الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلَوۡ أَنَّهُمۡ أَقَامُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيۡهِم مِّن رَّبِّهِمۡ لَأَكَلُواْ مِن فَوۡقِهِمۡ وَمِن تَحۡتِ أَرۡجُلِهِمۚ مِّنۡهُمۡ أُمَّةٞ مُّقۡتَصِدَةٞۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ سَآءَ مَا يَعۡمَلُونَ} (66)

قوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } : مفعولُ الأكلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً ، أي لوُجِد منهم هذا الفعلُ ، و " من فوقهم " متعلقٌ به أي : لأكلوا من الجهتين . وقال أبو البقاء : " إنَّ " من فوقهم " صفةٌ لمفعول محذوف أي : لأكلُوا رِزْقاً كائناً مِنْ فوقِهم " وقوله " منهم " خبر مقدم ، و " أمةٌ " مبتدأ ، و " مقتصدةٌ " صفتُها ، وعلى رأي الأخفش يجوز أن تكون " أمة " فاعلاً بالجار . وقوله : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ } تنويعٌ في التفصيل ، فأَخْبر في الجملة الأولى بالجار والمجرور ، ووصفَ المبتدأ بالاقتصاد ، ووصفَ المبتدأ في الجملة الثانية ب " منهم " ، وأخبر عنه بجملة قوله : { سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } وذلك لأنَّ الطائفةَ الأولى ممدوحةٌ فُوصفوا بالاقتصاد ، وأخبر عنهم بأنهم من جملة أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ من الخبر ، فإنهم إذا أسلموا زال عنهم هذا الاسم ، وأما الطائفة الثانية فإنهم وصفوا بكونهم من أهل الكتاب فإنَّ الوصفَ ألزمُ وهم كفار فهم منهم ، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة فإن الخبرَ ليس بلازم ، وقد يُسْلِم منهم ناس فيزول عنهم الإِخبار بذلك .

و " ساءَ " هذه يجوزُ فيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أن تكونَ تعجباً كأنه قيل : ما أسوأ عملَهم ، ولم يذكر الزمخشري غيرَ هذا الوجه ، ولكن النحاة لَمَّا ذكروا صيغَ التعجب لم يَعُدُّوا فيها " ساء " ، فإن أراد من جهةِ المعنى لا من [ جهة ] التعجب المبوبِ له في النحو فقريب . الثاني : أنها بمعنى " بِئْس " فتدلُّ على الذ‍‍‍َّمِّ كقوله تعالى : { سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ } وعلى هذين القولين ف " ساءَ " غيرُ متصرفة ، لأن التعجب والمدح والذم لا تتصرَّفُ أفعالُهما . الثالث : أن تكون " ساء " المتصرفة نحو : ساء يسوء ، ومنه { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [ الإِسراء : 7 ] { سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] ، والمتصرفةُ متعديةٌ ، قال تعالى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } فأين مفعولُ هذه ؟ قيل : هو محذوفٌ تقديره : ساء عملُهم المؤمنين ، والتي بمعنى " بئس " لا بد لها من مميِّز ، وهو هنا محذوفٌ تقديره : ساء عملاً الذي كانوا يعملونه . والحرب مؤنثةٌ ، وهي في الأصل مصدر ، وقد تقدَّم الكلامُ عليها في البقرة .