الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤۡتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادٗا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} (79)

قوله تعالى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ } : " أَنْ يؤتيَه " اسمُ كان و " لبشر " خبرُها . وقوله : { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطفٌ على " يؤتيه " ، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المعنى ، إذ لو سكت عنه لم يَصِحَّ المعنى ، لأنَّ الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتابَ والحكم والنبوة ، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل : إنها لازمة ، فلا غرو أيضاً في لزوم المعطوف ، وإما بَيَّنْتُ لك هذا لأجل قراءةٍ سأذكرها . ومعنى مجيء هذ النفيَ في كلام العرب نحو : " ما كان لزيد أن يفعل " ونحوه نفيُ الكونِ والمرادُ نفيُ خبرِه ، وهو على قسمين : قسمٍ يكونُ النفي فيه من جهة الفعل ، ويُعَبَّر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية ، لأنَّ الله تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكم والنبوة لمَنْ يقولُ هذه المقالةَ الشنعاء ، ونحوُه : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] ، وقسمٍ يكونُ النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر " ما كان لابن أبي قحافة أن يقدَّم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق .

وقرأ العامة : " يقول " بالنصب نسقاً على " يؤتيه " ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد ، وأبو عمرو في رواية محبوب : " يقول " بالرفع ، وخرَّجوها على القطع والاستئناف ، وهو مشكلٌ لِما قَدَّمته من أن المعنى على لزومِ ذكر هذا المعطوف ، إذ لا يستقِلّ ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القَطع والاستئناف ؟

قوله : { عِبَاداً } قال ابن عطية : " ومِنْ جموعه عبيد وعِبِدَّى . قال بعض اللغويين : هذه الجموعُ كلها بمعنى ، وقال بعضُهم : العِباد لله ، والعبيد والعِبِدّى للبشر ، وقال بعضهم : العِبِدَّى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغةٌ تقتضي الإِغراق في العبودية ، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع " عبد " متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دونَ أَنْ يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، وانظر قوله : { وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ البقرة : 207 ] و { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] و{ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] ، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] ، وأمَّا العبيد فيستعمل في تحقيره ، ومنه قول امرىء القيس :

قولا لدودانَ عبيدِ العَصا *** ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِ

وقال حمزة بن عبد المطلب : " وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي " ، ومنه :

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] لأنه مكان تشفيقٍ وإعلامٍ بقلة انتصارهم ومَقدِرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلامٍ لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظةُ العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا ، ولذلك أَنِس بها في قوله تعالى :

{ قُلْ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] " فهذا النوعُ من النظر يَسْلُك بك سبيلَ العجائب في فصاحة القرآن العزيز على الطريقةِ العربية " قال الشيخ : " وفيه بعضُ مناقشة أمَّا قولُه : ومِنْ جموعِه عبيد وعِبدَّى " فأمَّا " عبيد " فالأصحُّ أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، " وأَما عِبِدَّى فاسم جمع ، وألفه للتأنيث " قلت : لا مناقشة ، فإنه إنما يعني جمعاً معنوياً ولا شك أنَّ اسمَ الجمعِ جمعٌ معنوي . ثم قال : " وأمَّا ما استقراه من أنَّ " عباداً " يُساقُ في معنى الترفع والدلالة على الطاعة دونَ أن يقترِنَ بها معنى التحقير والتصغير وإيرادُهُ ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وأَمَّا قوله : " وأمَّا العبيد فَيُستعمل في تحقير وأنشد بيتَ امرىء القيس وقولَ حمزة " وهل أنتم إلا عبيدُ أبي " وقوله تعالى { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } فاستقراءُ ليس بصحيح ، وإنما كَثُرَ استعمال " عباد " دون " عبيد " لأنَّ فِعالاً في جمع فَعْل غير اليائي العين قياسيٌّ مطرد ، وجمع فَعْل على فَعيل لا يَطِّرد . قال سيبويه : " وربما جاء فَعِيلاً وهو قليل نحو : الكليب والعبيد " فلما كان فِعال مقيساً في جمع " عبد " جاء " عباد " كثيراً . وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } فَحَسَّن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أنَّ قبله { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وبعده { قَالُواْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } فَحَسَّن مجيئَه بلفظ العبيد مراعاةُ هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا في سورة ق : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }

[ الآية : 29 ] لأنَّ قبله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } وبعده : " وتقول : هل من مزيد " . وأمَّا مدلُوله فمدلولُ " عِباد " سواءٌ . وأمَّا بيتُ امرىء القيس فلم يُفْهَمْ التحقيرُ من لفظ " عبيد " إنما فُهِمَ من إضافتهم إلى العصا ومن مجموعِ البيت ، وكذلك قولُ حمزة : " هل أنتم إلا عبيدُ أبي " إنما فُهِمَ التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين " . قلت : رَدُّه عليه استقراءَه من غير إتيانِهِ بما يخْرِمُ الاستقراء مردودٌ . وأمَّا ادِّعاؤه أن التحقير مفهومٌ من السياق دون لفظِ عبيد فممنوعٌ ، ولأنه إذا دار إحالةٌ الحكم بين اللفظِ وغيره فالإِحالَةُ على اللفظ أَوْلَى .

وقوله : " لي " صفةٌ لعباد ، و " مِنْ دون " متعلِّقٌ بلفظِ " عباد " لِما فيه من معنى الفعل ، يجوزُ أَنْ يَكونَ صفةً ثانيةً وأَنْ يكونَ حالاً لتخصُّص النكرة بالوصف .

قوله : { وَلَكِن كُونُواْ } أي : ولكن يقول كونوا ، فلا بُدَّ من إضمار القول هنا . والرَّبَّانِيُّون جمع ربَّانِيّ ، وفيه قولان ، أحدهما أنه منسوب إلى الرَّبِّ ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة كرقبَاني وشَعْراني ولِحْياني للغليظ الرقبة والكثير الشعر والطويل اللحية ، ولا تُفْرد هذه الزيادة عن النسب ، أَمَّا إذا نَسَبوا إلى الرقبة والشعر واللحية من غير مبالغة قالوا : رَقَبي وشَعْري ولَحَوي ، هذا معنى قول سيبويه .

والثاني : أنه منسوب إلى رَبَّان والربَّان هو المُعَلِّمُ للخير ومَنْ يسوس الناس ويُعَّرِّفهم أمرَ دينِهم ، فالألفُ والنونُ دالَّتان على زيادةِ الوصفِ كهي في عَطْشان ورَيَّان وجَوْعَان ووَسْنان ، وتكونُ النسبةُ على هذا في الوصف نحو أَحْمريّ ، قال :

أطَرباً وأنت قِنَّسْرِيُّ *** والدهرُ بالإِنسانِ دَوَّارِيُّ

وقال سيبويه : " زادوا ألفاً ونوناً في الرَّباني أرادوا تخصيصاً بعلم الرب دونَ غيره من العلوم ، وهذا كما قالوا : شَعْراني ولِحْياني ورَقَباني " وفي التفسير : " كونوا فقهاء علماء " ، ولمَّا مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : " مات اليوم رَبَّانيُّ هذه الأمة " .

قوله : { بِمَا كُنتُمْ } الباء سببية أي : كونوا علما بسبب كونكم . وفي متعلَّق هذه الباءِ حينئذٍ أقوال أحدها : أنه متعلقة بكونوا ، كذا ذكره أبو البقاء والخلاف مشهور .

الثاني : أن تتعلق بربانيين ، لأنَّ فيه معنى الفعل .

الثالث : أن تتعلَّق بمحذوف على أنها صفة لربانيين ذكره أبو البقاء وليس بواضح المعنى .

و " ما " مصدريةٌ ، وظاهرُ كلام الشيخ أنه يجوز أن تكون غير ذلك ، فإنه قال : " وما الظاهر أنها مصدريةٌ " فهذا يجوِّزُ غير ذلك ، وجوازه فيه بُعْدٌ ، وهو أن تكون موصولةً ، وحينئذٍ تحتاجُ إلى عائد وهو مقدَّر ، أي : بسبب الذي تُعَلِّمون به الكتاب ، وقد نقَص شرط وهو اتحاد المتعلَّق فلذلك لم يظهر جَعْلُها غيرَ مصدرية .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : " تَعْلَمُون " مفتوحٌ حرفُ المضارعة ، ساكنُ العينِ مفتوحُ اللام من : عَلِمَ يَعْلَم ، أي : تعرفون فيتعدى لواحد ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً ، فيتعدى لاثنين أولهما محذوف ، تقديره : تُعَلِّمون الناس والطالبين الكتابَ ، ويجوز ألاَّ يُرادَ مفعول أي : كنتم من أهلِ تعليم الكتاب ، وهو نظيرُ : " أطعم الخبز " المقصودُ الأهمُّ إطعامُ الخبزِ من غيرِ نظر إلى مَنْ يُطْعِمُه ، فالتضعيف فيه للتعدية .

وقد رَجَّح جماعة هذه القراءةَ على قراءة نافع بأنها أَبْلَغُ ؛ وذلك أَنَّ كلَّ مُعَلِّمٍ عالمٌ ، وليس كلُّ عالمٍ مُعَلماً ، فالوصفُ بالتعليم أبلغُ ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين ، والربَّانيُّ يقتضي أَنْ يَعْلَمَ ويُعَلِّمَ غيره ، لا أن يَقْتَصَر بالعلم على نفسه .

ورجَّح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعولٌ واحدٌ والأصل عدم الحذف ، والتخفيف مُسَوِّغٌ لذلك بخلاف التشديد ، فإنه لا بد من تقدير مفعول ، وأيضاً فهو أوفقُ لتدرُسون . والقراءتان متواترتان فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخرى ، وقد قَدَّمت ذلك في أوائل هذا الموضوع .

وقرأ الحسن ومجاهد : " تَعَلَّمون " فتح التاء والعين واللام مشددة من " تعلَّم " والأصل : تتعلَّمون بتاءين فحُذِفَت إحداهما . { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } كالذي قبله .

والعامة على " تَدْرُسون " بفتح التاء وضم الراء من الدَّرْس وهو مناسب لَتَعْلَمون من علم ثلاثياً ، قال بعضهم : " كان حقُّ مَنْ قرأ " تُعَلِّمون " بالتشديد أن يقرأ : " تُدَرِّسون " بالتشديد " وليس بلازم ، إذ المعنى : كنتم تُعَلِّمون غيركم ثم صرتم تدرسُون ، وبما كنتم تدرسونه عليهم أي : تتلونه عليهم كقوله تعالى : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } [ الإسراء : 106 ] .

وقرأ ابو حيوة في إحدى الروايتين عنه " تَدْرِسُون " بكسر الراء وهي لغة ضعيفة ، يقال : دَرَسَ العلم يَدْرِسه بكسر العين في المضارع وهما لغتان في مضارع دَرَسَ ، وقرأ هو أيضاً في رواية : " تُدَرِّسون " مِنْ دَرَّس بالتشديد ، وفيه وجهان :

أحدُهما : أن يكونَ التضعيف فيه للتكثير ، فيكون موافقاً لقراءة تَعْلَمون بالتخفيف .

والثاني : أن التضعيف للتعدية ويكون المفعولان محذوفين لفهم المعنى ، والتقديرُ : تُدَرِّسون غيرَكم العلمَ أي : تَحْمِلُونهم على الدَّرْسِ . وقُرىء

" تُدْرِسون " من أَدْرَسَ ، كتُكْرِمُون مِنْ أَكْرَمَ على أنَّ أفعل بمعنى فَعَّل بالتشديد ، فأَدْرَس ودَرَّس واحدٌ كأكرم وكرَّم وأَنْزَلَ ونَزَّل .

والدَّرْس : التَّكرارُ والإِمانُ على الشيء ومنه : دَرَسَ زيدٌ الكتاب والقرآن يَدْرُسه ويدرِسه أي كرَّر عليه ، ويقال : دَرَسْتُ الكتاب أي : تناوَلْتُ أثرَه بالحفظ .

ولمَّا كانَ ذلك بمداومَةِ القرآن عَبَّر عن إدامةِ القرآن بالدَّرْسِ ، ودَرَسَ المنزل : ذَهَبَ أثرُهُ وطللُ عارفٍ ودارسٌ بمعنًى .