الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ} (52)

قوله تعالى : { مِنْهُمُ } : فيه وجهان :

أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ بأحسَّ ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، أي : ابتداءُ الإِحساسِ مِنْ جهتهم .

والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكفر أي : الكفرُ حالَ كونِه صادراً منهم .

والإِحساسُ : الإِدراكُ ببعضِ الحواسِّ الخمسِ وهي : الذوقُ والشمُّ واللمسُ والسمعُ والبصرُ ، يقال : أَحْسَسْتُ الشيءَ وبالشَيءِ ، وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به ، ويقال : حَسَيْتُ بإبدال سينه الثانيةِ ياءً ، وأحَسْت بحذف أولِ سينه ، قال :

سِوى أنَّ العِتاقَ من المطايا *** أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ

قال سيبويه : " وَمِمَّا شَذَّ من المضاعَفِ يعني في الحذفِ شبيهٌ بباب أقمت وليس بمتلئِبٍّ ، وذلك قولهم : أَحَسْتُ وأَحَسْنَ ، يريدون : أَحْسَسْتُ وأَحْسَسْنَ ، وكذلك يُفْعَل بكل بناءٍ بُنِي الفعلُ فيه ولا تَصِلُ إليه الحركةُ ، فإذا قلت : لم أُحِسَّ لم تَحذِفْ " . وقيل : الإِحساسُ : الوجودُ والرؤيةُ يقال : هل أَحْسَسْتَ صاحبكَ أي : وَجَدْتَه أو رأيته .

قوله : { مَنْ أَنصَارِي } أنصار جمع نصير نحو : شَريف وأَشْراف . وقال قوم : هو جمع " نَصْر " المرادُ به المصدر ، ويَحتاج إلى حَذْف مضاف أي : مَنْ أصحابُ نُصْرَتي . و " إلى " على بابها ، وتتعلَّق بمحذوف ، لأنها حالٌ تقديرُه : مَنْ أنصاري مضافِين إلى الله ، كذا قَدَّره أبو البقاء . وقال قوم : إنَّ " إلى " بمعنى مع أي : مع الله ، قال الفراء : " وهو وجْهٌ حسن " . وإنما يجوز أَنْ تَجْعَل " إلى " في موضع مع إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء ما لم يكن معه كقولِ العرب : " الذَّوْدُ إلى الذَّوْدِ إبل " أي : الذود ، بخلافِ قولك : " قَدِمَ فلانٌ ومعه مال كثير " فإنه لا يصلح أَنْ تقولَ : وإليه مال ، وكذا تقول : " قدم فلان مع أهله " ولو قلت : " إلى أهله " لم يصح ، وجَعَلوا من ذلك أيضاً قولَه : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] . وقد ردَّ أبو البقاء كونَها بمعنى " مع " فقال : " وليس بشيء فإنَّ " إلى " لا تصلُح أَنْ تكونَ بمعنى " مع " ولا قياسَ يَعْضُده " .

وقيل : " إلى " بمعنى اللام أي : مَنْ أنصاري لله ، كقوله : { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } [ يونس : 35 ] أي : للحقِّ ، كذا قَدَّره الفارسي . وقيل : بل ضَمَّن

" أنصاري " معنى الإِضافةِ أي : مَنْ يُضيف نفسَه إلى الله في نصرتي ، فيكون " إلى الله " متعلقاً بنفسِ أنصاري ، وقيل : متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حال من الياء في " أنصاري " أي : مَنْ أنصاري ذاهباً إلى الله متلجِئاً إليه ، قاله الزمخشري .

قوله : { الْحَوَارِيُّونَ } جمع حوارِيّ وهو الناصرُ ، وهو مصروفٌ وإنْ ماثل مَفَاعل ، لأنَّ ياءَ النسب فيه عارضةٌ ، ومثله حَوالِيٌّ وهو المحتال ، وهذان بخلافِ : قَمَارِيّ وبَخاتِيّ ، فإنهما ممنوعانِ من الصرفِ ، والفرق أن الياءَ في حوارِيّ وحواليّ عارضةٌ بخلافِها في : " قَماريّ وبَخاتِيّ " فإنها موجودَةٌ قبل جَمْعِها في قولك : قُمْرِيّ وبُخْتِيّ .

والحوارِيُّ : الناصِرُ كما تقدَّم ، وذلك أنَّ عيسى عليه السلام مَرَّ بقومٍ فاستنصَرَهم ودَعاهم إلى الإِيمان فتبعوه وكانوا قَصَّارين للثيابِ ، فَسُمِّيَ كلُّ مَنْ تَبعَ نبياً ونَصَرَهُ : حواريَّاً تسميةً له باسمِ أولئك تشبيهاً بهم وإن لم يكن قَصَّاراً ، وفي الحديث عنه عليه السلام في الزبير : " ابنُ عمتي وحواريّ من أمتي " ومنه أيضاً : " إنَّ لكل نبي حوارياً وحوارِيّ الزبير " هذا معنى كلام أبي عبيدة وغيرِه من أهل اللغة . وقيل : الحوارِيُّ هو صفوةُ الرجل وخالصتُه ، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ أي : أَخْلَصْتُ بياضه بالغَسْل منه سُمِّيََ القَصَّارُ حواريَّاً لتنظيفه الثيابَ ، وفي التفسير : أنَّ أتباعَ عيسى عليه السلام كانوا قصَّارين ، قال أبو عبيدة : " سُمِّيَ أصحاب عيسى حواريين للبياض وكانوا قصَّارين ، قال الفرزدق :

فقلتُ : إنَّ الحواريَّاتِ مَعْطَبَةٌ *** إذا تَفَتَّلْنَ من تحتِ الجلابيبِ

يعني النساء " . قلت : يَعني أنَّ النساءَ لبياضِهِنَّ وصفاءِ لونهنَّ لا سيما المترفِّهاتُ يقال لهنَّ الحواريات ، ولذلك قال الزمخشري : " والحوارِيُّ صفوَةُ الرجل وخالصتُه ، ومنه قيل للنساء الحضريات : الحواريَّات لخلوصِ ألوانهن ونظافتهن ، وأنشد لأبي جلدة اليشكري :

فَقُلْ للحوارِيَّاتِ يبكِينَ غيرَنا *** ولا يَبْكِنا إلا الكلابُ النوابِحُ

انتهى . ومنه سُمِّيَت الحُور حُوراً لبياضِهِنَّ ونظافَتِهِنَّ . والاشتقاقُ من الحَوَر وهو تبييضُ الأثواب وغيرِها . وقال الضحاك : " هم الغَسَّالون ، وهم بلغةِ النَّبَط : هَواري بالهاء مكان الحاء " ، قال ابن الأنباري : " فمن قال بهذا القول قال : هذا حرفٌ اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبط ، وهو قول مقاتل بن سليمان : إن الحواريين هم القصارون " . وقيل : هم المجاهدون كذا نقله ابن الأنباري وأنشد :

ونحنُ أناسٌ تملأ البيضَ هامُنَا *** ونحن الحوارِيُّونَ يومَ نُزاحِفُ

جماجِمُنَا يومَ اللقاء تَراسُنا *** إلى الموت نَمْشي ليس فينا تَجانُفُ

قال الواحدي : " والمختارُ من هذه الأقوالِ عند أهل اللغة أن هذا الاسمَ لَزِمهم للبياض " ، ثم ذكر ما ذكرْتُه عن أبي عبيد .

وقال الراغب : " حَوَّرْتُ الشيءَ بَيَّضْتُه ودَوَّرْتُه ، ومنه : الخبز الحُوَّاري ، والحواريون : أنصار عيسى ، وقيل : اشتقاقُهم من حار يَحُور أي : رَجَع ، قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الإنشقاق : 4 ] أي : لن يرجِعَ ، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى ، يقال : حار يَحُور حَوْراً أي : رَجَعَ ، وحار يحور حَوْراً إذا تَرَدَّد في مكانٍ ، ومنه : حارَ الماءُ في الغَدير ، وحار في أمره وتحيَّر فيه وأصلُه : تَحَيْوَر ، فَقُلِبَتْ الواوُ ياءً فوزنه تَفَيْعَل لا تَفَعَّل ، إذ لو كان تَفَعَّل لقيل : تَحَوَّر نحو : تَجَوَّز ، ومنه قيل للعُود الذي عليه البَكَرة : مِحْوَر لتردُّده ، ومَحارة الأذنِ لظاهرِهِ المنقعر تشبيهاً بمَحَارة الماء لِتردُّد الهواء بالصوت فيه كتردد الماء في المَحارة ، والقومُ في حَوْر أي : في تردد إلى نقصان ، ومنه : " نَعُوذُ باللهِ من الحَوْر بعد الكَوْر "

وفيه تفسيران ، أحدُهما : نعوذ بالله من التردد في الأمر بعد المُضَيَّ فيه ، والثاني : نعوذُ بالله من نقصانِ وترددٍ في الحال بعد الزيادة فيها . ويقال : حارَ بعد ما كارَ ، والمُحاورة : المُرادَّة في القول ، وكذلك التحاورُ والحِوار ، ومنه : { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } [ الكهف : 34 ] { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } [ المجادلة : 1 ] أي : ترادَّكما القولَ ، ومنه أيضاً : كلَّمته فما رَجَع إلى حَوارٍ أو حَوِير أو مَحْوَرة وما يعيش بحَوْر أي : بعقل يرجع إليه ، والحَوَرُ " : ظهورُ قليلِ بياضٍ في العينِ من السواد ، وذلك نهايةُ الحسنِ في العَيْنِ يقال منه : أَحْوَرَتْ عينُه ، والمذكرُ أحورُ ، والمؤنثة حَوْراء ، والجمعُ فيها حُور ، نحو : حُمْر في جمع أحمر وحمراء ، وقيل : سُمِّيت الحُور حُوراً لذلك وقيل : اشتقاقهم من نقاء القلب وخُلوصه وصِدْقه ، قاله أبو البقاء ، وهو راجع للمعنى الأول من خُلوصِ البياضِ ، فهو مجازٌ عن التنظيفِ من الآثامِ وما يَشوب الدين .

والياء في حَوارِيّ وحَواليّ ليست للنسب بل زائدةٌ كزيادتها في كرسيّ .

وقراء العامة " الحواريُّون " بتشديد الياء في جميع القرآن ، وقرأ الثقفي والنخعي بتخفيفِها في جميع القرآن ، قالوا : لأن التشديدَ ثقيلٌ ، وكان قياس هذه القراءةِ أَنْ يقالَ فيها : الحوارُون ، وذلك أنه تستثقل الضمة على الياء المكسورة ما قبلها فَتُنْقَل ضمة الياء إلى ما قبلها فتسكُنُ الياءُ ، فيلتقي ساكنان فتحذفُ الياء لالتقاء الساكنين ، وهذا نحوُ : جاء القاضُون ، الأصل : القاضِيُون ، ففُعِل به ما ذُكِرَ . قالوا : وإنما أُقِرَّتْ ضمةُ الياءِ عليها تنبيهاً على أن التشديد مرادُ لأن التشديدَ يَحْتمل الضمة كما ذهب الأخفش في " يستهزيون " إذ أَبْدَل الهمزةَ ياءً مضمومةً ، وإنما بَقِيَتِ الضمةُ تنبيهاً على الهمزةِ .