الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا فَيُسۡحِتَكُم بِعَذَابٖۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ} (61)

قوله : { فَيُسْحِتَكُم } : قرأ الأخَوان وحفص عن عصام " فيُسْحِتَكم " بضم الياء وكسر الحاء . والباقون بفتحهما . فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم . قال الفرزدق التميمي :

وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ *** من المالِ إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ

وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز . وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الاستقصاءِ والنَّفاد . ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي : استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً ، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب . ونصبُه بإضمار " أَنْ " في جواب النهي . ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق " إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ " قال بعد ذلك : " في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه " .

قلت : يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات ، وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ : رُوي هذا البيتُ بثلاثِ روايات ، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ : الأُولى " لم يَدَعْ " بفتح الياءِ والدال ونصب " مُسْحَت " . وفي هذه خمسةُ أوجه :

الأول : أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً : لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه : " أو مُجَلَّفُ " بالرفع . وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش " فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ " برفع " قليل " وقد تقدَّم ذلك . الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ ، والتقدير : أو بقي مُجَلَّفٌ . الثالث : " أن " مُجَلَّفُ " مبتدأ ، وخبرُه مضمرٌ تقديره : أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء . الرابع : أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في " مُسْحتاً " ، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما . إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ . وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل . الخامس : أن يكونَ " مُجَلَّف " مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالى : { كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : تَجْليف وتمزيق ، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت " عَضُّ زمانٍ " إذ التقدير : رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف ، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل ، وهو قولُ الفارسيِّ . وهو عندي أحسنُها .

الروايةُ الثانية : فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت . وتخريجُها واضحٌ : وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته يَدِع فهو وادع ، بمعنى : بقي يبقى فهو باقٍ ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية ، ويُرْفَعُ " مُجَلَّفُ " بالعطفِ عليه . ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه : مِنْ أجله أو بسببه . . . . الكلام .

الرواية الثالثة : " يُدَعْ " بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و " مُسْحَت " بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ ، و " مُجَلَّف " عطفٌ عليه . وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف ، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة ، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل . وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه اختصاراً وهذا لُبُّه . وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته ، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه .