الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَمُصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (50)

قوله تعالى : { وَمُصَدِّقاً } : نَسَقٌ على محلِّ " بآية " ؛ لأنَّ " بآية " في محلِّ نصبٍ على الحال إذ التقديرُ : وجئتكم ملتبساً بآية ومصدقاً . وقال الفراء والزجاج : " نصب مصدقاً على الحال ، المعنى : وجئتُكم مصدقاً لما بين يديَّ ، وجاز إضمار " جئتُكم " لدلالةِ أولِ الكلامِ عليه ، وهو قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ، ومثلُه في الكلام : " جئته بما يحب ومكرماً له " . قال الفراء : " ولا يجوزُ أَنْ يكون " ومصدقاً " معطوفاً على " وجيهاً " لأنه لو كان ذلك لقال : " ومُصَدِّقاً لِما بين يديه " يعني أنه لو كان معطوفاً عليه لأتى معه بضميرِ الغيبةِ لا بضمير التكلم ، وكذلك ذَكَرَ غيرُ الفراء ، ومَنَع أيضاً أن يكونَ منسوقاً على " رسولاً " قال : " لأنه لو كان مردوداً عليه لقال : " وَمُصَدِّقاً لِما بين يديك " لأنه خَاطَبَ بذلك مريم ، أو قال : " بين يديه " يعني أنه لو كان معطوفاً على " رسولاً " لكان ينبغي أن يُؤْتى بضميرِ الخطاب مراعاةً لمريم أو بضميرِ الغَيْبة مراعاةً للاسم الظاهر . قال الشيخ : " وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ في " ورسولاً " أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ أي : وأُرْسِلْتُ رسولاً " فعلى هذا التقديرِ يكون " مصدقاً " معطوفاً على " رسولاً " .

قوله : { مِنَ التَّوْرَاةِ } فيه وجهان :

أحدُهما : أنه حالٌ من " ما " الموصولةِ أي : الذين بين يديَّ حالَ كونِهِ من التوراةِ ، فالعامِلُ فيه " مصدقاً " لأنه عاملٌ في صاحبِ الحال ،

والثاني : أنه حالٌ من الضمير المستترِ في الظرفِ الواقِعِ صلةً ، والعامِلُ فيه الاستقرارُ المضمرُ في الظرفِ أو نفسُ الظرفِ لقيامِهِ مقامَ الفعلِ .

قوله : { وَلأُحِلَّ } فيه أوجه :

أحدها : أنه معطوفٌ على معنى " مصدقاً " إذ المعنى : جئتُكم لأصدِّقَ ما بين يديّ ولأُحِلَّ لكم ، ومثلُه من الكلام :

" جئتُه معتذراً إليه ولأجتلِبَ رضاه " ، أي : جئتُ لأعتذرَ ولأجتلبَ ، كذا قال الواحدي وفيه نظرٌ ، لأن المعطوفَ عليه حال ، وهذا تعليلٌ . قال الشيخ بعد أَنْ ذَكَرَ هذا الوجهَ : " وهذا هو العطفُ على التوهُّمِ وليس هذا منه ، لأن معقوليةَ الحالِ مخالفةٌ لمعقوليةِ التعليلِ ، والعطفُ على التوهم لا بد أَنْ يكونَ المعنى مُتَّحِداً في المعطوفِ والمعطوفِ عليه ، ألا ترى إلى قوله :

{ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] كيف اتَّحد المعنى من حيث الصلاحيةُ لجوابِ التحضيض ، وكذلك قولُه :

تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً *** بنَهْكَةٍ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ

كيف اتَّحد معنى النفي في قولِه : " لم يُكَثِّرْ " وفي قوله : " ولا بحقلَّد " أي : ليس بمكثرٍ ولا بحقلدٍ ، وكذلك ما جاء منه " .

قلت : ويمكن أَنْ يُريدَ هذا القائلُ أنه معطوفٌ على معنى " مصدقاً " أي : بسببِ دلالتِهِ على علةٍ محذوفةٍ هي موافقةٌ له في اللفظِ فَنَسَبَ العطفَ على معناه باعتبارِ دلالته على العلةِ المحذوفةِ لأنها تشاركه في أصلِ معناه ، أعني مدلولَ المادةِ وإنْ كانت دلالةُ الحالِ غيرَ دلالةِ العلةِ .

الثاني : أنه معطوفٌ على علةٍ مقدرةٍ أي : جئتُكم بآيةٍ لأوسِّعَ عليكم ولأُِحِلَّ ، أو لأِخَفِّفَ عنكم ولأُِحِلَّ ونحوُ ذلك .

الثالث : أنه معمولٌ لفعلٍ مضمرٍ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي : وجئتُكم لأُِحِلَّ ، فحُذِفَ العاملُ بعد الواوِ .

الرابع : أنه متعلِّقٌ بقولِهِ : { وَأَطِيعُونِ } والمعنى : اتِّبعوني لأُِحِل لكم ، وهذا بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ .

الخامس : أن يكونَ " ولأِحِلَّ " ردَّاً على قولِهِ : " بآية " ، قال الزمخشري : " ولأِحِلَّ " ردٌّ على قولِه : { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي " جئتكم بآيةٍ من ربكم ولأِحلَّ " . قال الشيخ : " ولا يَسْتَقِيم أن يكونَ " ولأحلَّ لكم " ردَّاً على " بآيةٍ " ؛ لأنَّ " بآية " في موضِعِ حالٍ ، و " لأحِلَّ " تعليلٌ ولا يَصِحُّ عطفُ التعليلِ على الحالِ ؛ لأنَّ العطفَ بالحرفِ المُشَرِّك في الحكم يُوجِبُ التشريكَ في جنسِ المعطوفِ عليه ، فإنْ عَطَفْتَ على مصدرٍ أو مفعولٍ به أو ظرفٍ أو حالٍ أو تعَليلٍ أو غيرِ ذلك شارَكَهُ في ذلك المعطوفِ " قلت : ويُحتمل أن يكونَ جوابُه ما تقدَّم من أنه أرادَ رَدًّاً على " بآية " من حيث دلالتُها على عاملٍ مقدَّرٍ .

قوله : { بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ } المرادُ ببعض مدلولُهُ الأصلي ، وقال أبو عبيدة " إنها هنا بمعنى " كل " مستدلاً بقولِ لبيد :

تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها *** أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها

وقد رَدَّ الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت مُحَرَّمةً عليهم ، فلو كان المعنى : ولأِحِلَّ لكم كلَّ الذي حُرِّم عليكم لأَحَلَّ لهم ذلك كله . واستَدَلَّ بعضُهم على أنَّ " بعضاً " بمعنى " كل " بقولِ الآخر :

أبا منذرٍ أَفْنَيْتَ فاستَبِقْ بعضَنَا *** حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ

أي : أهونُ من كل الشرِّ ، واستدلَّ آخرون بقولِ الآخر :

إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها *** دونَ الشيوخِ تَرى في بعضِها خَلَلا

أي : في كلِّها خَلَلاً ، ولا حاجةً إلى إخراجِ اللفظِ عن مدلولِهِ مع إمكان صحة معناه ، إذ مرادُ لبيد ببعضٍ النفوس نفسُه هو ، والتبعيضُ في البيتين الآخرين واضحٌ فإنَّ الشرَّ بعضُه أهونُ من بعضٍ آخرَ لا مِنْ كله ، وكذلك ليس كلُّ أمرٍ دَبَّره الأحداثُ كان فيه خَلَلٌ ، بل قد يأتي تدبيرُهُ أحسنَ من تدبيرِ الشيخ .

وقرأ العامةُ : " حُرِّمَ " مبنياً للمفعول والفاعلُ هو الله تعالى . وقرأ عكرمة : " حَرَّم " مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو الموصولُ في قوله : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } لأنه كتابٌ مُنَزَّلٌ ، أو موسى لأنه هو صاحبُ التوراةِ ، فَأَضْمَر للدلالةِ عليه بِذِكْرِ كتابِهِ .

وقرأ إبراهيم النخعي : " حَرُمَ " بوزن شَرُف وظَرُف ، نَسَبَ الفعل إليه مجازاً للعلمِ أنَّ المُحَرِّم هو الله تعالى .

قوله : { وَجِئْتُكُمْ } هذه الجملةُ يُحْتمل أن تكونَ تأكيداً للأولى لتقدُّم معناها ولفظِها قبلَ ذلك . قال أبو البقاء : " هذا تكريرٌ للتوكيد لأنه سَبَقَ هذا المعنى في الآيةِ التي قبلَها " ويُحْتَمل أَنْ تكونَ للتأسيس لاختلافِ متعلِّقِها ومتعلَّقِ ما قبلَها . قال الشيخ : " وجِئْتُكم بآيةٍ من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله : " قد جِئْتكم " ، وتكون هذه الآيةُ قولَهُ : { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } لأنَّ هذا القولَ شاهِدٌ على صحةِ رسالتِهِ ؛ إذ جميعُ الرسلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجَعَلَ هذا القولَ آيةً وعلامةً لأنه رسولٌ كسائِرِ الرسلِ حيث هَداه للنظرِ في أدلةِ العقلِ والاستدلالِ ، قاله الزمخشري .