قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ } : قرأ الجمهور هذه اللفظة سواء كانت معرفة ب " أل " أم نكرة بفتح الصاد ، والكسائي بكسرها في الجمع إلا قوله { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ } في رأس الجزء فإنه وافق الجمهور . فأمَّا الفتحُ ففيه وجهان ، أشهرهما : أنه أَسْند الإِحصان إلى غيرهن ، وهو إمَّا الأزواج أو الأولياء ، فإن الزوج يُحْصِنُ امرأته أي : يُعِفُّها ، والوليَّ يُحصِنُها بالتزويجِ أيضاً والله يُحْصِنُها بذلك . والثاني : أن هذا المفتوحَ الصادِ بمنزلة المكسور ، يعني أنه اسمُ فاعل ، وإنما شَذَّ فتحُ عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظَ : أَحْصَنَ فهو مُحْصَن وأَلْقح فهو مُلْقَح ، وأَسْهَب فهو مُسْهَب .
وأمَّا الكسر فإنه أسند الإِحصان إليهن ؛ لأنهن يُحْصِنَّ أنفسهن بعفافهن ، أو يُحْصِنَّ فروجهن بالحفظ ، أو يُحْصِنَّ أزواجهن . وأما استثناء الكسائي التي في رأس الجزء قال : " لأن المراد بهن المُزَوَّجات فالمعنى : أن أوزاجَهُنَّ أحصنوهن ، فهن مفعولاتٌ " ، وهذا على أحدِ الأقوال في المحصنات هنا مَنْ هن ؟ على أنه قد قرىء شاذاً التي في رأس الجزء بالكسر أيضاً ، وإنْ أُريد بهن المزوَّجات ؛ لأنَّ المراد أحصنَّ أزواجهنّ أو فروجهنّ ، وهو ظاهر . وقرأ يزيد بن قطيب : و " المُحْصُنات " بضم الصاد ، كأنه لم يَعْتَدَّ بالساكن فأتبعَ الصاد للميم كقولهم : " مُنْتُن " .
وأصلُ هذه المادة الدلالةُ على المَنْعِ ومنه " الحِصْن " لأنه يُمْنع به ، و " حِصان " للفرس من ذلك . ويقال : أَحْصَنَتِ المرأةُ وحَصُنَتْ ، ومصدرُ حَصُنَت : " حُصْن " عن سيبويه و " حَصانة " عن الكسائي وأبي عبيدة ، واسمُ الفاعلِ من أَحْصَنَتْ مُحْصَنة ، ومن حَصُنت حاصِن ، قال :
وحاصِنٍ من حاصناتٍ مُلْسِ *** مِن الأذى ومن قِراف الوَقْسِ
ويقال لها : " حَصان " أيضاً بفتح الحاء ، قال حسان يصف عائشة رضي الله عنها :
حَصانٌ رزانٌ ما تُزَنُّ بريبةٍ *** وتصبحُ غَرْثَى مِنْ لُحومِ الغَوافل
والإِحصانُ في القرآن وَرَد ، ويُراد به أحدُ أربعة معان : التزوج والعفة والحرية والإِسلام ، وهذا تنفعك معرفته في الاستثناء الواقع بعده : فإن أُريد به هنا التزوُّجُ كان المعنى : وحُرِّمت عليكم المحصنات أي : المزوجات إلا النوعَ الذي ملكته أيمانكم : إما بالسَّبْي أو بمِلْكٍ مِنْ شَرْي وهبة وإرثٍ ، وهو قولُ بعضِ أهل العلم ، ويدلُ على الأول قولُ الفرزدق :
وذاتِ حَليلٍ أَنْكَحَتْها رماحُنا *** حَلالٌ لِمَنْ يَبْني بها لم تُطَلَّقِ
يعني : أنَّ مجردَ سبائِها أحلَّهَا بعد الاستبراءِ . وإنْ أُريد به الإِسلام أو العفةُ فالمعنى أنَّ المسلماتِ أو العفيفاتِ حرامٌ كلهن ، يعني فلا يُزْنى بهن إلا ما مُلِك منهن بتزويجٍ أو مِلْك يمين ، فيكون المرادُ ب { مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } التسلُّطَ عليهن وهو قَدْرٌ مشترك ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة يكونُ الاستثناء متصلاً . وإنْ أريد به الحرائرُ فالمرادُ إلا ما مُلِكت بمِلْكِ اليمينِ ، وعلى هذا فالاستثناءُ منقطع .
وقوله : { مِنَ النِّسَآءِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ كنظيرِه المتقدم . وقال مكي : " فائدةُ قولِه { مِنَ النِّسَآءِ } أنَّ المُحْصَناتِ تقع على الأنفسِ ، فقولُه { مِنَ النِّسَآءِ } يرفعُ ذلك الاحتمال ، والدليلُ على أنه يُراد بالمحصناتِ الأنفسُ قولُه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } [ النور : 4 ] فلو أريد به النساءُ خاصة لَما حُدَّ مَنْ قذف رجلاً بنص القرآن ، وقد أجمعوا على أنّ حَدَّه بهذا النصِّ " . انتهى . وهذا كلامٌ عجيب لأنه بعد تسليم ما قاله في آية النور كيف يَتَوهَّم ذلك هنا أحدٌ من الناس ؟
قوله : { كِتَابَ اللَّهِ } في نصبه ثلاثة أوجه ، أظهرها : أنه منصوبٌ على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة قبله وهي قوله : " حُرِّمت " ، ونصبُه بفعل مقدر أي : كَتَبَ الله ذلك عليكم كتاباً . وأبعد عبيدة السلماني في جَعْلِه هذا المصدَر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراء ب " عليكم " والتقدير : عليكم كتابَ الله أي : الزموه كقوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ المائدة : 105 ] ، وهذا رأي الكسائي ومَنْ تابعه ، أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإِغراء مستدِلِّين بهذه الآيةِ ، وبقولِ الآخر :
يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا *** إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا
ف " دلوي " منصوبٌ ب " دونَك " وقد تقدَّم . والبصريون يمنعون ذلك ، قالوا : لأنَّ العاملَ ضعيف ، وتأوَّلوا الآيةَ على ما تقدم ، والبيتَ على أن " دلوي " منصوبٌ ب " المائح " أي : الذي ماح دَلْوي .
والثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : الزموا كتاب الله ، وهذا قريبٌ من الإِغراء . وقال أبو البقاء في هذا الوجه : " تقديره : الزموا كتاب الله " و " عليكم " إغراء ، يعني أن مفعوله قد حُذف للدلالة ب " كتاب الله " عليه ، أي : عليكم ذلك ، فيكون أكثر تأكيداً . وأمَّا " عليكم " فقال أبو البقاء : إنها على القول بأن " كتاب " مصدرٌ يتعلق بذلك الفعل المقدر الناصبِ ل " كتاب " ولا يتعلَّق بالمصدر " قال : " لأنه هنا فَضْله " . قال : " وقيل : يتعلَّق بنفسِ المصدر/ لأنه ناب عن الفعل ، حيث لم يُذكر معه فهو كقولك : مروراً بزيد قلت : وأمَّا على القول بأنه إغراء فلا محلَّ له لأنه واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر ، وأمَّا على القولِ بأنه منصوبٌ بإضمار فِعْلٍ أي : الزموا ف " عليكم " متعلِّقٌ بنفس " كتاب " أو بمحذوف على أنه حال منه .
وقرأ أبو حيوة " كَتَبَ اللهُ " على أن " كتب " فعل ماض ، و " الله " فاعل به ، وهي تؤيد كونَه منصوباً على المصدر المؤكد . وقرأ ابن السَّمَيْفَع اليماني : " كُتُبُ الله " جعله جمعاً مرفوعاً مضافاً لله تعالى على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ ، تقديره : هذه كتبُ الله عليكم .
قوله : { وَأُحِلَّ } قرأ الأخوان وحفص عن عاصم : " أَحَلَّ " مبنياً للمفعول ، والباقون مبنياً للفاعل ، وكلتا القراءتين الفعلُ فيهما معطوفٌ على الجملةِ الفعليةِ من قولِه : " حُرِّمَتْ " والمُحَرِّمُ والمُحَلِّلُ هو الله تعالى في الموضعين ، سواءً صَرَّحَ بإسناد الفعلِ إلى ضميره أو حَذَف الفاعل للعلم به .
وادَّعى الزمخشري أن قراءة " أُحِلَّ " مبنياً للمفعول عطفٌ على " حُرِّمت " ليُعْطَفَ فعلٌ مبني للمفعول على مثله ، وأما على قراءة بنائه للفاعل فجعله معطوفاً على الفعل المُقدَّر الناصب ل " كتاب " كأنه قيل : كَتَب الله عليكم تحريمَ ذلك وأَحَلَّ لكم ما وراء ذلكم . قال الشيخ : " وما اختاره يعني من التفرقه بين القراءتين غيرُ مختار ؛ لأنَّ الناصبَ ل " كتابَ الله " جملةٌ مؤكدة لمضمون الجملة من قوله " حُرِّمت " إلى آخره ، وقوله " وأَحَلَّ لكم " جملةٌ تأسيسية فلا يناسِبُ أن تُعْطَفَ إلا على تأسيسية مثلِها لا على جملةٍ مؤكدة ، والجملتان هنا متقابلتان ، إذ إحداهما للتحريم والأخرى للتحليل ، فالمناسب أن تُعطف إحداهما على الأخرى لا على جملة أخرىغيرِ الأولى ، وقد فَعَلَ هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول فليكن هذا مثلَه " وفي هذا الردَّ نظر .
و { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } مفعولٌ به : إمَّا منصوبُ المحل أو مرفوعُه على حَسَبِ القراءتين في " أحلَّ " .
قوله : { أَن تَبْتَغُواْ } في محلِّه ثلاثةُ أوجه : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ على أنه بدل من { مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } على قراءة " أُحِلَّ " مبنياً للمفعول ؛ لأن " ما " حينئذ قائمةٌ مقامَ الفاعل ، وهذا بدلٌ منها بدلُ اشتمال . وأمَّا النصبُ فالأجودُ أن يكون على أنه بدل من " ما " المتقدمة على قراءة " أَحَلَّ " مبنياً للفاعل ، كأنه قال : وأَحَلَّ الله لكم الابتغاء بأموالكم من تزويج أو مِلْك يمين . وأجاز الزمخشري أن يكونَ نصبُه على المفعول من أجله ، قال " بمعنى : بَيَّن لكم ما يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُم إرادةَ أن يكون ابتغاؤكم بأموالِكم التي جعل الله لكم قياماً في حال كونِكم محصنين " .
وأنحى عليه الشيخ ، وجَعَلَه إنما قصد بذلك دسيسةَ الاعتزال ثم قال : " وظاهرُ الآية غيرُ ما فهمه ، إذ الظاهر أنه تعالى أَحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المحرماتِ السابقِ ذكرُها بأموالنا حالةَ الإِحصان لا حالةَ السِّفاح ، وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يُعْرَبَ " أن تبتغوا " مفعولاً له ، لأنه فات شرطٌ من شروطِ المفعولِ له وهو اتحادُ الفاعلِ في العامل والمفعول له ، لأنَّ الفاعلَ ب " أحلَّ " هو الله تعالى والفاعلَ في " تبتغوا " ضميرُ المخاطبين فقد اختلفا ، ولمَّا أحسَّ الزمخشري إن كان أحسَّ جعل " أن تبتغوا " على حذفِ " إرادة " حتى يتحدَ الفاعل في قوله " وأحلَّ " وفي المفعولِ له ، ولم يجعل " أن تبتغوا " مفعولاً له إلا على حذف مضاف وإقامتِه مقامَه ، وهذا كلُّه خروج عن الظاهر " .
ولا أدري ما هذا التَحمُّلُ ، ولا كيف يَخْفى على أبي القاسم شرطٌ اتحاد الفاعل في المفعول له حتى يقول " إن كان أحسَّ " ! ! !
وأجاز أبو البقاء فيه النصبَ على حذف حرف الجر ، قال أبو البقاء : " وفي " ما " يعني من قوله { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وجهان ، أحدُهما : هي بمعنى " مَنْ " ، فعلى هذا يكون قوله " أن تبتغوا " في موضع جر أو نصب على تقدير : بأن تبتغوا أو لأنْ تبتغوا ، أي : أُبيح لكم غيرُ مَنْ ذكرنا من النساء بالمهور ، والثاني : أن " ما " بمعنى الذي ، والذي كنايةٌ عن الفعل أي : وأحَلَّ لكم تحصيلَ ما وراء ذلك الفعلِ المحرَّمِ ، و " أن تبتغوا " بدلٌ منه ، ويجوز أن يكونَ أصلُه بأن تبتغوا ، أو لأن تبتغوا . وفي ما قاله نظر لا يخفى .
وأمَّا الجرُّ فعلى ما ذكره أبو البقاء . وقد تقدَّم ما فيه .
و { مُّحْصِنِينَ } حال من فاعل " تَبْتغوا " ، و " غيرَ مسافحين " حالٌ ثانية ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضمير في " مُحْصِنين " ، ومفعول محصنين ومسافحين محذوف أي : مُحْصِنين فروجَكم غير مسافحين الزواني ، وكأنها في الحقيقة حال مؤكدة لأن المُحْصِن غيرُ مسافِحٍ . ولم يقرأ أحد بفتح الصاد من " محصنين " فيما علمت .
قوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ } يجوزُ في " ما " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ شرطيةً . والثاني : أن تكونَ موصولةً . وعلى كلا التقديرين فيجوز أن يكونَ المرادُ بها النساءَ المستمتَع بهن أي : النوعَ المُسْتمتع به ، وأن يراد بها الاستمتاعُ الذي هو الحدثُ . وعلى جميع الأوجه المتقدمة فهي في محل رفع بالابتداء ، فإنْ كانت شرطيةً ففي خبرها الخلاف المشهور : هل هو فعلُ الشرط أو جوابُه أو كلاهما ؟ وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة . وإن كانت موصولةً فالخبرُ قولُه : { فَآتُوهُنَّ } ، ودخلت الفاءُ لشبهِ الموصولِ باسم الشرط ، وقد تقدَّم أيضاً تحقيقه . ثم إنْ أُريد بها النوعُ المستمتعُ به فالعائدُ على المبتدأ سواءً كانت " ما " شرطاً أو موصولةً الضميرُ المنصوب في " فآتوهن " ، ويكون قد راعَى لفظَ " ما " تارة فأَفْرد في قوله " به " ومعناها أخرى ، فَجَمع في قوله " منهن " و " فآتوهن " ، فيصيرُ المعنى : أيَّ نوع من النساء استمتعتم به فآتوهُنَّ ، أو النوعَ الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن ، وإنْ أريد بها الاستمتاع فالعائدُ حينئذ محذوفٌ تقديره : فأيَّ نوع من الاستمتاع استمتعتم به من النساء فآتوهُنَّ أجورهن لأجلِه ، أو : أيَّ نوع من الاستمتاع الذي استمتعتم به من النساء فآتوهن أجورهُنَّ لأجله .
و " مِنْ " في " منهم " تحتمل وجهين ، أحدهما : أن تكون للبيان . والثاني : أن تكون للتبعيض ، ومحلُّها النصب على الحال من الهاء في " به " ولا يجوز في " ما " أن تكون مصدرية لفسادِ المعنى ، ولعَوْدِ الضميرِ في " به " عليها . /
والسِّفاح : الزنا ، وأصله الصَبُّ ، لأن الزاني يَصُبُّ فيه ، وكانوا يقولون : سافحيني وماذيني . والمسافِحُ : مَنْ تظاهر بالزنا ، ومتخذ الأخدان مَنْ تَسَتَّر فاتخذ واحدة خفية .
قوله : { فَرِيضَةً } حالٌ من " أجورهن " أو مصدرٌ مؤكِّد أي : فرض الله ذلك فريضة ، أو مصدرٌ على غير الصدر ؛ لأن الإِيتاء مفروض فكأنه قيل : فآتوهُنَّ أجورَهنَّ إيتاءً مفروضاً .