الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

قوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } : في " كان " هذه وجهان ، أحدُهما : - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حَدَثَ ووُجِدَ أي : وإن حَدَثَ ذو عسرةٍ فتكتفي بفاعلِها كسائرِ الأفعال ، قيل : وأكثرُ ما تكونُ كذلك إذا كانَ مرفوعُها نكرةً نحو : " قد كان مِنْ مَطَرٍ " . والثاني : أنها الناقصةُ والخبرُ محذوفٌ . قال أبو البقاء : " تقديره : وإنْ كان ذو عسرة لكم عليه حَقٌّ أو نحوُ ذلك " وهذا مذهبُ بعضِ الكوفيين في الآية ، وقَدَّر الخبر : وإنْ كان من غُرمائِكُمْ ذو عُسْرَةٍ . وقَدَّرَهُ بعضُهم : وإنْ كان ذو عسرةٍ غريماً .

قال الشيخ : " وَحَذْفُ خبرٍ كان " لا يُجيزه أصحابُنا لا اختصاراً ولا اقتصاراً ، لعلةٍ ذكروها في النحو . فإنْ قيل : أليسَ أن البصريين لَمَّا استدَلَّ عليهم الكوفيون في أَنْ " ليس " تكونُ عاطفةً بقولِهِ :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إنما يَجْزِي الفتى ليسَ الجَمَلْ

تأوَّلوها على حَذْفِ الخبر . وأنشدوا شاهداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . يبغى جِوارَك حين ليسَ مُجِيرُ

وإذا ثبَتَ هذا ثَبَتَ في سائِرِ البابِ . فالجوابُ أن هذا مختصٌّ بليس ، لأنها تُشْبِهُ لا النافيةَ ، و " لا " يجوز حذفُ خبرها فكذا ما أَشْبهها ، والعلةُ التي أشار إليها الشيخُ هي أنَّ الخبرَ تأَكَّد طلبُهُ من وجهين : أحدُهما : كونُ خبراً عن مُخْبَرٍ عنه ، والثاني : كونُه معمولاً للفعلِ قبله ، فلمَّا تَأَكَّدَتْ مطلوبيتُهُ امتنَعَ حَذْفُهُ .

وتَقَوَّى الكفيون بقراءةِ عبدِ الله وأُبَيّ وعثمان : " وإن كان ذا عُسْرةٍ " أي : وإنْ كان الغريمُ ذا عسرةٍ . قال أبو عليّ : " في " كان " اسمُها ضميراً تقديرُه : هو ، أي الغريمُ ، يَدُلُّ على إضمارِهِ ما تقدَّم من الكلامِ ، لأنَّ المُرابي لا بُدَّ له مِمَّنْ يُرابيه " .

وقرأ الأعمشُ : " وإنْ كان مُعْسِراً " قال الداني عن أحمد بن موسى : " إنها في مصحف عبد الله كذلك .

ولكنَّ الجمهورَ على ترجيحِ قراءةِ العامةِ وتخريجِهم القراءةَ المشهورة . قال مكي : " وإنْ وقع ذو عسرةٍ ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس ، ولو نَصَبْتَ " ذا " على خبرِ " كان " لصار مخصوصاً في ناسٍ بأعيانِهم ، فلهذه العلةِ أَجْمَعَ القُرَّاءُ المشهورون على رفع " ذو " . وقد أَوْضَحَ الواحدي هذا فقال : " أي : وإن وقع ذو عسرةٍ ، والمعنى على هذا يَصِحُّ ، وذلك أنه لو نُصِبَ فقيل : وإنْ كان ذا عسرةٍ لكان المعنى : وإنْ كان المشتري ذا عسرةٍ فنظرةٌ ، فتكون النظرة مقصورةً عليه ، وليس الأمرُ كذلك ، لأن المشتريَ وغيرَه إذا كان ذا عسرةٍ فله النظرةُ إلى الميسرةِ " . وقال الشيخ : " مَنْ نصب " ذا عسرة " أو قرأ " مُعْسِراً " فقيل " : يختصُّ بأهلِ الربا ، ومَنْ رفع فهو عامٌّ في جميعِ مَنْ عليه دَيْنٌ ، قال : " وليس بلازمٍ ، لأنَّ الآية إنما سيقت في أهلِ الربا وفيهم نَزَلَتْ " قلت : وهذا الجوابُ لا يُجْدِي ، لأنه وإن كان السياقُ كذا فالحكمُ ليس خاصاً بهم .

والعُسْرَةُ بمعنى العُسْر .

قوله : { فَنَظِرَةٌ } الفاءُ جوابُ الشرط و " نَظِرةٌ " خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي : فالأمرُ أو فالواجِبُ ، أو مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ ، أي : فعليكم نظرةٌ ، أو فاعلٌ بفعلٍ مضمرٍ ، أي : فتجِبُ نظرةٌ .

وقرأ العامة : " نَظِرة " بزنة " نَبِقَة " . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء : " فَنَظْرة " بتسكين العين ، وهي لغةٌ تميمية يقولون : " كَبْد " في " كَبِد " و " كَتْف " في " كَتِف " . وقرأ عطاء " فناظِرَة " على فاعِلَة ، وقد خَرَّجَهَا أبو إسحاق على أنها مصدرٌ نحو :

{ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةً } [ الواقعة : 2 ] { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ }

[ غافر : 19 ] { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] . وقال الزمخشري " فناظِرُهُ أي فصاحبُ الحقِ ناظرُه أي : منتظره ، أو صاحبُ نظرته على طريقةِ النسب ، كقولِهِم : " مكان عاشِب وباقل " بمعنى ذو عشبٍ وذو بَقْلٍ ، وعنه : " فناظِرْهُ " على الأمرِ بمعنى : فسامِحْهُ بالنظرةِ وباشِره بها " فنقلُه عنه القراءةَ الأولى يقتضي أن تكونَ قراءتُهُ " ناظِر " اسمَ فاعل مضافاً لضميرِ ذي العُسْرَةِ بخلافِ القراءةِ التي قَدَّمْتُها عن عطاء ، فإنها " ناظرةٌ " بتاء التأنيث ، ولذلك خَرَّجها الزجاج على المصدرِ . وقرأ عبد الله ، " فناظِرُوه " أمراً للجماعةِ بالنظرةِ ، فهذه ستُ قراءاتٍ مشهورُها واحدٌ .

وهذه الجملةُ لفظُها خبرٌ ومعناها الأمرُ ، كقولِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ }

[ البقرة : 233 ] وقد تقدَّم . والنظرةُ من الانتظارِ وهو الصبرُ والإِمهالُ .

قوله : { إِلَى مَيْسَرَةٍ } قرأ نافع وحده : " مَيْسُرَة " بضم السين ، والباقون بفتحِها . والفتحُ هو المشهورُ إذ مَفْعَل ومَفْعَلَه بالفتحِ كثيرٌ ، ومَفْعُلٌ بالضم معدومٌ إلا عند الكسائي ، وسأُورد منه ألفاظاً ، وأَما مَفْعُلة فقالوا : قليلٌ جداً وهي لغةُ الحجاز ، وقد جاءَتْ منها ألفاظٌ نحو : المَسْرُقَة والمَقْبُرَةِ والمَشْرُبة ، والمَسْرُبة والمَقْدُرَة والمَأْدُبَة والمَفْخُرَة والمَزْرُعة ومَعْوُلَة ومَكْرُمَة ومَأْلُكة .

وقد رَدَّ النحاسُّ الضمَّ تجرُّؤاً منه ، وقال : " لم تَأْتِ مَفْعُلة إلا في حروفٍ معدودةٍ ليس هذه منها ، وأيضاً فإنَّ الهاءَ زائدةٌ ولم يأتِ في كلامِهِ مَفْعُل البتةَ " انتهى . وقال سيبويه : " ليس في الكلامِ مَفْعُل " قال أَبو علي : " يعني في الآحادِ " . وقد حَكَى عن سيبويه " مَهْلَك " مثلثَ اللام . وقال الكسائي : " مَفْعُل " في الآحادِ ، وأوردَ منه : مَكْرُماً في قولِ الشاعر :

ليومِ رَوْعٍ أو فَعالِ مَكْرُمِ *** . . . . . . . . . . . . . . . .

ومَعْوُن في قولِ الآخر - وهو جميل - :

بُثَيْنُ الزمي " لا " إنَّ لا إنْ لَزِمْتِهِ *** على كثرةِ الواشين أيُّ مَعْونِ

ومَأْلُكاً في قول عديّ :

أَبْلِغِ النعمانَ عني مَأْلُكاً *** أنه قد طالَ حَبْسي وانتظاري

وهذا لا يَرِدُ على سيبويهِ لوجهين ، أحدُهما : أنَّ هذا جمعٌ لمَكْرُمَة ومَعُونَةَ وَمَأْلُكَة ، وإليه ذهب البصريون والكوفيون خلا الكسائي ، ونُقِلَ عن الفراء أيضاً . والثاني : أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل فيقول : " لم يَرِدْ كذا " وإن كان قد ورَدَ منه الحرفُ والحرفان ، لعدمِ اعتدادِهِ بالنادر القليلِ .

وإذا تقرَّر هذا فقد خَطَّأ النحويون مجاهداً وعطاءً في قراءتهما : " إلى مَيْسُرِهِ " بإضافة " مَيْسُر " مضمومَ السينِ إلى ضميرِ الغريم ، لأنهم بَنَوْهُ على أنه ليسَ في الآحادَ مَفْعُل ، ولا ينبغي أن يكونَ هذا خطأ ، لأنه على تقديرِ تسليمِ أنَّ مَفْعُلاً ليس في الآحادِ ، فَمَيْسُر هنا ليس واحداً ، إنما هو جَمْعُ مَيْسُرَة كما قلتم أنتم : إن مَكْرُماً جمع مَكْرُمَة ونحوه ، أو يكونُ قد حَذَفَ تاءَ التأنيثِ للإِضافةِ كقوله :

إنَّ الخليطَ أَجَدُّوا البَّيْنَ فانجردوا *** وأَخْلَفوك عِدَ الأمرِ الذي وَعَدوا

أي : عِدة الأمر ، ويَدُلُّ على ذلك أنهم نَقَلوا عنهما أنهما قرآ أيضاً : " إلى مَيْسَرِهِ " بفتح السينِ مضافاً لضميرِ الغريمِ ، وهذه القراءةُ نَصٌّ فيما ذكرْتُهُ لك من حذفِ تاءِ التأنيثِ للإِضافةِ لتوافق قراءةَ العامةِ : " إلى مَيْسَرَة " بتاءِ التأنيث .

وقد خَرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخرَ ، وهو أَنْ يكونَ الأصلُ : " ميسورِه " فَخُفِّفَ بحذفِ الواوِ اكتفاءً بدلالةِ الضمةِ عليها ، وقد يتأيَّدُ ما ذَكَرَهُ على ضَعْفَهِ بقراءةِ عبد الله ، فإنه قرأ : إلى مَيْسُوره " بإضافةِ " ميْسور " للضمير ، وهو مصدرٌ على مفَعْول كالمَجْلود والمَعْقُول ، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش ، إذ أَثْبَتَ من المصادرِ زنة مَفْعُول ، ولم يُثْبِتْه سيبويه .

قوله : { وَأَن تَصَدَّقُواْ } قرأ عاصم بتخفيفِ الصاد ، والباقون بتثقيلها . وأصلُ القراءتين واحدٌ ، إذ الأصلُ : تَتَصَدَّقُوا ، فَحَذَفَ عاصم إحدى التاءين : إمَّا الأولى وإما الثانيةِ ، وتَقَدَّمَ تحقيقُ الخلافِ فيه ، وغيرُهُ أدغم التاء في الصادِ ، وبهذا الأصلِ قرأ عبد الله : " تَتَصَدَّقوا " . وحُذِفَ مفعولُ التصدُّقِ للعلمِ به ، أي : بالإِنظار . وقيل : برأس المال على الغريم . و { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابُهُ محذوفٌ . و " أَنْ تَصَدَّقُوا " بتأويل مصدرٍ مبتدأٌ ، و " خيرٌ لكم " خبرُهُ .