَأَتَهُ } [ الآية : 14 ] في سبأ .
وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجِهِ ، ونَحا إلى القياسِ فقال : " ووجهُهُ أنه خَفَّفَ الهمزةَ - يعني بينَ بينَ - فَقَرُبَتْ من الألفِ ، والمُقَرَّبَةُ من الألفِ في حكمِها ؛ ولذلك لا يُبْتَدَأُ بها ، فلمَّا صارَتْ كالألفِ قَلَبَها همزةً ساكنةً كما قالوا : خَأْتم وعَأْلم .
والثاني : أن يكونَ قد استثقلَ تواليَ الحركاتِ ، والهمزةُ حرفٌ يُشْبِهُ حرفَ العلةِ فَتُسْتثقل عليها الحركةُ فَسُكِّنَتْ لذلك . قال الشيخ : " ويمكن أَنْ سَكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ ، وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزة في قول الشاعر :
1124 - يَقُولون جَهْلاً ليس للشيخِ عَيِّلٌ *** لَعَمْرِي لقد أَعْيَلْتُ وأْنَ رَقُوبُ
يريدُ : وأنا رَقوب ، فَسَكَّنَ همزة " أنا " بعد الواوِ ، وحَذَفَ ألف " أنا " وصلاً على القاعدةِ . قلت : قد نَصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال : " ولا يجوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزةَ لأنَّ المفتوحَ لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفتحةِ " وهذا من أبي الفتح محمولٌ على الغالِبِ ، وإلا فقد تقدَّمَ لنا آنفاً في قراءة الحسنِ " ما بَقِي من الربا " وقبلَ ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً ، حتى في الحروف الصحيحةِ السهلةِ ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفْلَةَ ؟
قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجل وامرأتين/ . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ لأنه نعتٌ لشهيدين . واستضعف الشيخُ الوجهَ الأولَ قال : " لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن " شهيدين " ، واستضعفَ الثاني أبو البقاء قال : " للفصلِ الواقعِ بينهما " .
الوجهُ الثالث : أنه بَدَلٌ مِنْ قولِه " من رجالكم " بتكريرِ العاملِ ، والتقديرُ : " واستشهِدوا شهيدَيْن مِمَّنْ تَرْضَوْن " ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفَه . وكان ينبغي أن يُضَعِّفَه بما ضَعَّفَ وجهَ الصفة ، وهو للفصلِ بينهما ، وضَعَّفه الشيخ بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشهيدين الرجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان . وفيه نظرٌ ، لأنَّ هذا من بدلِ البعضِ إنْ أخذنا " رجالكم " على العمومِ ، أو الكلِّ من الكِّل إن أخذناهم على الخصوصِ ، وعلى كِلا التقديرين فلا ينفي ذلك عَمَّا عداه ، وأمّا في الوصفِ فمسلَّمٌ ، لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ ، الرابع : أن يتعلَّقَ باستشهدوا ، أي : استشهدوا مِمَّن تَرْضَوْن . قال الشيخ : " ويكون قيداً في الجميعِ ، ولذلك جاء متأخراً بعد الجميعِ " .
قوله : { مِنَ الشُّهَدَآءِ } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من العائدِ المحذوفِ ، والتقدير : مِمَّنْ تَرْضَوْنَه حالَ كونِه بعضَ الشهداء . ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ " مِنْ " بإعادةِ العاملِ ، كما تقدَّم في نفسِ " مِمَّنْ تَرْضَوْن " ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القولين في كلٍّ منهما .
قوله : { أَن تَضِلَّ } قرأ حمزةُ بكسر " إنْ " على أنَّها شرطيةٌ ، والباقون بفتحِها ، على أنَّها المصدريةُ الناصبةٌ ، فأمَّا القراءةُ الأولى فجوابُ الشرطِ فيها قولُه " فتذكِّرُ " ، وذلك أنَّ حمزةَ رحمه الله يقرأ : " فَتُذَكِّرُ " بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ فَصَحَّ أن تكونَ الفاءُ وما في حَيِّزها جواباً للشرطِ ، ورَفَعَ الفعلَ لأنه على إضمارِ مبتدأ أي : فهي تُذِكِّر ، وعلى هذه القراءةِ فجملةُ الشرطِ والجزاءِ هل لها محلُّ من الإِعراب أم لا ؟ فقال ابن عطيةَ : " إنَّ محلَّها الرفعُ صفةً لامرأتين " ، وكان قد تقدَّم أنَّ قولَه : " مِمَّنْ تَرْضَوْن " صفةٌ لقولِه " فرجلٌ وامرأتان " قال الشيخ : " فصار نظيرَ " جاءني رجلٌ وامرأتان عقلاءُ حُبْلَيَان " وفي جوازِ مثلِ هذا التركيبِ نظرٌ ، بل الذي تقتضيه الأقيسةُ تقديمُ " حُبْلَيَان " على " عقلاء " ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ " ممَّنْ تَرْضَوْن " بدلٌ من رجالكم ، أو متعلِّقٌ باستشهدوا فيتعذَّرُ جَعْلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصلِ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي " . قلت : وابن عطية لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ ، بل سَبَقَه إليه الواحدي فإنه قال : " وموضعُ الشرطِ وجوابُه رفعٌ بكونِهما وصفاً للمذكورين وهما " امرأتان " في قوله : " فرجلٌ وامرأتان " لأنَّ الشرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما ، كما يُوصَلُ بهما في قولِه { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ }
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشرطيةَ مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحكمِ ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأن قائلاً قال : ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل ؟ فأُجيبَ بهذه الجملةِ .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ ف " أَنْ " فيها مصدريةٌ ناصبةٌ بعدَها ، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ ، بخلافِها في قراءةِ حمزة ، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين ، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغامِ في الثانية ، والثانيةُ مُسَكَّنةٌ للجزم ، ولا يمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ ، فَحرَّكْنا الثانيةَ بالفتحةِ هرباً من التقائِهما ، وكانتِ الحركةُ فتحةً ، لأنها أَخَفُّ الحركاتِ ، وأَنْ وما في حَيَّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ بعدَ حذفٍ حرفِ الجر ، وهي لامُ العلة ، والتقديرُ : لأنْ تَضِلَّ ، أو إرادةَ أَنْ تَضِلَّ .
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه فِعْلٌ مضمرٌ دَلَّ عليه الكلامُ السابق ، إذ التقديرُ : فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين لأنْ تَضِلَّ إحداهما ، ودَلَّ على هذا الفعلِ قولُه : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } قالَه الواحدي ، ولا حاجةَ إليه ، لأنَّ الرافعَ لرجل وامرأتين مُغْنٍ عن تقدير شيءٍ آخرَ ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولِك : " فرجلٌ وامرأتان " إذ تقديرُ الأولِ : فَلْيَشْهد رجلٌ ، وتقديرُ الثاني : فرجلٌ وامرأتان يشهدون لأَنْ تَضِلَّ ، وهذان التقديرانِ هما الوجهُ الثاني والثالثُ من الثلاثةِ المذكورةِ .
وهنا سؤالٌ واضحٌ جَرَتْ عادةُ المُعْرِبين والمفسِّرين يسألونَه وهو : كيف جُعِل ضلالُ إحداهما علةً لتطلُّبِ الإِشهاد أو مراداً لله تعالى ، على حَسَبِ التقديرَيْن المذكورَيْن أولاً ؟ وقد أجابَ سيبويه وغيرُه عن ذلك بأن الضلالَ لَمَّا كان سبباً للإِذكار ، والإِذكارُ مُسَبَّباً عنه ، وهم يُنَزَّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسِهما واتصالِهما كانَتْ إرادةُ الضلالِ المُسَبَّبِ عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكارِ . فكأنه قيل : إرادَةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهما الأخرى إنْ ضَلَّتْ ، ونظيرُه قولُهم : " أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائطُ فأدعمَه ، وأعدْدتُ السلاحَ ان يجيءَ عدوٌ فأدفعَه " فليس إعدادُك الخشبةَ لأَنْ يميلَ الحائطُ ولا إعدادُك السلاحَ لأنْ يجيءَ عدوٌ ، وإنما هما للإِدغام إذا مالَ/ وللدفع إذا جاء العدوُ ، وهذا مِمَّا يعدُ إليه المعنى ويُهْجَرُ فيه جانبُ اللفظَ .
وقد ذهب الجرجاني في هذه الآيةِ إل أنَّ التقديرَ : مخافةَ أَنْ تَضِلَّ ، وأنشد قول عمروٍ :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . فَعَجَّلْنا القِرى أَنْ تَشْتِمُونا
أي : مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا " وهذا صحيحٌ لو اقتُصِر عليه مِنْ غيرِ أَنْ يُعْطَفَ عليه قولُه " فَتُذَكِّرَ " لأنه كان التقديرُ : فاستشهِدوا رجلاً وامرأتين مخافةَ أَنْ تضِلَّ إحداهما ، ولكنَّ عَطْفَ قوله : " فتذكِّر " يُفْسِده ، إذ يَصِيرُ التقديرُ : مخافةَ أَنْ تذكر إحداهما الأخرى ، وإذكارُ إحداهما الأخرى ليس مخوفاً منه ، بل هو المقصودُ ، قال أبو جعفر : " سمعتُ عليَّ بن سليمان يَحْكي عن أبي العباس أن التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ " قال أبو جعفر : " وهو غلطٌ إذ يصيرُ المعنى : كراهةَ أَنْ تُذَكِّر إحداهُما الأخرى " انتهى .
وذهب الفراء إلى أغربَ مِنْ هذا كلِّه فَزَعَمَ أَنَّ تقديرَ الآيةِ الكريمة : " كي تذكِّر أحداهما الأخرى إنْ ضَلَّت " فلَّما قُدِّم الجزاءُ اتصلَ بما قبلَه ففُتِحَتْ " أَنْ " ، قال : " ومثلُه من الكلامِ : " إنه ليعجبُني أَنْ يسألَ السائلُ فيُعْطى " معناه : إنه ليعجبني أَن يُعْطَى السائلُ إن سَأَلَ ؛ لأنه إنما يُعْجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ ، فلمَّا قَدَّموا السؤالَ على العَطِيَّة أصحبوه أَنْ المفتوحة لينكشِفَ المعنى " ، فعنده " أنْ " في " أَنْ تَضِلَّ " للجزاءِ ، إلاَّ أنه قُدِّم وفُتِح وأصلُه التأخيرُ .
وأنكر هذا القولَ البصريُّون وَردُّوه أبلغ ردٍّ . قال الزجاج : " لَسْتُ أدري لمَ صار الجزاءُ [ إذا تقدَّم ] وهو في مكانِه وغيرِ مكانِه وَجَبَ أن يَفْتَحْ أن " . وقال الفارسي : " ما ذَكَرَه الفراء دعوى لا دلالةَ عليها والقياسُ يُفْسِدُها ، ألا ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العاملَ إذا تغيَّرت حركتُه لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عَملِهِ ولا معناه ، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتحِ اللامِ الجارَّةِ مع المُظْهَرِ عن يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر ، فكما أنَّ هذه اللامَ لَمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ ، كذلك " إنْ " الجزائيةُ ينبغي إذا فُتِحَتْ ألاَّ يتغيَّر عملها ولا معناها ، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديمِ ولا بالتأخيرِ ، ألا ترى لقولِك : " مررتُ بزيدٍ " ثم تقول : " بزيد مررت " فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ " .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " فَتُذِكِرَ " بتخفيفِ الكافِ ونصبِ الراءِ من أَذْكَرْتُه أي : جَعَلْتُه ذاكراً للشيءِ بعدَ نِسْيانِه ، فإنَّ المرادَ بالضلالِ هنا النسيانُ كقولِه تعالى : { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ } [ الشعراء : 20 ] وأنشدوا الفرزدق :
ولقد ضَلَلْتَ أباكَ يَدْعُو دارمِاً *** كضلالِ ملتمسٍ طريقَ وِبارِ
فالهمزةُ في " أَذْكَرْتُه " للنقلِ والتعديةِ ، والفعلُ قبلَها متعدٍّ لواحدٍ ، فلا بُدَّ من آخرَ ، وليسَ في الآية إلا مفعولٌ واحدٌ فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثاني ، والتقديرُ فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى الشهادةَ بعد نِسْيانِها إن نَسِيَتْهَا ، وهذا التفسيرُ هو المشهورُ .
وقد شَذَّ بعضُهم فقال : " معنى فَتُذْكِرَ إحداهما الأخرى أي : فتجعلَها ذَكَراً ، أي : تُصَيِّرُ حكمَها حكمَ الذَّكَرِ في قَبولِ الشهادةِ . وروى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال : " فَتُذَكِّر إحداهما الأخرى بالتشديدِ فهو من طريقِ التذكير بعد النسيان ، تقول لها : هل تَذْكُرين إذ شَهِدْنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ أو فلانة ، ومَنْ قرأ " فَتُذْكِرَ " بالتخفيف فقال : إذا شَهِدَتِ المرأةُ ثم جاءَتِ الأخرى فَشَهِدَتْ معها فقد أَذْكَرَتْها لقيامِهما مقامَ ذَكَر " ولم يَرْتَضِ هذا من أبي عمرو المفسرون وأهلُ اللسان ، بل لم يُصَحِّحوا روايةَ ذلك عنه لمعرفتِهم بمكانتِه من العلمِ ، ورَدُّوه على قائله من وجوهٍ منها : أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلةَ الضلالِ المرادِ به النسيانُ بالإِذكار والتذكيرِ ، ولا تناسُبَ في المقابلةِ بالمعنى المنقولِ عنه . ومنها : أنَّ النساءَ لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العَدَدِ لا بد معهنَّ مِنْ رجلٍ يَشْهَدُ معهم ، فلو كان ذلك المعنى صحيحاً لذكَّرَتْها بنفسِها من غيرِ انضمامِ رجلٍ ، هكذا ذَكَروا ، وينبغي أَنْ يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأتينِ ، وإلاَّ فقد نَجِدُ النساءَ يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انضمامِ رجلٍ إليهنَّ ، ومنها : أنها لو صَيَّرَتْها ذَكَراً لكان ينبغي أَنْ يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ ، ولا يُقْتَصرُ به على ما فيه .
. . وفيه نظرٌ أيضاً ، إذ هو مشتركٌ الإِلزامِ/ لأنه يُقال : وكذا إذا فَسَّرْتموه بالتذكير بعد النسيانِ لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها ، فما أُجيب به فهو جوابُهم أيضاً .
وقال الزمخشري : " ومِنْ بِدَع التفاسيرِ : " فَتُذَكِّرَ " فتجعلَ إحداهما الأخرى ذَكَرَاً ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر " انتهى . ولم يَجْعَلْ هذا القولَ مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخْرى .
وأمَّا نصبُ الراءِ فنسقٌ على " أَنْ تَضِلَّ " لأنَّهما يَقْرآن : " أَنْ تَضِلَّ " بأَنْ الناصبةِ ، وقرأ الباقون بتشديدِ الكافِ من " ذَكَّرْتُه " بمعنى جَعَلْتُه ذاكِراً أيضاً ، وقد تقدَّم أنَّ حمزةَ وحدَه هو الذي يَرْفع الراء .
وخَرَجَ من مجموعِ الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ : فحمزة وحدَه : " إنْ تَضِلَّ فتذكَّرُ " بكسر " إنْ " وتشديدِ الكافِ ورفعِ الراء ، وأبو عمرو وابنُ كثير بفتح " أنْ " وتخفيفِ الكافِ الراء ، والباقون كذلك ، إلا أنهم يُشَدِّدون الكافَ .
والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى ، [ نحو ] : أَكْرَمْتُه وَكَرَّمته ، وفَرَّحته وأَفْرحته . قالوا : والتشديدُ في هذا اللفظ أكثرُ استعمالاً من التخفيفِ ، وعليه قولُه :
على أنني بعدَ ما قد مضى *** ثلاثونَ للهَجْرِ حَوْلاً كميلا
يُذَكِّرُنِيك حنينُ العَجولِ *** ونَوْحُ الحمامةِ تَدعُو هَدِيلا
وقرأ عيسى بن عمر والجحدري : " تُضَلَّ " مبنياً للمفعول ، وعن الجحدري أيضاً : " تُضِلَّ " بضمِ التاء وكسر الضاد من أَضَلَّ كذا أي : أضاعه ، والمفعولُ محذوفٌ أي : تُضِلَّ الشهادة . وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهد : " فَتَذْكُرُ " برفع الراء وتخفيف الكاف ، وزيد بن أسلم : " فتُذاكِرُ " من المذاكرة .
وقوله : { إِحْدَاهُمَا } فاعل " والأخرى " مفعول ، وهذا مِمَّا يَجِبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعرابِ والمعنى نحو : ضَرَب موسى عيسى . قال أبو البقاء : ف " إحداهما " فاعلٌ ، و " الأخرى " مفعول ، ويَصِحُّ العكس ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النحويين في الإِعراب ، لأنه إذا لم يظهر الإِعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ وَجَبَ تقديمُ الفاعل [ فيما ] يُخاف فيه اللَّبْسُ ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جازَ تقديمُ المفعولِ كقولك : " كسر العصا موسى " ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ لأنَّ النِّسْيَانِ والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما بل ذلك على الإِبهامِ ، وقد عُلِم بقوله " فَتُذَكِّرَ " أنَّ التي تُذَكِّر هي الذاكرة والتي تُذَكَّرُ هي الناسية ، كما علم من لفظ " كَسَر " مَنْ يَصِحُّ منه الكسرُ ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل " إحداهما " فاعلاً ، و " الأخرى " مفعولاً وأن تعكس " انتهى .
ولَمَّا أَبْهَمَ الفاعلَ في قولِه : { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } أَبْهَمَ أيضاً في قوله : " فَتُذَكِّر إحداهما " لأنَّ كلاً من المرأتين يجوزُ عليها ما يجوزُ على صاحبتِها من الإِضلالِ والإِذكارِ ، والمعنى : إنْ ضَلَّتْ هذه أَذْكَرَتْها هذه ، فَدَخَلَ الكلامَ معنَى العموم
قال أبو البقاء : " فإنْ قيل : لِمَ لَمْ يَقُلْ : " فتذكِّرها الأخرى " ؟ قيل فيه وجهان ، احدُهما : أنه أعاد الظاهرَ لِيَدُّلَّ على الإبهامِ في الذِّكْر والنسيان ، ولو أَضْمَرَ لَتَعَيَّن عودُه على المذكور . والثاني : أني وَضَع الظاهرَ مَوْضِع المضمرِ ، تقديرُه : " فتذكِّرها " وهذا يَدُلَّ على أن " إحداهما " الثانية مفعولٌ مقدمٌ ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجهِ ، لأنَّ المضمرَ هو المُظْهَرُ بعينه ، والمُظْهَرُ الأول فاعل " تضِلَّ " فلو جعل الضمير لذلك المظهَرِ لكانت الناسيةُ هي المُذَكِّرَة ، وذا مُحَالٌ " قلت : وقد يتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ الوجهينِ راجعانِ لوجهٍ واحدٍ قبلَ التأمُّلِ ، لأنَّ قولَه : " أعادَ الظاهرَ " قريبٌ من قوله : " وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمرِ " .
و " إحدى " تأنيثُ " الواحد " قال الفارسيّ : " أَنَّثُوه على غير بنائِه ، وفي هذا نظرٌ ، بل هو تأنيثُ " أَحَد " ولذلك يقابُلونها به في : أحد عشرَ وإحدى عَشَرَة [ و ] واحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين . وتُجْمَعُ " إحدى " على " إحَد " نحو : كِسْرَة وكِسَر . قال أبو العباس : " جَعَلَوا الألفَ في الإِحدى بمنزلةِ التاء في " الكِسْرة " فقالوا في جَمْعِها : إحَد كما قالوا : كَسْرة وكِسَر ، كما جَعَلُوه مثلَها في الكُبْرَى والكُبَر ، والعُلْيا والعُلى ، فكما جَعَلوا هذه كظُلْمة وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر " قال : " وكما جعلوا الألفَ المقصورةَ بمنزلةِ التاءِ فيما ذُكِر جعلوا الممدودة أيضاً بمنزلتِها في قولِهم " قاصِعَاء وقواصِع " ودامّاء ودوامّ " يعني أن فاعِلَة نحو : ضارِِبَة تُجمع على ضوارب ، كذا فاعِلاء نحو : قاصِعاء وراهِطاء تُجْمَع على فَواعِل ، وأنشد ابنُ الأعرابي على إحدى وإحَد قولَ الشاعر :
حتى استثاروا بيَ إحدى الإِحَدِ *** ليثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدي
قال : يقال : هو إحدى الإِحَدِ ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ ، وواحدُ الآحادِ ، كما يقال : واحدٌ لا مِثْلَ له ، وأنشد البيت .
واعلَمْ أنَّ " إحدى " لا تُسْتعمل إلا مضافةً إلى غيرِها ، فيقال : إحدى الإِحَدِ وإحداهما ، ولا يقال : جاءَتْني إحدى ، ولا رأيت إحدى ، وهذا بخلافِ مذكَّره .
و " الأُخْرى " تأنيث " آخَر " الذي هو أَفْعَلُ التفضيلِ ، وتكونُ بمعنى آخِرة ، كقولِه تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ }
[ الأعراف : 38 ] ، يُجْمَعُ كلُّ منهما على " أُخَر " ، ولكنَّ جمعَ الأولى ممتنعٌ من الصرفِ ، وفي علتِه خلافٌ ، وجَمْعُ/ الثانيةِ منصرفٌ ، وبينهما فرقٌ في المعنى ، وهذا كلُّه سأوضِّحه إن شاء الله تعالى في الأعرافِ فإنه أَلْيَقُ به .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ } مفعولُه محذوفٌ لفهمِ المعنى ، أي : لا يَأْبَوْن إقامةَ الشهادةِ ، وقيل : المحذوفُ مجرورٌ لأنَّ " أبى " بمعنى امتنع ، فيتعدَّى تعديتَه أي مِنْ إقامةِ الشهادة .
و { إِذَا مَا دُعُواْ } ظرفٌ ل " يَأْبَ " أي : لا يَمْتنعون في وقتِ دَعْوَتهم لأدائِها ، أو لإِقامتها ، ويجوزُ أن تكونَ متمحضةً للظرف ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً والجوابُ محذوفٌ أي : إذا دُعوا فلا يَأْبُوا .
قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } مفعولٌ به والناصبُ له " تَسْأَموا " لأنه يتعدَّى بنفسِه قال :
سَئِمْتُ تكاليفَ الحياةِ ومَنْ يَعِشْ *** ثمانينَ حَوْلاً لا أبا لَكَ يَسْأَمِ
وقيل : بل يتعدَّى بحرفِ الجر ، والأصلُ : مِنْ أَنْ تكتبُوه ، فَحَذَفَ حرفَ الجرِّ للعلمِ به فَيَجْري الخلافُ المشهور في " أَنْ " بعدَ حذفِه ، ويَدُلُّ على تعدِّيه ب " مِنْ " قوله :
ولقد سَئِمْتُ من الحياةِ وطولِها *** وسؤالِ هذا الناسِ كيف لبيدُ
والسَّأَم والسَّآمَةُ : المَلَلُ من الشيءَ والضَّجَرُ منه .
والهاءُ في " تَكْتبوه " يجوزُ أَنْ تكونَ للدَّيْن في أول الآية ، وأن تكونَ للحقّ في قولِه : " فإنْ كان الذي عليه الحقُّ " وهو أقربُ مذكورٍ ، والمرادُ به " الدَّيْن " وقيل : يعودُ على الكتابِ المفهومِ من " يَكْتبوه " قاله الزمخشري .
و " صغيراً أو كبيراً " حالٌ ، أي : على أيّ حالٍ كان الدَّيْنُ قليلاً أو كثيراً ، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتابُ مختصراً أو مُشْبَعاً ، وجَوَّزَ السجاوندي انتصابَه على خبرِ " كان " مضمرةً ، وهذا لا حاجةَ تَدْعُوا إليه ، وليس من مواضعِ إضماره .
وقرأ السلمي : { ولا يَسْأَموا أَنْ يَكْتبوه } بالياءِ من تحتُ فيهما . والفاعلُ على هذه القراءةِ ضميرُ الشهداءِ ، ويجوزُ أن يكونَ من بابِ الالتفاتِ ، فيعودُ : إمَّا على المتعامِلِين وإمَّا على الكُتَّاب .
قوله : { إِلَى أَجَلِهِ } يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي : أَنْ تكتبوه مستقراً في الذمَّةِ إلى أجلِ حُلولِه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بتكتبُوه ، قاله أبو البقاء . وهذا قد ردَّه الشيخ فقال : " هو متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب " تكتبوه " لعدمِ استمرارِ الكتابةِ إلى أجلِ الدَّيْن إذ ينقضي في زمنٍ يسير ، فليس نظيرَ : " سرت إلى الكوفةِ . والثالث : أن يتعلَّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاءِ ، قاله أبو البقاء .
قوله : { ذَلِكُمْ } مُشَارٌ به لأقربِ مذكورٍ وهو الكَتْب . وقيل إليه وإلى الإِشهاد ، وقيل : إلى جميع ما ذُكِر وهو أحسنُ . و " أَقْسَطُ " قيل : هو من أَقْسَطَ إذا عَدَلَ ، ولا يكونُ من قسَطَ ، لأنَّ قَسَط بمعنى جار ، وأَقْسَط بمعنى عَدَل ، فتكونُ الهمزةُ للسَّلْبِ ، إلا أنه يَلْزَمُ بناءُ أَفْعَل من الرباعي ، وهو شاذٌّ .
قال الزمخشري : " إنْ قلتَ مِمَّ بُنِي أَفْعلا التفضيلِ - أعني أَقْسَط وأَقْوم ؟ - قلت : يجوزُ على مذهبِ سيبويه أَنْ يكونا مَبْنِيَّين مِنْ " أقسط " و " أقام " وأَنْ يكونَ " أَقْسَط " من قاسِط على طريقةِ النسبِ بمعنى : ذي قِسْطٍ ؛ و " أقوم " من قويم " . قال الشيخ : لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعلَ التفضيلِ يُبْنَى من " أَفْعل " ، إنما يُؤْخَذُ ذلك بالاستدلالِ ، فإنه نصَّ في أوائلِ كتابِه على أنَّ " أَفْعَل " للتعجبِ يكونُ من فَعَل وفَعِل وفَعُل وأَفْعَل ، وظاهرُ هذا أن " أَفْعَل " للتعجب يُبنى منه أَفْعل للتفضيل ، فما اقتاسَ في التعجب اقتاسَ في التفضيلِ ، وما شَذَّ فيه شَذَّ فيه شَذَّ فيه . وقد اختلف النحويون في بناءِ التعجبِ وأَفْعَل التفضيل من أَفْعَل على ثلاثةِ مذاهب : الجوازُ مطلقاً ، والمنعُ مطلقاً ، والتفضيلُ بين أَنْ تكونَ الهمزةُ للنقلِ فيمتنِعَ ، أو لا فيجوزَ ، وعليه يُؤَوَّل كلامُ سيبويه ، حيث قال : " إنه يبنى من أَفْعَل " أي الذي همزتُه لغيرِ التعدية . ومَنْ مَنَعَ مطلقاً قال : " لم يَقُلْ سيبويه وأَفْعَلَ بصيغة الماضي " إنما قالها أَفْعِل بصيغةِ الأمر ، فالتبس على السامعِ ، ويعني أنه يكونُ فعلُ التعجب على أَفْعِلْ ، بناؤُه من فَعَل وفَعِل وفعُل ، وعلى أفعِل . ولهذه المذاهبِ موضوعٌ هو أليقُ بالكلامِ عليها .
ونَقَل ابن عطية أنه مأخوذٌ من " قَسُط " بضمِّ السينِ نحو : " أَكْرَمَ " من " كَرُم " . وقيل : هو من القِسْط بالكسر وهو العَدْلُ ، وهو مصدرٌ لم يُشْتَقَّ منه فِعْلٌ ، وليس من الإِقساط ؛ لأنَّ أفعَل لا يُبنى من " الإِفعال " . وهذا الذي قلته كلَّه بناءً منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجَوْر والرباعيَّ بمعنى العَدْل .
ويُحكى أن سعيد بن جبير لَمَّا سأله الظالمُ [ الحجَّاجُ ] بن يوسف : ما تقول فِيَّ ؟ فقال : " أقولُ إنك قاسِطٌ عادِلٌ " ، فلم يَفْطِن له إلا هو ، فقال : إنه جعلني جائراً كافراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
وأمَّا إذا جَعَلْناه مشتركاً بين عَدَلَ وبين جارَ فالأمرُ واضحٌ قال ابن القطاع : " قَسَط قُسوطاً وقِسْطاً : جارَ وعَدَل ضِدٌّ " . وحكى ابن السِّيد في كتابِ " الاقتضاب " له عن ابن السكيت في كتاب " الأضداد " عن أبي عبيدة : " قَسَط : جارَ ، وقَسَط : عَدَل ، وأَقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير . وقال أبو القاسم الراغب الأصبهاني : " القِسْطُ أن يأخذَ قِسْطَ غيرِه ، وذلك جَوْرٌ ، والإِقساطُ أن يُعْطِي قسطَ غيرِه ، وذلك إنصافٌ ، ولذلك يقال : قَسَط إذا جار ، وأَقْسَط إذا عَدَل " وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ في سورة النساءِ إن شاء الله تعالى .
و " عند الله " / ظرفٌ منصوبٌ ب " أَقْسَط " أي : في حكمِه . وقوله " وَأَقْوَمُ " إنما صَحَّت الواوُ فيه لأنه أفعلُ تفضيلٍ ، وأفعلُ التفضيلِ يَصِحُّ حملاً على فِعْل التعجب ، وصَحَّ فعلُ التعجبِ لجريانه مَجْرى الأسماء لجمودِه وعدمِ تصرُّفِه .
و " أَقْوَمُ " يجوزُ أن يكونَ من " أقام " الرباعي المتعدِّي ؛ لكنه حَذَف الهمزةَ الزائدة ، ثم أتى بهمزةِ أَفْعل كقولِه تعالى : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى }
[ الكهف : 12 ] فيكونُ المعنى : أَثْبَتُ لإِقامتِكم الشهادةَ ، ويجوزُ أن يكونَ من " قام " اللازم ويكونُ المعنى : ذلك أثبتُ لقيامِ الشهادةِ ، وقامَتِ الشهادةُ : ثَبَتَتْ ، قاله أبو البقاء .
قوله : " للشهادةِ متعلِّق ب " أَقْوَم " ، وهو مفعولٌ في المعنى ، واللامُ زائدةٌ ولا يجوزُ حَذْفَها ونصبُ مجرورِها بعد أفعلِ التفضيلِ إلا ضرورةً كقوله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
وقد قيلَ : إن " القوانسَ " منصوبٌ بمضمرٍ يَدُلُّ عليه أفعلُ التفضيلِ ، هذا معنى كلام الشيخ ، وهو ماشٍ على أنَّ " أَقْوَم " من أقام المتعدي ، وأما إذا جعلته من " قَام " بمعنى ثَبَت فاللامُ غير زائدة .
قوله : { أَلاَّ تَرْتَابُوا } أي : أقربُ ، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ ، فقيل : هو اللامُ أي : أَدْنى لئلاَّ ترتابوا ، وقيل هو " إلى " وقيل : هو " من " أي : أَدْنى إلى أن لا ترتابوا وأدنوى مِنْ أن لا ترتابوا . وفي تقديرهم " مِنْ " نظرٌ ، إذ المعنى لا يساعِدُ عليه . و " ترْتابوا " : تَفْتَعِلُوا من الرِّيبة ، والصل : " تَرْتَيِبوا " ، فَقُلِبَتِ الياءُ ألفاً لتحرُّكِها وانفتاحِ ما قبلَها . والمفضَّلُ عليه محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : أَقْسطُ وأقومُ وأدنى لكذا مِنْ عدمِ الكَتْب ، وحَسَّن الحذفَ كونُ افعلَ خبراً للمبتدأ بخلافِ كونِه صفةً أو حالاً . وقرأ السلمين : { أَنْ لا يرتابوا ] بياء الغيبة كقراءةِ : { ولا يَسْأموا أَنْ يكتبوه } وتقدَّم توجيهُ ذلك .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناءِ قولان ، أحدُهما : أنه متصلٌ قال أبو البقاء : " والجملةُ المستثناةُ في موضعِ نصبٍ لأنه استثناءٌ من الجنس لأنه أمرٌ بالاستشهادِ في كلِّ معاملةٍ ، واستثنى منها التجارة الحاضرةَ ، والتقديرُ : إلا في حالِ حضورِ التجارةِ " . والثاني : انه منقطعٌ ، قال مكي ابن أبي طالب : " و " أَنْ " في موضعِ نصبٍ على الاستثناءِ المنقطعِ " قلت : وهذا هو الظاهرُ ، كأنه قيل : لكنّ التجارةَ الحاضرةَ فإنه يجوزُ عدمُ الاستشهادِ والكَتْبِ فيها .
وقرأ عاصم هنا " تجارةً " بالنصب ، وكذلك " حاضرةً " لأنها صفتُها ، وفي النساء وافقه الأخوان ، والباقون قرؤوا بالرفعِ فيهما . فالرفعُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنها التامةُ أي : إلا أَنْ تَحْدُثَ أو تقعَ تجارةً ، وعلى هذا فتكونُ " تُديرونها " في محلِّ رفعٍ صفةً لتجارةً أيضاً ، وجاء هنا على الفصيحِ ، حيث قَدَّم الوصفَ الصريحَ على المؤول .
والثاني : ان تكونَ الناقصةَ ، واسمُها " تجارةٌ " والخبرُ هو الجملةُ من قوله : " تُديرونها " كأنه قيل : إلا أن تكونَ تجارةٌ حاضرةٌ مدارةً ، وسَوَّغ مجيءَ اسمِ كان نكرةً وصفُه ، وهذا مذهبُ الفراء وتابعه آخرون .
وأمَّا قراءةُ عاصم فاسمُها مضمرٌ فيها ، فقيل : تقديرُه : إلا أَنْ تكونَ المعاملةُ أو المبايَعَةُ أو التجارةُ . وقَدَّره الزجاج إلاَّ أَنْ تكونَ المداينةُ ، وهو أحسنُ . وقال الفارسي : " ولا يجوزُ أن يكونَ التداينُ اسمَ كان لأنَّ التداينَ معنىً ، والتجارةُ الحاضرةُ يُراد بها العينُ ، وحكمُ الاسمِ أن يكونَ الخبرَ في المعنى ، والتدايُن حَقٌّ في ذمةِ المستدينِ ، للمدين المطالبةُ به ، وإذا كان كذلك لم يَجُزْ أن يكونَ اسمَ كان لاختلافِ التداينِ والتجارةِ الحاضرةِ " وهذا الذي قاله الفارسي لا يَظْهَرُ رداً على أبي إسحاق ، لأن التجارةَ أيضاً مصدرٌ ، فهي معنىً من المعاني لا عينٌ من الأعيان ، وبين الفارسي والزجاج محاورةٌ لأمرٍ ما .
وقال الفارسيّ أيضاً : " ولا يجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ اسمَها " الحقُّ " الذي في قوله : " فإن كان الذي عليه الحق " للمعنى الذي ذكرنا في التداين ، لأنَّ ذلك الحقَّ دَيْنٌ ، وإذا لم يَجُزْ هذا لم يَخْلُ اسمُ كان من أحدِ شيئين ، أحدُهما : أنَّ هذه الأشياءَ التي اقتضَتْ من الإِشهادِ والارتهانِ قد عُلِم من فحواها التَبايعُ ، فأضمرَ التبايعَ لدلالةِ الحالِ عليه كما أضمرَ لدلالةِ الحال فيما حكى سيبويه : " إذا كان غداً فأتني " ويُنْشَدُ على هذا " :
أعينيَّ هَلاَّ تبكِيان عِفاقا *** إذا كان طَعْناً بينهم وعِناقا
أي : إذا كان الأمر . والثاني : أن يكونَ أضمرَ التجارة كأنه قيل : إلا أن تكونَ التجارةُ تجارةً ، ومثلُه ما أنشدَه الفراء :
فَدىً لبني ذُهْلِ بن شيبانَ ناقتي *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْهَبَا
بني أسدٍ هل تَعْلَمُون بلاءنا *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أَشْنَعا
أي : إذا كان اليومُ يوماً . و " بينكم " ظرفٌ لتُديرونها .
قوله : { فَلَيْسَ } قال أبو البقاء : " دَخَلَتِ الفاءُ في " فليس " إيذاناً بتعلُّق ما بعدَها بما قبلَها " قلت : هي عاطفةٌ هذه الجملةَ على الجملةِ من قولِه : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } إلى آخرها ، والسببيةُ فيها واضحةُ أي : بسببٍ عن ذلك رُفِع الجناحُ في عَدَمِ الكتابة .
وقوله : { أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } أي : " في أن لا " ، فَحُذفَ حرفُ الجر فبقي في موضعِ " أَنْ " الوجهان :
قوله : { إِذَا تَبَايَعْتُم } يجوزُ أن/ تكونَ شرطيةً ، وجوابُها : إمَّا متقدم عند قومٍ ، وإمَّا محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه تقديرُه : إذا تبايَعْتُم فَأَشْهِدوا ، ويجوزُ أن تكونَ ظرفاً محضاً أي : افعلوا الشهادةَ وقتَ التبايعِ .
قوله : { وَلاَ يُضَآرَّ } العامة على فتح الراء جزماً ، و " لا " ناهيةٌ ، وفُتِح الفعلُ لما تقدم في قراءةِ حمزةَ : " إن تَضِلَّ " .
ثم هذا الفعلُ يحتملُ أن يكونَ مبنياً للفاعلِ ، والأًصلُ : " يضارِرْ " بكسر الراءِ الأولى فيكونُ " كاتب " و " شهيد " فاعلَيْن نُهِيا عن مُضَارَّةِ المكتوبِ له والمشهودِ له ، نُهِيَ الكاتبُ عن زيادةِ حرفٍ يُبْطل به حقاً أو نقصانِه ، ونُهِيَ الشاهدُ [ عن ] كتمِ الشهادةِ ، واختاره الزجاج ، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } ، ولا شك أنَّ هذا من الكاتبِ والشاهدِ فِسْقٌ ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ إبرامُ الكاتبِ والشهيدِ والإِلحاحُ عليهما فسقاً . ونُقل في التفسير عن ابن عباس ومجاهد وطاووس هذا المعنى . ونَقَل الداني عن عمر وابن عباس ومجاهد وابن أبي إسحاق أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالكسرِ حين فَكُّوا .
ويُحْتمل أن يكونَ الفعلُ فيها مبنياً للمفعول ، والمعنى : أَنَّ أحداً لا يُضارِرُ الكاتبَ ولا الشاهدِ ، ورُجِّح هذا بأنه لو كان النهيُّ متوجِّهاً نحو الكاتبِ والشهيدِ لقال : وإنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما ، ولأنَّ السياقَ من أولِ الآيات إنما هو للمكتوبِ له والمشهودِ له . ونُقِل في التفسير هذا المعنى عن ابن عباس ومَنْ ذُكِر معه . وذكر الداني أيضاً عنهم أنهم قرؤوا الراءَ الأولى بالفتح . قلت : ولا غَرْوَ في هذا إذ الآيةُ عندهم مُحْتَمِلةٌ للوجهين فَسَّروا وقرؤوا بهذا المعنى تارةً وبالآخرِ أخرى .
وقرأ أبو جعفر وعمرو بن عبيد : " ولا يُضارّ " بتشديد الراءِ ساكنةً وَصْلاً ، وفيها ضعفٌ من حيث الجمعُ بين ثلاثِ سواكن ، لكنه لمَّا كانت الألفُ حرفَ مدٍّ قام مَدُّها مقامَ حركةٍ ، والتقاءُ الساكنين مغتفرٌ في الوقف ، ثم أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف في ذلك .
وقرأ عكرمة/ : " ولا يُضارِرْ كاتباً ولا شهيداً " بالفكِّ وكسرِ الراءِ الأولى ، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق ، ونَصْبِ " كاتباً " و " شهيداً " على المفعولِ به أي : لا يضارِرْ صاحبُ حقٍ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجْبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكتابة والشهادةِ ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز .
وقرأ ابن محيصن : " ولا يُضارُّ " برفع الراء ، وهو نفيٌ فيكونُ الخبر بمعنى النهي كقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقْ } [ البقرة : 197 ] وقرأ عكرمة في رواية مُقْسِم : " ولا يُضارِّ " بكسر الراءِ مشددةً على أصلِِ التقاءِ الساكنين . وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذه الأشياءِ عند قولِه { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة : 233 ] .
قوله : { وَإِن تَفْعَلُواْ } أي : تفعلوا شيئاً مِمَّا نَهَى اللهُ عنه ، فَحُذِف المفعولُ به للعلمِ به . والضميرُ في " فإنه " يعودُ على الامتناع أو الإِضرار . و " بكم " متعلقٌ بمحذوفٍ ، فقدَّرَه أبو البقاء : " لاحِقٌ بكم " وينبغي أن يُقَدَّر كوناً مطلقاً ، لأنه صفةٌ ل " فسوق " أي : فسوقٌ مستقرٌّ بكم ، أي : ملتبسٌ بكم ولاصقٌ بكم .
قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } يجوزُ في هذهِ الجملةِ الاستئنافُ - وهو الظاهرُ - ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الفاعلِ في " اتَّقوا " قال أبو البقاء : " تقديره : واتقوا اللهَ مضموناً لكم التعليمُ أَو الهدايةُ ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مقدَّرَة " . قلت : وفي هذينِ الوجهينِ نظرٌ لأنَّ المضارعَ المثبتَ لا تباشِرُه واوُ الحال ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذَلك يُؤَوَّلُ ، لكنْ لا ضرورةَ تَدْعو إليه ههنا .