اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا فَيُسۡحِتَكُم بِعَذَابٖۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ} (61)

ثم ضربت{[25129]} لفرعون قبة فجلس فيها ينظر إليها ، وكان طول القبة{[25130]} سبعون ذراعاً . فقال لهم موسى عند ذلك يعني للسحرة{[25131]} الذين{[25132]} جمعهم فرعون { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي : لا تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق ، وأنه سحر ، وأنكم متمكنون من معارضتي ، فَيُسْحِتَكم الله بعذاب أي : فيهلككم ، قاله مقاتل والكلبي{[25133]} .

وقال قتادة : فيستأصلكم{[25134]} { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى } .

الخيبة : الحرمان والخسران{[25135]} {[25136]} .

قوله : { وَيْلَكُمْ } قال الزجاج : يجوز في انتصاب " وَيْلَكُمْ " أن يكون المعنى ألزمهم الله وَيْلاً إن افتروا على الله ، ويجوز على{[25129]} النداء كقوله : { يا ويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ }{[25130]} { قَالُواْ يا ويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا }{[25139]} {[25140]} .

قوله : { فَيُسْحِتَكُمْ } قرأ الأخوان{[25141]} وحفص عن ( عاصم " فَيُسْحِتَكُم " بضم الياء وكسر الحاء . والباقون بفتحهما{[25142]} .

فقراءة الأخوين من أسْحَتَ رباعياً وهي لغة نجد وتميم{[25143]} .

قال ){[25144]} الفرزدق التميمي{[25145]} :

وعَضَّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ *** مَنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلِّفُ{[25146]}

وقراءة الباقين من سحته ثلاثياً وهي لغة الحجاز{[25147]} ، وأصل هذه المادة لدلالة على الاستقصاء والنفاد ، ومنه سحت الحالق الشعر الذي استقصاه ، فلم يترك منه شيئاً ، ويستعمل في الإهلاك والإذهاب ، ونصبه بإضمار أن في جواب النهي{[25148]} .

ولمَّا أنشد الزمخخشري قول الفرزدق :

. . . *** . . . ( إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ ){[25149]}

قال بعد ذلك{[25150]} : في بيت لم تزل الرُّكَبُ تصطك{[25151]} في تسوية إعرابه{[25152]} .

قال شهاب الدين : يعني{[25153]} : أن هذا البيتَ صعبُ الإعراب ، وإذ{[25154]} قد ذكر ذلك فلنذكر ما ورد في هذا البيت من الروايات ، وما قاله{[25155]} الناس في ذلك على حسب ما يليق بهذا الموضوع{[25156]} ، فأقول وبالله الحول{[25157]} : روي هذا البيت بثلاث روايات كل واحدة لا تخلو{[25158]} من ضرورة . الأولى : ( لَمْ يَدَع ){[25159]} بفتح الياء والدال ، ونصب مُسْحَت وفي هذه خمسة أوجه :

الأول{[25160]} : أن معنى ( لَمْ يَدْعُ مِنَ المَالِ مُسْحَتاً ) لم يبق إلا مُسْحَتٌ ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عطف عليه قوله : ( أو مُجَلَّفُ ){[25161]} ( بالرفع{[25162]} ){[25163]} ، وبهذا البيت استشهد الزمخشري على قراءة أبَيّ والأعمش { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ }{[25164]} ( برفع قليل{[25165]} ){[25166]} وقد تقدم .

الثاني : أنه مرفوع بفعل مقدر دل عليه ( لَمْ يَدَع ) والتقدير : أو بقي مُجَلَّف{[25167]} .

الثالث : أن ( مُجَلَّف ){[25168]} مبتدأ وخبره مضمر ، تقديره : أو مُجَلَّفٌ كذلك وهو تخريج الفراء .

الرابع : أنه معطوف على الضمير المستتر في " مُسْحَتاً " وكان من حق هذا أن يفصل بينهما بتأكيد ما إلا أنَّ القائل{[25169]} بذلك وهو الكسائي لا يشترط{[25170]} ، وأيضاً " فهو جائز ( في الضرورة ){[25171]} عند الكل{[25172]} .

الخامس : أن يكون ( مُجَلَّفُ ){[25173]} مصدراً بزنة اسم المفعول ، كقوله تعالى : { كُلَّ مُمَزَّقٍ }{[25174]} أي تجليف وتمزيق ، وعلى هذا فهو نسق على{[25175]}

( عَضُّ زَمَانٍ ) إذ التقدير : رَمَتْ بِنَا هُمُومُ المُنَى{[25176]} وعَضَّ زَمَانٍ أو تجليفٍ فهو فاعل لعطفه على الفاعل ، وهو قول الفارسي ، وهو أحسنها{[25177]} .

الرواية الثانية : فتح الياء وكسر الدال ورفع مُسْحَت ، وتخريجها واضح ، وهو أن يكون من ودع في بيته يدع فهو وادع بمعنى بقي يبقى فهو باق ، فيرتفع " مُسْحَت " بالفاعلية ، ويرفع ( مُجَلَّفٌ ) بالعطف عليه{[25178]} ولا بد حينئذ من ضمير محذوف{[25179]} تقديره : من أجله أو بسببه ليرتبط الكلام .

الرواية الثالثة : ( يُدَع ) بضم الياء وفتح الدال{[25180]} على ما يسمَّ فاعله و ( مُسْحتٌ ) بالرفع لقيامه مقام الفاعل و ( مُجَلَّف ){[25181]} عطف عليه ، وكان من حق الواو أن لا تحذف بل تثبت ، لأنها لم تقع بين ياء وكسرة ، وإنما حذفت حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل .

وفي البيت كلام أطول من هذا تركته اختصاراً ، وهذا لبُّه ، وقد ذكرته في البقرة ، وفسرت معناه ولغته ، وصلته{[25182]} بما قبله فعليك بالالتفات إليه{[25183]} .


[25129]:على : سقط من ب.
[25130]:[هود: 72].
[25131]:في ب: السحرة. وهو تحريف.
[25132]:في ب: التي. وهو تحريف.
[25133]:انظر البغوي 5/439.
[25134]:نظر البغوي 5/439.
[25135]:ي ب: الخسران والحرمان.
[25136]:خر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/73.
[25139]:[يس: 52].
[25140]:معاني القرآن وإعرابه 3/360.
[25141]:حمزة والكسائي.
[25142]:السبعة (419) الحجة لابن خالويه (242) ، الكشف 2/98، النشر 2/320 الاتحاف (304).
[25143]:انظر الكشاف 2/438، القرطبي 11/215. البحر المحيط 6/244.
[25144]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25145]:تقدم.
[25146]:البيت من الطويل قاله الفرزدق، اللسان (جلف، سحت).
[25147]:انظر الكشاف 2/438، القرطبي 11/215. والبحر المحيط 6/244.
[25148]:وذلك أن الفعل المضارع ينصب بـ (أن) مضمرة وجوبا بعد فاء نفي جواب أو جواب طلب، وهو إما أمر أو نهي أو دعاء أو استفهام، أو عرض أو تحضيض، أو تمن، وفي ذلك يقول ابن مالك: وبعدها جواب نفي أو طلب *** محضين أن وسترها حتم نصب انظر شرح الأشموني 3/301 – 302.
[25149]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25150]:في ب: قال بعده.
[25151]:في ب: لم نزل العرب تصطك في الركب.
[25152]:انظر الكشاف 2/438.
[25153]:يعني: سقط من ب.
[25154]:في ب: وإن.
[25155]:في ب: وما قال.
[25156]:في ب: الموضع.
[25157]:في ب: الحول والقوة.
[25158]:ي ب: لا تخلوا.
[25159]:في ب: الأول: يدع. وهو تحريف.
[25160]:ي ب: الأولى. وهو تحريف.
[25161]:ي ب: أو مختلف. وهو تحريف.
[25162]:هذا الوجه ذكره أبو علي في (إيضاح الشعر) قال: (فمن نصبه كان (يدع) من التّرك. و (مسحت) مفعول ، وحمل (مجلّف) بعده على المعنى، لأن معنى (لم يدع من المال إلا مسحتا) تقديره: لم يبق من المال إلا مسحت، فحمل (مجلف) على ذلك) إيضاح الشعر (577) ونسبه إلى الخليل حيث قال بعد ذلك: (فكذلك قوله: (لم يدع من المال إلا مسحتا) معناه بقي مسحت، قال أبو عمر: وهذا قول الخليل) إيضاح الشعر (578 – 579).
[25163]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25164]:البقرة: 249].
[25165]:قال الزمخشري: (وقرأ أبيّ والأعمش "إلا قليل" بالرفع، وهذا من ميلهم من المعنى وإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية فلما كان معنى "فشربوا منه" في معنى فلم يطيعوه حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم، ونحوه قول الفرزدق: ... لم يدع *** من المال إلا مسحت أو مجلف. كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مجلف) الكشاف 1/150. انظر اللباب 2/84- 85.
[25166]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25167]:وإليه ذهب ابن جني في المحتسب في سورة والضحى 2/365. وقد ذكر ابن عصفور في شرح جمل الزجاجي هذا الوجه، والوجه الذي بعده، ثم قال بعدهما: (وكلاهما حسن) 2/184.
[25168]:ي ب: مخلف. وهو تصحيف.
[25169]:ي ب: أن يفصل بينهما تأكيدا أو فاصلا إما لأن القائل.
[25170]:وذلك لأن الكوفيين يجيزون العطف على الضمير المرفوع المتصل بدون فاصل، حكي: مررت برجل سواء والعدم برفع العدم عطفا على الضمير المستتر في سواء، لأنه مؤول بمشتق أي مستو هو والعدم، وليس بينهما فاصل، انظر الهمع 2/138، وشرح الأشموني وحاشية الصبان 3/114.
[25171]:ما بين القوسين سقط من ب.
[25172]:وذلك أن العطف على الضمير المرفوع المتصل بلا فصل كثير في الشعر عند البصريين والكوفيين من ذلك قول جرير: ورجا الأخيطل من سفاهة رأيه *** ما لم يكن وأب له لينالا وقول الآخر: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى *** كنعاج الفلا تعسفن رملا وفي ذلك يقول ابن مالك: وبلا فـــصل يرد *** في النظم فاشيا وضعفه اعتقد انظر شرح التصريح 2/151، وشرح الأشموني 3/114.
[25173]:في ب: مختلفا. وهو تحريف.
[25174]:من قوله: {وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد} [سبأ: 7].
[25175]:في ب: كل.
[25176]:في البيت الذي قبله: إليك أمير المؤمنين رمت بنا *** هموم المنى والهوجل المتعسف الخزانة 5/152.
[25177]:نظر الخزانة 5/147.
[25178]:في ب: بالفتح والعطف عليه. وهو تحريف.
[25179]:في ب: من ضمير مرفوع محذوف. وهو تحريف.
[25180]:في ب: الراوية الثالثة فتح الياء وكسر الدال. وهو تحريف.
[25181]:في ب: مختلف وهو تحريف.
[25182]:في ب: ووصلته ولغته.
[25183]:الدر المصون : 5/30.