الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلۡجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۭ بِغَيۡرِ عِلۡمٖۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ} (100)

قوله تعالى : { شُرَكَآءَ الْجِنَّ } : الجمهور على نصب " الجن " وفيه خمسة أوجه ، أحدها : وهو الظاهر أنَّ " الجن " هو المفعول الأول ، والثاني هو " شركاء " قُدِّم ، و " لله " متعلِّق بشركاء . والجَعْل هنا بمعنى التصيير ، وفائدةُ التقديم كما قالَه الزمخشري استعظامُ أن يُتَّخَذَ لله شريكٌ مَنْ كان مَلَكاً أو جنِّيَّاً أو إِنسِيَّاً ولذلك قُدِّم اسم الله على الشركاء " انتهى . ومعنى كونهم جعلوا الجن شركاء لله هو أنهم يعتقدون أنهم يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع كما جاء في التفسير . وقيل : ثم طائفة من الملائكة يسمَّون الجن كان بعض العرب يعبدها .

الثاني : أن يكون " شركاء " مفعولاً أول و " لله " متعلقٌ بمحذوف على أنه المفعول الثاني ، و " الجنّ " بدل من " شركاء " ، أجاز ذلك الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ومكي بن أبي طالب ، إلا أنَّ مكِّيَّاً لمَّا ذَكَرَ هذا الوجهَ جَعَلَ اللامَ مِنْ " لله " متعلقةً بجَعَلَ فإنه قال : " الجنَّ مفعولٌ أولُ لَجَعَلَ و " شركاءَ " مفعولٌ ثانٍ مقدَّم ، واللام في " لله " متعلقة بشركاء ، وإن شِئْتَ جَعَلْتَ " شركاء " مفعولاً أول ، والجن بدلاً من شركاء ، و " لله " في موضع المفعول الثاني ، واللام متعلقة بجعل " . قلت : بعد أن جعل " لله " مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّر أن يَجْعَلَ اللامَ متعلقةً بالجعلِ ؟ هذا ما لا يجوز لأنَّه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّنَ تعلُّقُهُ بمحذوف على ما عرفته غيرَ مرة . قال الشيخ : " وما أجاوزه - يعني الزمخشري ومن ذُكِرَ معه - لا يجوز ؛ لأنه يصِحُّ للبدل أن يحلَّ محلَّ المبدل منه فيكونَ الكلام منتظماً ، لو قلت : وجعلوا لله الجنَّ لم يَصِحَّ ، وشرطُ البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول ، وهذا لا يَصِحُّ هنا البتَةَ لِما ذكرنا " قلت : هذا القول المنسوب للزمخشري ومَنْ ذُكِرَ معه سبقهم إليه الفراء وأبو إسحاق فإنهما أجازا أن يكونا مفعولين قُدِّم ثانيهما على الأول وأجازا أن يكون " الجن " بدلاً من " الشركاء " ومفسِّراً للشركاء هذا نصُّ عبارتهم ، وهو معنى صحيح أعني كونَ البدل مفسراً ، فلا معنى لردِّ هذا القول ، وأيضاً فقد رَدَّ هو على الزمخشري عند قوله تعالى { إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ }

[ المائدة : 117 ] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل مَحَلَّ المبدلِ منه ، قال : " ألا ترى إلى تجويز النحويين " زيد مررت به أبي عبد الله " ولو قلت : " زيد مررت بأبي عبد الله " لم يجز إلا على رأي الأخفش " وقد سبق هذا في المائدة ، فقد قرر/ هو أنه لا يلزم حلول البدل محلَّ المبدل منه فكيف يَرُدُّ به هنا ؟

الثالث : أن يكون " شركاء " هو المفعول الأول و " الجن " هو المفعول الثاني ، قاله الحوفي ، وهذا لا يَصِحُّ لِما عرفت أن الأول في هذا الباب مبتدأ في الأصل والثاني خبر في الأصل ، وتقرَّر أنه إذا اجتمع معرفة ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ والنكرة خبراً ، من غير عكس إلا في ضرورة ، تقدَّم التنبيه على الوارد منها .

الرابع : أن يكون " شركاء الجن " مفعولين على ما تقدَّم بيانه . و " لله " متعلق بمحذوف على أنه حال من " شركاء " ؛ لأنه لو تأخر عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء ، وهذا لا يَصِحُّ ؛ لأنه يصير المعنى : جعلوهم شركاء في حال كونهم لله أي : مملوكين ، وهذه حال لازمة لا تنفك ، ولا يجوز أن يقال إنها غير منتقلة لأنها مؤكدة إذ لا تأكيدَ فيها هنا ، وأيضاً فإنَّ فيه تهيئةَ العامل في معمول وقَطْعَه عنه ؛ فإن " شركاء " يطلب هذا الجارَّ ليعمل فيه والمعنى منصبٌّ على ذلك .

الخامس : أن يكون " الجنَّ " منصوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدَّر ، كأن سائلاً سأل فقال بعد قوله تعالى { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } : مَنْ جعلوا لله شركاء ؟ فقيل : الجنَّ ، أي : جعلوا الجن ، نقله الشيخ عن شيخه أبي جعفر بن الزبير ، وجعله أحسن مما تقدَّم قال : " ويُؤَيِّد ذلك قراءةُ أبي حيوة ويزيد بن قطيب " الجنُّ " رفعاً على تقدير : هم الجن ، جواباً لمن قال : [ من ] جعلوا لله شركاء ؟ فقيل : هم الجن ، ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والاستنقاص بمن جعلوه شريكاً لله تعالى . وقال مكي : " وأجاز الكسائي رفع " الجن " على معنى هم الجن " ، فلم يَرْوِها عنه قراءةً ، وكأنه لم يطَّلع على أن غيرَه قرأها كذلك .

وقرأ شعيب بن أبي حمزة ويزيد بن قطيب وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً " شركاءَ الجنِّ " بخفض " الجن " ، قال الزمخشري : " وقرئ بالجر على الإِضافة التي للتبيين فالمعنى : أشركوهم في عبادتهم لأنهم أطاعوهم كما أطاعوا الله " . قال الشيخ : " ولا يتضح معنى هذه القراءة ، إذ التقدير : وجعلوا شركاء الجن لله " . قلت : معناها واضح بما فسَّره الزمخشري في قوله ، والمعنى : أَشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخره ولذلك سَمَّاها إضافة تبيين ، أي إنه بيَّن الشركاء كأنه قيل : الشركاء المطيعين للجن .

قوله : { وَخَلَقَهُمْ } الجمهور على " خَلَقَهم " بفتح اللام فعلاً ماضياً ، وفي هذه الجملة احتمالان ، أحدهما : أنها حالية ف " قد " مضمرةٌ عند قومٍ وغير مضمرة عند آخرين .

والثاني : أنها مستأنفة لا محَلَّ لها ، والضمير في " خلقهم " فيه وجهان ، أحدهما : أنه يعود على الجاعلين أي : جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غير مشاركة له في خلقهم فكيف يشركون به غيره ممَّن لا تأثيرَ له في خلقهم ؟ والثاني : أنه يعود على الجن أي : والحال أنه خلق الشركاء فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له ؟

وقرأ يحيى بن يعمر : " وَخَلْقهم " بسكون اللام . قال الشيخ : " وكذا في مصحف عبد الله " . قلت : قوله " وكذا في مصحف عبد الله " فيه نظر من حيث إن الشكل الاصطلاحي أعني ما يدل على الحركات الثلاث وما يدل على السكون كالجزء منه كانت مصاحفُ السَّلفِ منها مجردة ، والضبط الموجود بين أيدينا اليوم أمرٌ حادث ، يقال : إن أول مَنْ أحدثه يحيى بن يعمر ، فكيف يُنسب ذلك لمصحف عبد الله بن مسعود ؟ وفي هذه القراءة تأويلان أحدهما : أن يكون " خَلْقهم " مصدراً بمعنى اختلاقهم . قال الزمخشري : أي اختلاقهم للإِفك يعني : وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم " والله أمَرَنا بها " انتهى . فيكون " لله " هو المفعول الثاني قُدِّم على الأول . والتأويل الثاني : أن يكون " خَلْقهم " مصدراً بمعنى مخلوقهم . فيكون عطفاً على " الجن " ، ومفعوله الثاني محذوف تقديره : وجعلوا مخلوقَهم وهو ما ينحِتون من الأصنام كقوله تعالى : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } شركاءَ لله تعالى .

قوله تعالى : " وخَرَقوا " قرأ الجمهور " خَرَقوا " بتخفيف الراء ونافع بتشديدها . وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء ، وابن عمر كذلك أيضاً إلا أنه شدد الراء ، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاختلاق . قال الفراء : " يقال خلق الإِفك وخَرَقه واختلقه وافتراه وافتعله وخَرَصَه بمعنى كَذَب فيه " ، والتشديد للتكثير لأن القائلين بذلك خلق كثير وجمٌّ غفير ، وقيل : هما لغتان ، والتخفيف هو الأصل . وقال الزمخشري : " ويجوز/ أن يكون مِنْ خرق الثوب إذا شقَّه أي : اشتقُّوا له بنين وبنات " . وأمَّا قراءة الحاء المهملة فمعناها التزوير أي : زوَّروا له أولاداً لأن المزوِّر محرِّف ومغيِّرٌ الحقَّ إلى الباطل .

وقوله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } فيه وجهان . أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف أي : خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علم قاله أبو البقاء وهو ضعيفُ المعنى ، والثاني : وهو الأحسنُ أن يكونَ منصوباً على الحال من فاعل " خرقوا " أي : افتعلوا الكذبَ مصاحبين للجهل وهو عدم العلم .