قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا } : فيه التفاتٌ من غَيْبة إلى تكلم بنون العظمة ، والباء في " به " للسببية ، وقوله { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } قيل : المراد كل ما تسمَّى نباتاً في اللغة . وقال الفراء : " رزق كل شيء أي : ما يصلحُ أن يكون غذاءً لكل شيء فيكون مخصوصاً بالمتغذَّى به " . وقال الطبري : " هو جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن ؛ لأنَّ كل ذلك يتغذَّى بالماء " ويترتب على ذلك صناعة إعرابية ، وذلك أنَّا إذا قلنا بقولٍ غيرِ الفراء كانت الإضافة راجعةً في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها ، إذ يصير المعنى على ذلك : فأخرَجْنا به كلَّ شيء منبَت فإن النبات بمعنى المُنْبَت ، وليس مصدراً كهو في { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً }
[ نوح : 17 ] وإذا قلنا بقول الفراء كانت الإِضافة إضافةً بين متباينين ، إذ يصير المعنى : غذاء كل شيء أو رزقه ، ولم ينقل الشيخ عن الفراء غيرَ هذا القول ، والفراء له في هذه الآية القولان المتقدمان فإنه قال : " رزق كل شيء " قال : " وكذا جاء في التفسير وهو وجه الكلام ، وقد يجوز في العربيَّة أن تضيف النبات إلى كل شيء ، وأنت تريد بكل شيء النبات أيضاً ، فيكون مثل قوله { حَقُّ الْيَقِينِ } [ الواقعة : 95 ] واليقين هو الحق " .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ } في الهاء وجهان أحدهما : أن تعود على النبات وهذا هو الظاهر ولم يذكر الزمخشري غيره ، وتكون " مِنْ " على بابها مِنْ كونها لابتداء الغاية أو تكون للتبعيض ، وليس بذلك . والثاني : أن تعود على الماء وتكون " مِنْ " سببية ، وذكر أبو البقاء الوجهين فقال : " وأخرجنا منه أي : بسببه . ويجوز أن تكون الهاء في " منه " راجعة على النبات وهو الأشبه ، وعلى الأول يكون " فأخرجنا " بدلاً من " أخرجنا " الأول " . أي إنه يُكتفى في المعنى بالإِخبار بهذه الجملة الثانية وإلا فالبدل الصناعي لا يظهر ، والظاهر أنَّ " فأخرجنا " عطف على " فأخرجنا " الأول . وقال الشيخ : " وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً مِنْ فأخرجنا " . قلت : إنما جعله بدلاً بناء على عود الضمير في " منه " على الماء فلا يصحُّ أن يحكى عنه أنه جعله بدلاً مطلقاً ؛ لأن البدلية لا تُتَصَوَّرُ على جعل الهاء في " منه " عائدة على النبات .
والخَضِر بمعنى الأخضر كَعَوِر وأعور . قال أبو إسحاق " يقال اخضَرَّ يخضرُّ فهو خَضِر وأخضر كاعوَّر فهو عَوِرٌ وأعورُ " والخُضْرة أحدُ الألوان وهي بين البياض والسواد لكنها إلى السواد أقرب ، ولذلك أُطلق الأسود على الأخضر وبالعكس ، ومنه " سَواد العراق " لخضرة أرضه بالشجر .
وقال تعالى : { مُدْهَآمَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] أي : شديدتا السواد لريِّهما . والمخاضرة : مبايَعَةُ الخُضَر والثمار قبل بلوغها ، والخَضِيرة نخلةٌ ينتثر بُسْرُها أخضرَ . وقوله عليه السلام : " إياكم وخضراءَ الدِّمَن " فقد فسَّره هو عليه السلام بقوله : " المرأة الحسناء في المنبت السوء " و الدِّمَن : مطارحُ الزِّبالة وما يُسْتَقْذر ، فقد ينبُت فيها ما يستحسنه الرائي .
قوله : { نُّخْرِجُ مِنْهُ } أي : من الخَضِر . والجمهور على " نُخْرج " مسنداً إلى ضمير المعظم نفسه . وقرأ ابن محيصن والأعمش " يخرج " بياء الغيبة مبنياً للمفعول ، " حَبٌّ " قائم مقام فاعله ، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفة ل " خَضِراً " وهذا هو الظاهر ، وجوَّزوا فيها أن تكون مستأنفةً ، ومتراكب رفعاً ونصباً صفة ل " حَبّ " بالاعتبارين .
قوله : { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } يجوز في هذه الجملة أوجه ، أحدها : وهو أحسنها أن يكون " من النخل " خبراً مقدماً ، و " من طَلْعِها " بدل بعض من كل بإعادة العامل فهو كقوله : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ } [ الممتحنة : 6 ] و " قِنْوان " مبتدأ مؤخر ، وهذه جملةٌ ابتدائية عُطِفَتْ على الفعلية قبلها . والثاني : أن يكونَ " قِنْوان " فاعلاً بالجار قبله وهو من النخل ، و " من طلعها " على ما تقدم من البدلية ، وذلك على رأي الأخفش . الثالث : أن تكون المسألة من باب التنازع ، يعني أن كلاً من الجارَّيْن يطلب قنواناً على أنه فاعل على رأي الأخفش : فإن أعملت الثاني وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأول ، وإن أَعْمَلْتَ الأول كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني ، قال أبو البقاء : " والوجه الآخر أن يرتفع " قِنْوان " على أنه فاعل " من طلعها " فيكون في " من النخل " [ ضميرٌ يفسره قنوان ] وإن رفعت " قنوان " بقوله " ومن النخل " على قول مَنْ أعمل أول الفعلين جاز ، وكان في " من طلعها " ضمير مرفوع " . قلت : فقد أشار بقوله " على أنه فاعل " من طلعها " إلى إعمال الثاني .
الرابع : أن يكون " قنوان " مبتدأ و " من طلعها " الخبر ، وفي " من النخل " ضمير تقديره : ونبت من النخل شيء أو ثمر فيكون " من طلعها " بدلاً منه . قاله أبو البقاء ، وهذا كلامٌ لا يَصِحُّ لأنه بعد أن جعل " مِنْ طلعها " الخبر فكيف يُجْعل بدلاً ؟ فإن قيل : يجعله بدلاً منه لأن " من النخل " خبر للمبتدأ . فالجواب أنه قد قَدَّم هذا الوجه وجعله مقابلاً لهذا فلا بد أن يكون هذا غيرَه ، فإنه قال قبل ذلك : " وفي رفعه وجهان أحدهما : هو مبتدأ وفي خبره وجهان ، أحدهما هو " من النخل " وم نطَلْعِها بدل بإعادة الجار " .
قال الشيخ : " وهذا إعراب فيه تخليط " .
الخامس : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة " أخرجنا " عليه تقديره : ومخرجةٌ من طلع النخل قنوان " هذا نص الزمخشري ، وهو كما قال الشيخ لا حاجة إليه ؛ لأن الجملة مستقلة في الإِخبار بدونه .
السادس : أن يكون " من النخل " متعلقاً بفعل مقدر ، ويكون { مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملة ابتدائية في موضع المفعول ب " نخرج " . وإليه ذهب ابن عطية فإنه قال : " ومن النخل تقديره : " ونُخْرِجُ من النخل " و " من طلعها قنوان " ابتداء خبره مقدم ، والجملة في موضع المفعول ب " نخرج " قال الشيخ : " وهذا خطأ لأنَّ ما يتعدَّى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله ، إلا إذا كان الفعل مما يُعَلَّق ، وكان في الجملة مانعٌ يمنع من العمل في شيء من مفرداتها على ما شُرِحَ في النحو ، و " نُخْرج " ليس ممَّا يُعَلَّق ، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها ، إذ لو سُلِّط الفعلُ على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب " ونخرج من النخل مِنْ طَلْعِها قنواناً " بالنصب مفعولاً به .
وقال الشيخ : " ومن قرأ : " يُخْرَج منه حب متراكب " جاز أن يكون قوله { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } معطوفاً عليه نحو : " يُضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو " أي أنه يُعطف " قنوان " على " حب " ، و " من النخل " معطوف على " منه " ثم قال : " وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه " والقِنْوان : جمع ل " قِنْو " كالصِنْوان جمع لصِنْو ، والقِنْوُ : العِذْق بكسر العين وهو عنقودُ النخلة ، ويقال له الكِباسة ، قال امرؤ القيس :
وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسودَ فاحِمٍ *** أثيثٍ كقِنْو النخلة المُتَعَثْكِل
سوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثٍ فروعُه *** وعالَيْنَ قِنْواناً من البُسْر أحمرا
والقنوان : جمع تكسير قال أبو علي : " الكسرة التي في قِنْوان ليست التي كانت في قِنْو لأن تلك حذفت في التكسير وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّر تغيير كسرة " هِجان " جمعاً عن كسرته مفرداً ، فكسرة هِجان جمعاً ككسرة ظِراف " . قال الواحدي : " وهذا مما توضحه الضمة في آخر " منصور " على قولِ مَنْ قال " يا حارُ " يعني بالضمة ليست التي كانت فيه/ في قول مَنْ قال " يا حارِ " يعني بالكسر " . وفيه لغات : فلغةُ الحجاز " قِنْوان " بكسر القاف ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ الأعمش والحباب عن أبي عمرو والأعرج بضمِّها ، ورواها السلمي عن علي بن أبي طالب ، وهي لغة قيس ، ونقل ابن عطية عكس هذا فجعل الضمَّ لغةَ الحجاز فإنه قال : " وروي عن الأعرج ضم القاف على أنه جمع " قُنو " بضمِّ القاف " ، قال الفراء : " وهي لغة قيس وأهل الحجاز ، والكسرُ أشهر في العرب " .
واللغة الثالثة : قَنْوان بفتح القاف وهي قراءة أبي عمرو في رواية هارون عنه . وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع لِقنْو لا جمعاً إذ ليس في صيغ الجموع ما هو على وزن فَعْلان بفتح الفاء ، ونظَّره الزمخشري برَكْب ، وأبو البقاء بالباقر ، وتنظير أبي البقاء أولى لأنه لا خلاف في الباقر أنه اسم جمع ، وأمَّا رَكْب ففيه خلاف لأبي الحسن مشهور ، ويدل على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سُمِعَ في المفرد كَسْرُ القاف وضمها فجاء الجمع عليهما . وأمَّا الفتح فلم يَرِدْ في المفرد .
واللغة الرابعة قُنْيان بضم القاف مع الياء دون الواو . والخامسة : قِنْيان بكسر القاف مع الباء أيضاً ، وهاتان لغتا تميم وربيعة . وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً بل بالواو سواء كسروا القاف أم ضمُّوها ، فلا يقولون إلا قِنواً وقُنوا ، ولا يقولون قِنيا ولا قُنيا ، فخالف الجمعُ مفرده في المادة وهو غريب .
واختُلف في مدلول " القِنْو " فقيل : هو الجُمَّار وهذا يكاد يكون غلطاً ، وكيف يُوْصَفُ بكونه دانياً أي : قريب الجنى ، والجُمَّار إنما هو في قلب النخلة ، والمشهور أنه العِذْق كما تقدم ذلك . قال أبو عبيد : " وإذا ثَنَّيْتَ قِنْواً قلت : قِنوان بكسر النون ، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل : صِنْوٌ وصنوان ، والإِعراب على النون في الجمع ، وليس لهما في كلام العرب نظير " قال :
. . . . . . . . . . . . . . *** ومالَ بقِنْوانٍ مِنَ البُسْرِ أحمرا
قلت : إذا وُقف على " قنوان " المثنى رفعاً وعلى " قنوان " جمعاً وقع الاشتراك اللفظي ، ألا ترى أنك إذا قلت : " عندي قنوان " وقفاً احتمل ما ذكرته من التثنية والجمع ، فإذا وصلت وقع الفرق فإنك تجعل الإِعراب على النون حالَ جمعه كغِربان وصِرْدان بكسر النون في التثنية .
ويقع الفرق أيضاً بوجوهٍ أُخَرَ منها : انقلاب الألف ياءً نصباً وجراً في التثنية نحو : رأيت قِنْوَيْك وصِنْويك ومررت بقنويك وصنويك ، ومنها : حذف نون التثنية إضافةً وثبوت النون في الجمع نحو : جاء قنواك وصنواك وقنوانك وصنوانك ، ومنها : في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية فتقول : قِنْوَيّ وصِنْوَي ، ولا تحذف الألف ولا النون إذا أردت الجمع بل تقول : قِنْوانيّ وصِنْواني ، وهذان اللفظان في الجمع تكسيراً يشبهان الجمع تصحيحاً وذلك أن كلاً منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان ولم يتغيَّرْ معها بناء الواحد ، والفرق ما قدَّمْتُه لك ، وأيضاً فإن الجمع مِنْ قنوان وصنوان ، إنَّما فهمناه من صيغة فِعْلان لا من الزيادتين ، بخلاف الزيدين ، فإن الجمع فهمناه منهما ، وهذا الفصل الذي ذكرْتُه مِنْ محاسن علم الإِعراب والتصريف واللغة .
وقال الراغب بعد أن ذَكَرَ أنه العِذْق : " والقَناةُ تشبه القِنْوَ في كونهما غصنين ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك لأنها تشبه القناة في الخط والامتداد ، وقيل : أصلها مِنْ قَنَيْتُ الشيء إذا ادَّخَرْتَه لأنها مُدَّخِرَةٌ للماء . وقيل : هو مِنْ قاناه أي : خالطه ، قال - يعني امرأ القيس -/ :
كبِكْرِ مُقاناةِ البياضِ بصُفْرةٍ *** غَذَاها نُمَيْرُ الماءِ غيرَ مُحَلَّلِ
وأمَّا " القنا " الذي هو الاحْدِيْداب في الأنف فيشبَّه في الهيئة بالقنا يقال : رجل أقنى وامرأة قَنْواء كأحمر وحمراء " . والطَّلع : أول ما يخرج من النخلة في أكمامه . قال أبو عبيد : " الطَّلْعُ : الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ عن الإغريض والإِغريض يسمى طَلْعاً يقال : أطلعت النخلة إذا أخرجت طَلْعَها ، تطلُع إطلاعاً وطلع الطلع يَطْلُع طلوعاً ففرقوا بين الإِسنادين . وأنشدني بعضهم في مراتب ما تثمره النخلة قول الشاعر :
إن شِئْتَ أن تَضْبِطَ يا خَليلُ *** أسماءَ ما تُثْمِرُه النخيلُ
فاسمَعْه مَوْصوفاً على ما أذكرُ *** طَلْعٌ وبعده خَلال يظهر
وبَلَحٌ ثم يليه بُسْرُ *** ورُطَب تجنيه ثم تَمْرُ
فهذه أنواعُها يا صاحِ *** مضبوطةً عن صاحب الصِّحاح
قوله : " وجنَّات " الجمهور على كسر التاء من " جنات " لأنها منصوبة نسقاً على نبات أي : فأخرجنا بالماء النبات وجنات ، وهو من عطف الخاص على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى : { وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] وعلى هذا فقوله { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } جملةٌ معترضة وإنما جيء بهذه الجملة معترضة ، وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للمِنَّة به ؛ لأنه من أعظم قوت العرب ؛ لأنه جامع بين التفكُّه والقوت ، ويجوز أن ينتصب " جنات " نسقاً على " خضراً " . وجوَّز الزمخشري - وَجَعَلَهُ الأحسنَ - أن ينتصب على الاختصاص كقوله " والمقيمي الصلاة " قال : " بفضلِ هذين الصنفين " وكلامُهُ يُفْهم أن القراءة الشهيرة عنده برفع " جنات " ، والقراءة بنصبها شاذة ، فإنه أولُ ما ذكر توجيهُ الرفع كما سيأتي ، ثم قال : " وقرئ " وجنات " بالنصب " فذكر الوجهين المتقدمين .
وقرأ الأعمش ومحمد بن أبي ليلى وأبو بكر في رواية عنه عن عاصم " وجنات " بالرفع وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مرفوعة بالابتداء ، والخبر محذوف . واختلفت عبارة المعربين في تقديره : فمنهم مَنْ قَدَّره متقدِّماً ، ومنهم من قَدَّره متأخراً ، فقدَّره الزمخشري متقدماً أي : وثَمَّ جنات ، وقدَّره أبو البقاء " ومن الكرم جنات " ، وهذا تقدير حسن لمقابلة قوله " ومن النخل " أي : من النخل كذا ومن الكرم كذا ، وقَدَّره النحاس " ولهم جنَّات " ، وقدَّره ابن عطية : " ولكم جنات " ، ونظيره قراءة { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بعد قوله : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكوابٍ } أي : ولهم حورٌ عين ، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويهِ والكسائي والفراء .
وقدَّره متأخراً فقال : أي وجنات من أعناب أخرجناها . قال الشيخ : " ودل على تقديره [ قوله ] قبلُ " فأخرجنا " كما تقول : أكرمت عبد الله وأخوه أي : وأخوه أكرمته " . قلت : وهذا التقدير سبقه إليه ابن الأنباري ، فإنه قال : " الجناتُ " رُفِعت بمضمر بعدها تأويلها : وجناتٌ من أعناب أخرجناها ، فجرى مَجْرَى قول العرب : " أكرمت عبدَ الله وأخوه " تريد : وأخوه أكرمته . قال الفرزدق :
غداةَ أحلَّتْ لابنِ أَصْرَمَ طَعْنَةٌ *** حصينٍ عَبيطاتِ السَّدائِفِ والخمرُ
فرفع " الخمر " وهي مفعولة ، على معنى : والخمر أَحَلَّها الطعنة . الوجه الثاني : أن يرتفع عطفاً على " قنوان " ، تغليباً للجوار ، كما قال الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وزجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
فنسق " العيون " على " الحواجب " تغليباً للمجاورة ، والعيونُ لا تُزَجَّج ، كما أن الجنات من الأعناب لا يَكُنَّ من الطَّلْع ، هذا نصُّ مذهب ابن الأنباري أيضاً ، فتحصَّل له في الآية مذهبان ، وفي الجملة فالجواب ضعيف ، وقد تقدم أنه من خصائص النعت .
والثالث : أن يعطف على " قنوان " . قال الزمخشري : " على معنى : محاطة أو مُخْرجة من النخل قنوان ، وجنات من أعناب أي : من نبات أعناب . قال الشيخ : " وهذا العطفُ هو على أن لا يُلْحَظَ فيه قيدٌ من النخل فكأنه قال : ومن النخل قنوان دانية وجنات من أعناب حاصلة كما تقول : " من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش منطلقان " . قلت : وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوجه أعني عطفها على " قنوان " ، وضعَّفه ابن عطية ، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه ، ومنع أبو البقاء عطفه على " قنوان " قال : " لأن العنب لا يخرج من النخل " . وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة . قال أبو حاتم : " هذه القراءة محال ؛ لأن الجنات من الأعناب . لا تكون من النخل " . قلت : أمَّا جواب أبي البقاء فيما قاله الزمخشري ، وأمَّا جوابُ أبي عبيد وأبي حاتم فيما تقدم من توجيه الرفع . و " من أعناب " صفة لجنات فتكون في محل رفع ونصب بحسب القراءتين ، وتتعلق بمحذوف .
قوله : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } لم يقرأهما أحد إلا منصوبين ، ونصبهما : إمَّا عطفٌ على جنات وإمَّا على نبات ، وهذا ظاهر قول الزمخشري ، فإنه قال : " وقرئ " وجنات " بالنصب عطفاً على " نباتَ كل شيء " أي : وَأَخْرَجْنا به جناتٍ من أعناب ، / وكذلك قوله : والزيتونَ والرُّمَّان " .
ونصَّ أبو البقاء على ذلك فقال : " وجنات بالنصب عطفاً على نبات ، ومثله : الزيتونَ والرمانَ " . وقال ابن عطية : " عطفاً على " حَبَّاً " . وقيل على " نبات " وقد تقدم لك أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين ، أحدهما : عطفه على ما يليه ، والثاني : عطفه على الأول نحو : مررت بزيدٍ وعمروٍ وخالد ، فخالد يحتمل عطفه على زيد أو عمرو ، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو : " مررت بك وبزيد وبعمرو " فإن جعلته عطفاً على الأول لَزِمَت الباء وإلاَّ جازت .
والزيتون وزنه فَيْعُول فالتاءُ مزيدةٌ ، والنون أصلية لسقوط ذيك في الاشتقاق وثبوت ذي ، قالوا : أرض زَتِنَة أي كثيرة الزيتون ، فهو نظير قيصوم ، ولأنَّ فَعْلولاً مفقودٌ أو نادر ، ولا يُتَوَهَّم أن تاءَه أصلية ونونَه مزيدة بدلالة الزيت فإنهما مادتان متغايرتان ، وإن كان الزيت معتصراً منه ، ويقال : زات طعامه أي : جعل فيما زيتاً ، وزاتَ رأسَه أي : دَهَنَه به ، وازْدات : أي ادَّهن أُبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازدجر وازدان . والرُّمَّان وزنه فُعَّال نونه أصلية فهو نظير عُنَّاب وحُمَّاض لقولهم : أرض رَمِنَةٌ أي : كثيرتُه .
قوله : { مُشْتَبِهاً } حال : إمَّا من " الرمان " لقربه ، وحذفت الحال من الأول تقديره : والرمان مشتبهاً ، ومعنى التشابه أي في اللون ، وعدم التشابه أي في الطعم . وقيل : هي حال من الأول وحذفت حال الثاني ، وهذا كما تقدم لك في الخبر المحذوف ، نحو : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وإلى هذا نحا الزمخشري فإنه قال : " والزيتون مشتبهاً وغير مشتبه والرمان كذلك كقوله :
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي *** بريئاً . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : " فعلى قوله يكون تقدير البيت : كنت منه بريئاً ووالدي كذلك أي : بريئاً ، والبيت لا يتعين فيه ما ذَكَرَ ؛ لأن بريئاً على وزن فعيل كصديق ورفيق ، فيصحُّ أن يُخْبَرَ به عن المفرد والمثنى والمجموع ، فيحتمل أن يكون " بريئاً " خبر " كان " على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه ، إذ يجوز أن يكون خبراً عنهما ، ولا يجوز أن يكون حالاً منهما ، إذ لو كان لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين " . قال أبو البقاء : " حال من الرمان ومن الجميع " ، فإن عنى في المعنى فصحيح ويكون على الحذف كما تقدَّم ، وإن أراد في الصناعة فليس بشيء لأنه كان يلزم المطابقة .
والجمهور على " مشتبهاً " وقرئ شاذاً متشابهاً وغير متشابه كالثانية ، وهما بمعنى واحد . قال الزمخشري : " كقولك : اشتبه الشيئان وتشابها كاستويا وتساويا . والافتعال والتفاعل يشتركان كثيراً " . انتهى . وأيضاً فقد جَمَعَ بينهما في هذه الآية في قوله " مشتبهاً وغير متشابه " .
قوله : { إِلِى ثَمَرِهِ } متعلِّق ب " انظروا " وهي بمعنى الرؤية ، وإنما تَعَدَّتْ ب إلى لِما تَتَضَمَّنه من التفكر .
وقرأ الأخوان " ثُمُرِه " بضمتين ، والباقون : بفتحتين ، وقُرِئَ شاذاً بضم الأول وسكون الثاني .
فأمَّا قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه ، أحدها : أن تكون اسماً مفرداً كطُنُب وعُنُق . والثاني : أنه جمع الجمع فَثُمُر جمع ثِمار وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو : أُكُم جمع إكام وإكام جمع أَكَمَة فهو نظير كُثْبان وكُثُب . والثالث : أنه جمع ثَمَرَ كما قالوا : أسَد وأُسُد . والرابع : أنه جمع ثمرة ، قال الفارسي : " والأحسن أن يكون جمع ثَمَرَة كخشبة وخُشُب ، وأكمة وأُكُم ونظيره في المعتل : لابة ولُوْب ، وناقة ونوق ، وساحة وسوح .
وأما قراءة الجماعة فالثَمَر اسم جنس مفرده ثمرة كشجر وشجرة ، وبقر وبقرة ، وجزر وجزرة . وأما قراءة التسكين فهي تخفيف قراءة الأخوين ، وقيل : بل هي جمع ثَمَرَة كبُدْن جمع بَدَنَة ، ونقل بعضهم أنه يقال ثَمُرَة بزنة سَمُرة ، وقياسها على هذا ثَمُر كسَمُر بحذف التاء إذا قُصِدَ جمعُه ، وقياسُ تكسيرِه أثمار كعَضُد وأعضاد ، وقد قرأ أبو عمرو الذي في سورة الكهف بالضم وسكون الميم ، فهذه القراءة التي هنا فصيحة كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مستندها النقل . وقرأ أبو عمرو والكسائي وقنبل " خُشْب " . والباقون بالضم ، فهذه القراءة نظير تِيك . وهذا الخلاف أعني في " ثَمَرِه " والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس . وأما الذي في سورة الكهف ففيه ثلاث قراءات : فعاصم يقرؤه بفتحتين كما يقرؤه في هذه السورة ، وفي يس ، فاستمرَّ على عمل واحد ، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث/ فاستمرا على عمل واحد ، وأمَّا نافع وابن كثير وابن عامر فقرؤوا ما في الأنعام ويس بفتحتين وقرؤوا ما في الكهف بضمتين ، وأمَّا أبو عمرو فقرأ ما في الأنعام ويس بفتحتين وما في الكهف بضمة وسكون . وقد ذكروا في توجيه الضمتين في الكهف ما لا يمكن أن يأتي في السورتين ، وذلك أنهم قالوا في الكهف : الثُّمُر بالضم المال ، وبالفتح المأكول .
وقوله : { إِذَآ أَثْمَرَ } ظرق لقوله : " انظروا " ، وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف ، وأن يكون شرطاً ، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي : إذا أثمر فانظروا إليه .
قوله : { وَيَنْعِهِ } الجمهور على فتح الياء مِنْ " ينعه " وسكون النون . وقرأ ابن محيصن بضم الياء وهي قراءة قتادة والضحاك . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة واليماني : يانعة ، ونسبها الزمخشري لابن محيصن ، فيجوز أن يكون عنه قراءتان . والينع بالفتح والضم مصدر : يَنَعَتِ الثمرة أي : نضجت ، والفتح لغة الحجاز ، والضم لغة بعض نجد ، ويقال أيضاً يُنُع ويُنُوع بواو بعد ضمتين . وقيل : اليَنْع بالفتح جمع يانِع كتاجِر وتَجْر وصاحِب وصَحْب ، ويقال : يَنَعَت الثمرة وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى . وقال الحَجَّاج : " أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها " .
ويانع اسم فاعل وقيل : أينعت الثمرة وينعت احمرَّت ، قاله الفراء ، ومنه الحديث في الملاعنة : " إنْ وَلَدَتْهُ أحمرَ مثلَ اليَنَعَة " وهي خَرَزَةٌ حمراء ، قيل : هي العقيق أو نوع منه . ويقال : يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل هذا قول أبي عبيد وأنشد :
. . . . . . . . . . . . . . . . . *** حولها الزيتونُ قد يَنَعَا
وقال الليث بعكس هذا : أي بكسرها في الماضي وبفتحها في المستقبل . وناسب ختامَ هذه الآية بقوله " لقوم يؤمنون " كونُ ما تقدَّم دالاً على وحدانيته وإيجاده المصنوعات المختلفة ، فلا بُدَّ لها مِنْ مدبِّر مع أنها نابتةٌ من أرضٍ واحدةٍ وتُسْقَى بماءٍ واحد ، وهذه الدلائل إنما تنفع المؤمنين المتدبِّرين دون غيرهم .