قوله تعالى : { وَرَسُولاً } : في " رسول " وجهان :
أحدُهما : أنه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبور والشكور .
والثاني : أنه في الأصلِ مصدرٌ ، ومن مجيءِ " رسول " مصدراً قولُه :
لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم *** بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
أُبَلِّغْ أبا سلمى رسولاً تَرُوعه *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : أُبَلِّغُه رسالةً ، ومنه قولُه تعالى : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] على أحدِ التأولين ، أي : إنَّا ذوا رسالةِ رب العالمين ، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب " رسول " :
فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ :
أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على " يُعَلِّمه " إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وجيهاً " إذ التقديرُ : وجيها ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً ، قاله الزمخشري وابن عطية . قال الشيخ : " وهو مَبْنِيٌّ على إعراب " ويُعَلِّمه " ، وقد بَيَّنَّا ضعفَ إعرابِ مَنْ يقولُ إنَّ " ويُعَلِّمه " معطوفٌ على " وجيهاً " للفصلِ المُفْرِطِ بين المتعاطِفَيْن " .
الثاني : أن يكونَ نسقاً على " كَهْلاً " الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في " ويُكَلِّم " أي : يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل ، جَوَّز ذلك ابنُ عطية . واستبعده الشيخُ لطولِ الفصلِ بين المعطوف والمعطوف عليه . قلت : ويظهرُ أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى ، إذ يصيرُ التقديرُ : يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم ، وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ ، فإن قيل : هي حالٌ مقدَّرة كقولهم : " مررت برجل معه صقرٌ صائداً به غداً " وقوله : { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ }[ الزمر : 73 ] ، قيل : الأصلُ في الحالِ أن تكونَ مقارنةً ، ولا تكونُ مقدرةً إلا حيث لا لَبْسَ .
الثالث : أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديرُه : ونجعلُه رسولاً ، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى :
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ }[ الحشر : 9 ] وقوله :
يا ليتَ زوجَك قد غدا *** متقلِّداً سيفاً ورمحا
عَلَفْتُها تِبْناً وماءً باردا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1295 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
أي : واعتقدوا الإِيمانَ ، ومعتقلاً رمحاً ، وسَقَيْتُها ماءً بارداً ، وكَحَّلْنَ العيونَ ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ .
الرابع : أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ " رسول " ، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى .
الخامس : أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم . ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري ، قاله رحمه الله :
" فإن قلت : علامَ تَحْمِلُ " ورسولاً ومصدقاً " من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و { لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } يأبى حَمْلَه عليها ؟ قلت : هو من المُضايِق ، وفيه وجهان ، أحدهما : أن تُضْمِرَ له " وأُرْسِلْتُ " على إرادة القول ، تقديرُه : ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول : أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ .
والثاني : أن الرسول والمُصَدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ومصدقاً لما بين يديّ " انتهى . إنما احتاج إلى إضمار ذلك كلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أنَّ ما قبله من المنصوبات لا يَصِحُّ عطفُه عليه في الظاهر ؛ لأنَّ الضمائر المتقدمة غيبٌ ، والضميران المصاحبان لهذين المنصوبين للمتكلم ، فاحتاج إلى ذلك التقدير لتتناسَبَ الضمائرُ . قال الشيخ : " وهذا الوجهُ ضعيفٌ ؛ إذ فيه إضمارُ شيئين : القولِ ومعمولهِ الذي هو " أُرْسِلْتُ " ، والاستغناءُ عنهما باسم منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذ يُفْهَمُ من قوله " وأُرْسِلْتُ " أنه رسولٌ فهي حال مؤكِّدة " . واختار الشيخُ الوجَه الثالث قال : " إذ ليس فيه إلا إضمارُ فعلٍ يَدُلُّ عليه المعنى ، ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً لرسول أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة ِ الجمهور .
السادس : أن يكونَ حالاً من مفعولِ " ويُعَلِّمه " وذلك على زيادة الواو ، كأنه قيل : ويُعَلِّمه الكتابَ حالَ كونِه رسولاً ، قاله الأخفش ، وهذا على أصلِ مذهبهِ من تجويزِه زيادةَ الواوِ ، وهو مذهبُ مرجوحٌ .
وعلى الثاني في نصبِه وجهان ، أنه مفعولٌ به عطفاً على المفعولِ الثاني ليُعَلِّمه أي : ويُعَلِّمه الكتابَ ورسالةً أي : يعلمه الرسالة أيضاً ، والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، وفيه التأويلاتُ المشهورةُ في : رجلٌ عَدْلٌ .
وقرأ اليزيدي : " ورسولٍ " بالجر ، وخَرَّجها الزمخشري على أنها منسوقةٌ على قوله : " بكلمة " أي : نبشِّرك بكلمة وبرسولٍ . وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفصلِ بين المتعاطِفَيْنِ ، ولكن لا يَظْهَر لهذه القراءةِ الشاذة غيرُ هذا التخريجِ .
وقوله : { إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يتعلَّقَ بنفس " رسولاً " إذ فعلُه يتعدَّى بإلى ، والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لرسولاً ، فيكونَ منصوبَ المحلِّ في قراءةِ الجمهور ، مجروره في قراءة اليزيدي .
قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } قرأ العامة : " أني " بفتح الهمزة وفيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُهما : أنَّ موضعَها جر بعد إسقاطِ الخافض ، إذ الأصل : بأني ، ف " بأني " متعلِّقٌ برسولاً ، وهذا مذهبُ الشيخين : الخليلِ والكسائي .
والثاني : أن موضعَها نصبٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
الأول : أنه نصبٌ بعد إسقاط الخافض ، وهو الباء ، وهذا مذهب التلميذين : سيبويه والفراء .
الثاني : أنه منصوبٌ بفعل مقدر أي : يذكر أني ، فيذكرُ صفةٌ لرسولا ، حُذِفَتِ الصفةُ وبقي معمولُها .
الثالث : أنه منصوب على البدل من " رسولاً " أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به ، تقديرُه : ويُعَلِّمه الكتابَ ويعلِّمه أني قد جئتكم ، جَوَّزه أبو البقاء وهو بعيد في المعنى .
الثالث : من الأوجِهِ الأُوَلِ : أنَّ موضعَه رفعٌ على خبرِ متبدأٍ محذوفٍ أي : هو أني قد جِئْتُكم .
وقرأ بعضُ القرَّاء بكسر هذه الهمزة وفيها تأويلان ، أحدهما : أنها على إضمارِ القول أي : قائِلاً إني قد جئتكم ، فَحَذَفَ القولَ الذي هو حالٌ في المعنى وأَبْقَى معمولَه .
والثاني : أن " رسولاً " بمعنى ناطِق ، فهو مُضَمَّنٌ معنى القول ، وما كان مُضَمَّناً معنى [ القول ] أُعْطِي حكمَ القولِ ، وهذا مذهبُ الكوفيين .
وقوله : { بِآيَةٍ } يُحتمل أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حالٌ من فاعل " جئتكم " أي : جِئْتُكم ملتبساً بآية . والثاني : أنها متعلقةُ بنفسِ المجيءِ ِأي : إجاءَتَكم الآية . وقوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفةٌ لآية فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أي : بآيةٍ من عند ربكم ، ف " مِنْ " للابتداءِ مجازاً ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ " من ربكم " بنفسِ المجيء أيضاً . وقَدَّر أبو البقاء الحال في قولِه { بِآيَةٍ } بقوله : محتجَّاً بآية ، إنْ عَنَى من جهةِ المعنى صَحَّ ، وإن عَنَى من جهة الصناعةِ لم يَصِحَّ ، إذ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكنِ إلا الأكوان المطلقةُ .
وقرأ الجمهور : " بآيةٍ " بالإِفرادِ في الموضِعَيْن ، وابن مسعود : " بآياتٍ " جمعاً في الموضعين .
قوله : { أَنِي أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها . فالكسرُ من ثلاثة أوجه :
الأول : على إضمارِ القولِ أي : فقلت : إني أخلق .
الثالث : على التفسير ، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه : " بآية " كأنَّ قائِلاً قال : وما الآيةُ ؟ فقال هذا الكلامَ ، ونظيرُه ما سيأتي : " إنَّ مثل عيسى عند اللهِ كمثلِ آدمَ " ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] فخلقه مفسرةٌ للمثل ، ونظيرُه أيضاً قولُه تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ثم فَسَّر الوعدَ بقولِه : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } [ المائدة : 9 ] ، وهذا الوجهُ هو الوجه الصائرُ إلى الاستئنافِ ، فإنَّ المستأنَفَ يُؤْتى به تفسيراً لما قبله ، إلا أنَّ الفرقَ بينه وبين ما قبله أنّ الوجهَ الذي قبلَه لا تَجْعَلُ له تعلُّقاً بما تقدَّم البتةَ ، بل جيء به لمجردِ الإِخبارِ بما تضمَّنه ، والوجه الثالث تقول : إنه متعلِّقٌ بما تقدَّمه ، مُفَسِّر له .
وأمَّا قراءةُ الجماعةِ ففيها أربعةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنها بدلٌ من " أني قد جئتكم " فيجيءُ فيها ما تقدَّم في تلك لأنَّ حكمَها حكمُها .
الثاني : أنها بدلٌ من " آية " فتكونُ محلَّها ، أي : وجئتكم بأني أخلقُ لكم ، وهذا نفسُه آيةٌ من الآيات ، وهذا البدلُ يَحْتمل أن يكونَ كلاً مِنْ كل إنْ أُريد بالآية شيءٌ خاص ، وأَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ من كل إنْ أُريد بالآيةِ الجنس .
الثالث : أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمرٍ تقديرُه : هي أني أخلق أي : الآيةُ التي جئت بها أني أخلُقُ ، وهذه الجملةُ في الحقيقةِ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر كأن قائلاً قال : وما الآيةُ ؟ فقال : ذلك .
الرابعُ : أن تكونَ منصوبةً بإضمارِ فعلٍ ، وهو أيضاً جوابٌ لذلك السؤالِ كأنه قال : أعني أنِّي أخلق ، وهذان الوجهان يلاقيان في المعنى قراءةَ نافع على بعضِ الوجوهِ فإنهما استئناف .
و " لكم " متعلِّقٌ بأخلُقُ ، واللامُ للعلة ، أي : لأجلكم بمعنى : لتحصيل إيمانِكم ودَفْعِ تكذيبِكم إياي ، وإلاَّ فالذواتُ لا تكونُ عِلَلاً بل أحداثُها .
و " من الطين " متعلقٌ به أيضاً ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، وقولُ مَنْ قال : إنها للبيان " تساهلٌ ، إذ لم يَسْبِقْ منهم تبيُّنه .
قوله : { كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } في موضع هذه الكافِ ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أنها نعتٌ لمفعول محذوف تقديره : أني أخلُق لكم هيئةً مثلَ هيئةِ الطير ، والهيئةُ : إمَّا مصدرٌ في الأصل ، ثم أُطْلِقَتْ على المفعولِ أي المُهَيّأ كالخَلْق بمعنى المخلوق ، وإمَّا اسمٌ لحال الشيء ، وليست مصدراً ، والمصدرُ : التهَيُّؤُ والتَّهْيِيءُ والتَّهْيِئَةُ ، ويُقال : [ هاءَ الشيءُ يَهِيْءُ هَيْئَاً وهَيْئَِةً إذا تَرَتَّب واستقرّ على حالة مخصوصة ] ، ويتعدَّى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] . والطينُ : معروف ، طانَه الله على كذا وطامه بإبدال النون ميماً أي : جَبَله عليه ، والنفخُ معروفٌ .
الثاني : أنَّ الكافَ هي المفعولُ به لأنَّها اسمٌ كسائرِ الأسماءِ وهذا رأيُ الأخفشِ ، يجعلُ الكافَ اسماً حيث وَقَعَتْ ، وغيرُه من النحاة لا يقولُ بذلك إلا إذا اضْطُرَّ إليه كوقوعِها مجرورةً بحرفٍ أو بإضافةٍ أو تقع فاعلةً أو مبتدأ ، وقد تقدَّمَ جميعُ أمثلةِ ذلك مسبوقاً فأغنى عن إعادتِه هنا .
والثالث : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، قاله الواحدي نَقْلاً عن أبي علي بعد كلامٍ طويلٍ ، قال " وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المُرَادِ ، تقديرُه : أني أخلُق لكم من الطين خلقاً مثلَ هيئة الطير " . وفيما قالَه نظرٌ من حيث المعنى ؛ لأنَّ التحدِّي إنَما يقعُ في أثرِ الخَلْق ، وهو ما يَنْشأ عنه من المخلوقاتِ لا في نفس الخَلْق ، اللهم إلا أن تقولَ : المرادُ بهذا المصدرِ المفعولُ به فَيَؤُول إلى ما تقدَّم .
وقال الزمخشري : " إني أُقَدِّر لكم شيئاً مثلَ هيئةِ الطير " فهذا تصريحٌ منه بأنها صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ ، وقولُه " أُقَدِّر " تفسيرٌ للخلق ، لأن الخَلْق هنا التقدير ، كقول الشاعر :
وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبعْ *** ضُ القوم يَخْلُق ثم لا يَفْري
إذ ليس المرادُ الاختراعُ فإنه مختص بالباري تعالى . وقرأ الزهري : " كَهَيَةِ " بنقلِ حركة الهمزة إلى الياء وهي فصيحةٌ . وقرأ أبو جعفر : كهيئة الطائرِ .
قوله : { فَأَنفُخُ فِيهِ } في هذا الضميرِ ستةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه عائدٌ على الكافِ ، لأنها اسمٌ عند مَنْ يَرى ذلك أي : أَنفُخ في مثلِ هيئةِ الطيرِ .
الثاني : أنه عائدٌ على " هيئةِ " لأنها في معنى الشيءِ المُهَيَّأ ، فلذلك عادَ الضميرُ عليها مذكَّراً ، وإنْ كانَتْ مؤنثةً ، اعتباراً بمعناها دونَ لفظِها ، ونظيرُه قولُه تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } [ النساء : 8 ] ثم قال : { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } فأعادَ الضمير في : " منه " على القسمةِ لمَّا كانَتْ بمعنى المقسومِ .
الثالث : أنه عائدٌ على ذلك المفعولِ المحذوفِ أي : فَأَنْفُخُ في ذلك الشيءِ المماثلِ لهيئة الطير .
الرابع : أنه عائدٌ على ما وَقَعَتِ الدلالةُ عليه في اللفظ وهو " أني أخلقُ " ويكونُ الخَلْقُ بمنزلةِ المخلوق .
الخامس : أنه عائدٌ على ما دَلَّت عليه الكافُ مِنْ معنى المِثْل ، لأنَّ المعنى : أخلُق من الطين مثلَ هيئةِ الطير ، وتكونُ الكافُ في موضعِ نصبٍ على أنه صفةٌ للمصدرِ المرادِ تقديرُه : أني أخلُق لكم خلقاً مثلَ هيئةِ الطيرِ ، قاله الفارسي وقد تقَدَّم الكلامُ معه في ذلك .
السادس : أنه عائدٌ على الطينِ قاله أبو البقاء . وهذا الوجهُ قد أفسده الواحدي فإنه قال : " ولا يجوزُ أَنْ تعودَ الكناية على الطينِ لأنَّ النفخَ إنما يكونُ في طينٍ مخصوص ، وهو ما كانَ مُهَيَّأً منه ، والطينُ المتقدِّم ذكرُه عام فلا تعودُ إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ جميعَ الطين ، وفي هذا الردِّ نظرٌ ، إذ لقائلٍ أن يقولَ : لا نُسَلِّم عمومَ الطينِ المتقدِّم ، بل المرادُ بعضُه ، ولذلك أدخلَ عليه " مِنْ " التي تقتضي التبعيضَ ، وإذا صارَ المعنى : " أني أخلقُ بعض الطين " عاد الضميرُ عليه من غير إشكال ، ولكن الواحدي جَعَلَ " مِنْ " في " من الطين " لابتداءِ الغاية وهو الظاهرُ . قال الشيخ :
" وقد قرأ بعضُ القراء : " فأنفخُها " أعادَ الضميرَ على الهيئة المحذوفة ، إذ يكونُ التقدير : هيئةً كهيئةِ الطيرِ ، أو على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلةً هيئةَ الطيرِ ، فيكونُ التأنيثُ هنا كما هو في آية المائدة في قوله : { فَتَنفُخُ فِيهَا } فتكونُ هذه القراءةُ قد حُذِفَ حرفُ الجرِّ منها كقولِه :
ما شُقَّ جيبٌ ولا قامَتْكَ نائحةٌ *** ولا بَكَتْكَ جيادٌ عند إسْلابِ
1298 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الفَحْما
يريد : ولا قامَتْ عليك ، وينفخُ في الفحم ، وقال : " وهي قراءةُ شاذة نقلها الفراء " ، وعجبت منه كيف لم يَعْزُها ، وقد عَزاها صاحبُ " الكشاف " إلى عبدالله قال : وقرأ عبدالله : " فأنفخُها " وأنشد : " كالهِبْرِقيِّ تَنَحَّى " ***
قوله : " فيكون " في " يكون " وجهان أحدُهما : أنها تامة أي : فيوجدُ ويكونُ " طيراً " على هذا حالاً ، والثاني : أنها الناقصةُ و " طيراً " خبرُها ، وهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ ، لأنَّ في وقوعِ اسمِ الجنس حالاً بُعْداً مُحْوجاً إلى تأويلٍ ، وإنما يظهرُ ذلك على قراءةِ نافع : " طائراً " لأنه حينئذ اسمٌ مشتقٌّ ، وإذا قيل بنقصانِها فيجوزُ أن تكونَ على بابها ويجوزُ أن تكونَ بمعنى صار الناقصة كقولِهِ :
بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنَّها *** قَطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بيوضُها
أي : صارَتْ ، وقال أبو البقاء : " فيكون " أي : يصيرُ ، فيجوزُ أَنْ تكونَ " كان " هنا التامة لأنَّ معناها " صار " ، وصار بمعنى انتقل ، ويجوز أن تكونَ الناقصة ، و " طائراً " على الأول حالٌ وعلى الثاني خبرٌ " .
قلت : لا حاجةَ إلى جَعْلِه إياها في حالِ تمامِها بمعنى " صار " التامة التي معناها معنى انتقل ، بل النحويون إنما يُقَدِّرون التامةَ بمعنى حَدَثَ ووَجَدَ وحَصَل وشبهِها ، وإذا جَعَلُوها بمعنى " صار " فإنما يَعْنُون صارَ الناقصةَ .
وقرأ نافع ويعقوب : " فيكون طائراً " هنا وفي المائدة ، والباقون : " طَيْراً " في الموضعين . فأمَّا قراءةُ نافع فوجَّهَها بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحِيد ، والتقديرُ : فكيونُ ما أنفخ فيه طائراً ، ولا يُعْتَرض عليه بأنَّ الرسمَ الكريمَ إنما هو " طير " دون ألفٍ ، لأنَّ الرسمَ يُجَوِّزُ حَذْفَ مثلِ هذه الألفِ تخفيفاً ، ويَدُلُّ على ذلك أنه رُسِمَ قولُه تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }[ الأنعام : 38 ] : " ولا طيرٍ " دونَ ألف ، ولم يقرَأْه أحدٌ إلا " طائر " بالألف ، فالرسمُ محتملٌ لا منافٍ .
وقال بعضُهم كالشارح لِما قَدَّمْتُه : " ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير لأنه لم يَخْلُق غيرَ الخفاش " . وزعم آخرون أنَّ معنى قراءتِهِ : يكونُ كلُّ واحدٍ مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقولِهِ تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }[ النور : 4 ] أي : اجلِدوا كلَّ واحدٍ منهم ، وهو كثيرٌ في كلامهم .
وأما قراءةُ الباقين فمعناها يُحتمل أَنْ يُراد به اسمُ الجنس ، أي : جنسِ الطير ، فيُحتْمل أَنْ يُرادَ به الواحدُ فما فوقَه ، ويُحتمل أن يُرادَ به الجمعُ ، ولا سيما عند مَنْ يرى أنَّ " طيراً " صيغتُه جمعٌ نحو : رَكْب وصَحْب وتَجْر جمعَ راكب وصاحب وتاجر وهو الأخفش ، وأمَّا سيبويه فهي عنده أسماءُ جموعٍ لا جموعٌ صريحةٌ ، وقد تقدَّم لنا الكلامُ على ذلك في البقرة . وحَسَّنَ قراءةَ الجماعةِ موافقتُه لِما قبله في قوله : " من الطيرِ " ولموافقةِ الرسم لفظاً ومعنى .
قوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } يجوزُ أَنُ يتعلَّقَ ب " طائراً " وهذا على قراءةِ نافع ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به ، لأِنَّ طيراً اسمُ جنسٍ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لطير ، أي : طيراً ملتبساً بإذن اللهِ ِأي : بتمكينهِ وإقرارِهِ . وقال أبو البقاء : " متعلِّقٌ بيكون " ، وهذا إنَّما يَظْهَرُ إذا جَعَلَ " كان " تامةً ، وأما إذا جَعَلها ناقصةً ففي تعلُّقِ الظرفِ بها الخلافُ المشهور .
قوله : { وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ } وأُبْرىء عطفٌ على " أَخْلُق " فهو داخلٌ في حَيِّز " أني " ، ويقال : أَبْرَأْتُ زيداً من العاهةِ ومِن الدَّيْنِ ، وبَرَّاتُكَ من الدَّين بالتضعيف ، وبَرِئْتُ من المرض أَبْرَأُ ، وَبَرَأْتُ أيضاً ، وأما بَرِئْتُ من الدَّين ومِن الذنب فبرِئْتُ لا غير . وقال الأصمعي : " بَرِئْتُ من المرض لغةُ تميم وَبَرَأْتُ لغة الحجاز " . وقال الراغب : " بَرَأْتُ من المرضِ وبَرِئْتُ ، وبَرَأْتُ من فلان " فظاهر هذا أنه لا يقال الوجهان : أعني فتح الراء وكسرها إلا في البراءة من المرض ونحوه ، وأمَّا الدَّيْنُ والذنب ونحوهما فالفتحُ ليس إلاَّ .
والبراءَةُ : التغَصِّي من الشيء المكروهِ مجاوَزَتُه وكذلك : التبرِّي والبُرْء .
والأكمهُ : مَنْ وُلِدَ أَعْمَى يقال : كَمِه يَكْمَهُ كَمَهَاً فهو أكمه قال رؤبة :
فارتدَّ عنها كارتدادِ الأكمهِ ***
ويُقال كَمِهْتُها أنا أي : أعميتها . وقال الزمخشري والراغب وغيرهما : " الأكمهُ مَنْ وُلِدَ مطموسَ العَيْن " . قال الزمخشري : " ولم يُوجَدْ في هذه الأمةِ أكمَهُ غيرُ قتادةَ صاحبِ التفسير " . وقال الراغب : " وقد يُقال لمَنْ ذَهَبَتْ عينُه : أكمهُ ، قال سويد :
كَمِهَتْ عيناه حتى ابْيَضَّتا *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والبَرَصُ داءٌ معروفٌ وهو بياضٌ يَعْتَرِي الإِنسانَ ، ولم تكن العرب تَنْفِرُ مِنْ شيءٍ نَفْرَتَها منه ، يُقال : بَرِصَ يَبْرَصُ بَرَصاً ، أي : أصابه ذلك ، ويُقال لَه : الوَضَح ، وفي الحديث : " وكان بها وضَح " والوضَّاح مِنْ ملوك العرب هابُوا أَنْ يقولوا له الأبرصَ ، ويقال للقمر : أبرصُ لشدةِ بياضِهِ . وقال الراغب : " للنكتةِ التي عليه " وليس بظاهرٍ ، فإنَّ النكتةَ التي عليه سوداءُ ، والوَزَغُ : سامٌّ أبرصَ لبياضِهِ ، والتبريص : الذي يلمع لَمَعان البرصِ ويُقارِبُ البصيصَ .
قوله : { بِمَا تَأْكُلُونَ } يجوزُ في " ما " أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفةً ، فعلى الأولى والثالثِ يَحْتاج إلى عائدٍ بخلافِ الثاني عند الجمهورِ ، وكذلك " ما " في قولِهِ : " وما تَدَّخِرُون " محتملةٌ لِما ذُكِرَ .
وأَتَى بهذه الخوارِق الأربعِ بلفظِ المضارعِ دلالةً على تجدُّدِ ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه ، وقَيَّد قولَهُ : " أني أخلُق " إلى آخرِهِ " بإذن الله " لأنه خارقٌ عظيمٌ ، فأتى به دَفْعاً لتوهُّمِ الإِلهيةِ ، ولم يأتِ به فيما عُطِفَ عليه في قوله : " وأُبْرِىء " ، ثم قَيَّدَ الخارِقَ الثالثَ أيضاً " بإذنِ الله " لأنه خارقٌ عظيمٌ أيضاً ، وعَطَفَ عليه قولَهُ : " وأنبِّئكم " من غيرِ تقييدٍ له مَنْبَهَةً على عِظَمِ ما قبلَه ودَفْعاً لوَهْمِ مَنْ يَتَوهَّم فيه الإِلهية ، أو يكون قد حَذَفَ القَيْدَ من المعطوفَيْنِ اكتفاءً به في الأولِ ، وما قَدَّمْتُه أحسنُ .
وتَدَّخِرون : قراءةُ العامة بدالٍ مشددةٍ مهملةٍ ، وأصلُه تَذْتَخِرُون تَفْتَعِلُون من الذُّخْر وهو التخبِئَةُ ، يقال : ذَخَر الشيءَ يَذْخَرُه ذُخْراً فهو ذاخِر ومَذْخُور أي : خَبَّاه ، قال الشاعر :
لها أَشَارِيرُ مِنْ لحمٍ تُتَمِّرُه *** من الثَّعالِي وذُخْرٌ من أَرانيها
الذُّخْر : فُعْل بمعنى المَذْخور نحو : الأَكْل بمعنى المأكول ، وبعضُ النحْويين يُصَحِّفُ هذا البيت فيقول : " وَوَخْزٌ " بالواو والزاي ، وقوله : " من الثَّعالي وأَرانيها " يريدُ : من الثعالب وأرانبها ، فَأَّبْدَلَ الباءً الموحدةَ ياءً بثِنْتَيْنِ من تحت ، وَلمَّا كان أصلُهُ " تّذْتَخِرون " اجتمعت الذالُ المعجمةُ مع التاءِ أي تاءِ الافتعال أُبدِلَتْ تاءُ الافتعال دالاً مهملةً فالتقى بذلك متقاربانِ : الذالُ والدالُ ، فَأَدْغَم الذالَ المعجمةَ في المهملةِ فصارَ اللفظُ : تَدَّخِرون كما ترى .
وقد قرأ السوسي في رواية عن أبي عمرو : تَذْدَخِرون بقَلْبِ تاءِ الافتعالِ دالاً مهملةً من غيرِ إدغامٍ ، وهو وإِنْ كانَ جائزاً إلاَّ أنَّ الإِدغامَ هو الفصيحُ .
وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السَّمَّال وأيوب السختياني " تَذْخَرون " بسكونِ الذالِ المعجمةِ وفتحِ الخاءِ ، جاؤوا به مجرداً على فَعَل ، يقال : ذَخَرْتُه أي : خَبَّأْتُه ، ومن العرب من يَقْلِبُ تاء الافتعال في هذا النحو ذالاً معجمة فيقول : اذَّخَر ، يَذَّخِر بذالٍ معجمة مشددةٍ ، ومثلُه اذَّكر فهو مُذَّكِر ، وسيأتي إنْ شاء الله .
وقال أبو البقاء : " والأصلُ في تَدَّخِرون : تَذْتَخِرون ، إلاَّ أنَّ الذالَ مهجورةٌ والتاءَ مهموسةٌ فلم يجتمعا ، فأُبدلت التاءُ دالاً لأنها من مَخْرَجها لتقربَ من الذالِ ، ثم أُبدلت الذالُ دالاً وأُدْغِمَتْ " . و " في بيوتِكم " متعلِّقٌ بتدَّخرون .
قوله : { إِنَّ فِي ذلِكَ } " ذلك " إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من الخوارق ، وأُشير إليها بلفظِ الأفراد وإنْ كانت جمعاً في المعنَى ، بتأويل " ما ذُكِرَ ما تَقَدَّم " . وقد تقدَّم أن في مصحف عبد الله وقراءته : " لآياتٍ " بالجمع مراعاةً لِما ذكرته من معنى/ الجمع . وهذه الجملةُ تحتمل أَنْ تكون من كلامِ عيسى وأَنْ تَكُونَ من كلام الله تعالى .
و { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } جوابُهُ محذوفٌ أي : إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآيةِ وتدبَّرتموها . وقَدَّر بعضُهم صفةً محذوفة لآية ، أي لآيةً نافعةً ، قال الشيخ : " حتى يتَّجِه التعلُّقُ بهذا الشرط " وفيه نظرٌ ، إذ يَصِحُّ التعلُّقُ بالشرطِ دونَ تقديرِ هذه الصفةِ .