الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغۡ مَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَۖ وَإِن لَّمۡ تَفۡعَلۡ فَمَا بَلَّغۡتَ رِسَالَتَهُۥۚ وَٱللَّهُ يَعۡصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (67)

قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ } : ناداه بأشرفِ الصفات البشرية . وقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } وهو قد بَلَّغَ ! ! فأجاب الزمخشري بأن المعنى : جميعَ ما أُنْزل إليك ، أي : أيَّ شيء أُنْزل غيرَ مراقِبٍ في تبليغه أحداً ولا خائفٍ أن ينالكَ مكروهٌ " وأجاب ابن عطية بقريب منه ، قال : " أَمَر رسولَه بالتبليغِ على الاستيفاء والكمال ، لأنه كان قد بلَّغ " ، وأجابَ غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة كقوله : { يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] ، وإنما ذكرْتُ هذا لأنه ينفعُ في سؤالٍ سيأتي .

وقوله : { ما } يحتملُ أن تكونَ اسميةً بمعنى الذي ، ولا يجوز أن تكون موصوفةً لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميع كما مَرَّ ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك فإن تقديرها : " بَلِّغْ شيئاً أُنزل إليك " وفي " أُنزل " ضمير مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقامَ الفاعل ، وتحتمل على بُعْدٍ أن تكون " ما " مصدريةً ، وعلى هذا فلا ضميرَ في " أُنْزل " لأنَّ " ما " المصدريةَ حرفٌ على الصحيح فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ وهو الجارُّ بعده ، وعلى هذا فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإِنزالَ ، ولكنَّ الإِنزال لا يُبَلِّغُ فإنه معنى ، إلا أن يُراد بالمصدر أنه واقعٌ موقعَ المفعول به ، ويجوز أن يكونَ المعنى : " اعلَمْ بتبليغِ الإِنزالِ " فيكونُ مصدراً على بابه .

قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وإنْ لم تفعل التبليغَ ، فحذَف المفعولَ به ولم يقل : " وإن لم تبلِّغْ فما بَلَّغت " لِما تقدم في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } [ الآية : 24 ] في البقرة ، والجوابُ لا بد أن يكون مغايراً للشرط لتحصُل الفائدةُ ، ومتى اتَّحدا اختلَّ الكلام ، لو قلت : " إن أتى زيد فقد جاء " لم يَجُزْ ، وظاهرُ قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ } اتحادُ الشرطِ والجزاء ، فإن المعنى يَؤُول ظاهراً إلى : وإن لم تفعل لم تفعلْ . وأجابَ الناس عن ذلك بأجوبةٍ أسَدُّها ما قاله الأستاذ أبو القاسم الزمخشري ، وقد أجابَ بجوابين ، أحدُهما : أنه إذا لم يمتثل أمرَ اللّهِ في تبليغِ الرسالاتِ وكَتْمِها كلِّها كأنه لم يُبْعَثْ رسولاً كان أمراً شنيعاً لاخفاءَ بشناعته ، فقيل : إنْ لم تبلغ أدنى شيء وإن كلمةً واحدةً فكنت كمن ركب الأمرَ الشنيع الذي هو كتمانُ كلِّها ، كما عَظَّم قَتْل النفسِ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . والثاني : أَنْ يُراد : وإنْ لم تفعلْ ذلك فلك ما يُوجِبُ كتمانَ الوحي كلِّه من العقاب فوضَع السببَ موضعَ المُسَبِّب ، ويؤيده : " فأوحى الله إليَّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك " .

وأجاب ابن عطية فقال : " أي : وإن تركت شيئاً فقد تركت الكل وصار ما بَلَّغْت غيرَ معتد به ، فمعنى " وإن لم تفعل " : " وإن لم تستوفِ " نحوُ هذا قولُ الشاعر :

سُئِلْتَ فلم تبخَلْ ، ولم تُعْطِ نائلاً *** ، فسِيَّان لا حمدٌ عليك ولا ذَمٌّ

أي : فلم تعطِ ما يُعَدُّ نائلاً ، وإلا يتكاذَبِ البيتُ ، يعني بالتكاذب أنه قد قال : " فلم تبخل " فيتضمن أنه أعطى شيئاً ، فقوله بعد ذلك : " ولم تُعْطِ نائلاً " لو لم يقدِّر نائلاً يُعْتَدُّ به تكاذَبَ . وفيه نظر فإنه قوله " لم تبخل ولم تُعْطِ " لم يتواردا على محلِّ واحد حتى يتكاذَبا ، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قَدَّره ابن عطية كَذِبُ البيت ، وبهذا الذي ذكرتُه يتبيِّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعم أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازَعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلت وتَبْخَلْ وتُعْطِ ، وذلك لأنه قوله : " ولم تَبْخَلْ " على قولِ هذا القائلِ متسلطٌ على " طائل " فكأنه قيل : فلم تبخل بطائل ، وإذا لم يبخل به فقد بذله وأعطاه فيناقضه قوله بعد ذلك . و " لم تُعْطِ نائلاً " .

وقد أفسد ابن الخطيب الرازي الجوابَ المتقدم واختار جواباً مِنْ عنده فقال : " أجاب الجمهور ب " إنْ لم تبلِّغ واحداً منها كنت كمن لم يبلِّغْ شيئاً " وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتى بالبعض فإن قيل : إنه تَرَكَ الكلَّ كان كذباً ، ولو قيل : إن مقدارَ الجُرْم في ترك البعض مثلُ الجرم في ترك الكل فهذا هو المُحالُ الممتنع ، فسقط هذا الجوابُ ، والأصحُّ عندي أن يقالَ : خَرَجَ هذا الجوابُ على قانون قوله :

أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ***

ومعناه : أنَّ شعري قد بَلَغَ في الكمال والفصاحة والمتانة إلى حيث متى قيل إنه شعري فقد انتهى مدحُه إلى الغاية التي لا يزاد عليها ، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامةَ من هذا الوجه ، فكذا هنا كأنه قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه فما بلَّغْتَ رسالاته ، يعني أنه لا يمكن أن يوصفَ تَرْكُ التبليغ بتهديدٍ أعظمَ من أنه تَرَكَ التبليغَ ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد .

قال الشيخ : " وما ضَعَّفَ به جوابَ الجمهور لا يضعف به لأنه قال : " فإنْ قيل إنه تركَ الكل كان كذباً " ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا إنَّ بعضها ليس أَوْلى بالأداء من بعضٍ ، فإن لم تؤدِّ فكأنك أَغْفَلتَ أداءَها جميعَها ، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضِها كان كمن لم يؤمنْ بكلِّها لإِدلاء كل منها بما يُدْلي به غيرُها ، وكونُها كذلك في حكم شيءٍ واحدٍ ، والشيءُ الواحد لا يكون مبلِّغاً غير مبلَّغ مؤمناً به غيرَ مؤمن به ، فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غيرَ معتدٍّ به " قلت : هذا الكلام الأنيق أعني ما وقع به الجواب عن اعتراض الرازي كلامُ الزمخشري أَخَذَه ونقله إلى هنا .

وتمامُ كلام الزمخشري أن قال بعد قوله : " غير مؤمَنٍ " وعن ابن عباس رضي الله عنه : " إنْ كتمت آيةً لم تبلِّغْ رسالاتي " وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بَعَثَني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذَرْعاً ، فأوحى الله إليّ إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عَذَّبْتُك وضَمِن لي العِصمةَ فقويتُ " قال الشيخ : " وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرم في تَرْكِ البعضُ مثلُ الجرم في ترك الكل مُحال ممتنع فلا استحالةَ فيه ؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنب اليسير العقابَ العظيم وبالعكس ، ثم مَثَّل بالسارق الآخذِ خفيةً يُقْطَع ويُرَدُّ ما أخذ ، وبالغاضبِ يؤخذ منه ما أخذ دونَ قطعٍ .

وقال الواحدي : " أي : إنْ يتركْ إبلاغَ البعضِ كان كَمَنْ لم يبلِّغْ ، لأنَ تَرْكه البعضَ محبطٌ لإِبلاغِ ما بلَّغ ، وجرمَه في كتمان البعض كجرمه في كتمان الكل في انه يستحقٌّ العقوبة مِنْ ربِّه ، وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أَوْحى الله إليه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : " مَنْ زَعَم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَم شيئاً من الوحي فقد أَعْظَمَ على الله الفِرْيَةَ ، والله تعالى يقول : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ } ولو كَتَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي لكتم قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } " [ الأحزاب : 37 ] الآية . وهذا قريب من الأجوبة المتقدمة . هذا ما وقفتُ عليه في الجواب في هذه الآية الكريمةِ . ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤال المتقدمِ الحديثُ الصحيح عن عمر بن الخطاب : " فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله " فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرط ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحصُل به المغايرةُ فقالوا : " تقديره : فَمَنْ كانت هجرتُه إلى الله ورسوله نيةً وقصداً فهجرتُه إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً ، ويمكن أن يأتي فيه جوابُ الرازي الذي اختاره .

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر : " رسلاتِه " جمعاً ، والباقون : " رسالتَه " بالتوحيد ، ووجهُ الجمع أنه عليه السلام بُعِث بأنواع شتى من الرسالة كأصول التوحيد والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإِفرادُ واضحٌ لأنَّ اسمَ الجنسِ المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسل : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } [ الأعراف : 62 ] ، وبعضُهم قال : { رِسَالَةَ رَبِّي } [ الأعراف : 79 ] اعتباراً للمعنيين .