الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَـٰٓفَّـٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۭ بَصِيرٌ} (19)

قوله : { صَافَّاتٍ } : يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِن " الطير " ، وأَنْ يكونَ حالاً مِن ضمير " فوقَهم " ، إذا جَعَلْناه حالاً فتكونُ متداخِلةً . و " فوقَهم " ظرفٌ لصافَّات على الأولى ، أو ل " يَرَوْا " .

قوله : { وَيَقْبِضْنَ } عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ لأنَّه بمعناه ، أي : وقابضاتٍ ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ ، عكسَ قولِه : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسمَ هناك مؤولٌ بالفعلِ . وقد تقدَّم الاعتراضُ على ذلك . وقولُ أبي البقاء : " معطوفٌ على اسم الفاعل ، حَمْلاً على المعنى ، أي : يَصْفِفْنَ ويَقْبِضْنَ أي : صافَّاتٍ وقابِضاتٍ " لا حاجةَ إلى تقديره : يَصْفِفْنَ ويَقْبَضْنَ ؛ لأن الموضعَ للاسمِ فلا نُؤَوِّلُه بالفعل . وقال الشيخ : " وعَطَفَ الفعلَ على الاسم/ لمَّا كان في معناه ، ومثلُه قولُه تعالى : { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3-4 ] عطفَ الفعلَ على الاسم لمَّا كان المعنى : فاللاتي أغَرْنَ فأَثَرْنَ ، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ ، وكذا عكسُه ، إلاَّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله :

بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ *** يَقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ

أي : قاصدٌ في أَسْوُقِها وجائر " انتهى ، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ ، إلاَّ أنَّ الاسمَ فيه مؤولٌ بالفعلِ عكسَ هذه الآيةِ . ومفعولُ " يَقْبِضْنَ " محذوفٌ أي : ويَقْبِضْنَ أجنحتَهُنَّ ، قاله أبو البقاء ، ولم يُقَدِّرْ ل " صافَّاتٍ " مفعولاً ، كأنه زَعَمَ أنَّ الاصطفافَ في أنفسِها أي : مصطفَّةً . والظاهرُ أنَّ المعنى : صافَّاتٍ أجنحتَها وقابضَتَها ، فالصَّفُّ والقَبْضُ منها لأجنحتِها .

وكذلك قال الزمخشريُّ : " صافَّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتَهن " ثم قال : " فإنْ قلتَ لِمَ قال : ويقبضْنَ ولم يَقُلْ : وقابضاتٍ ؟ قلت : لأنَّ الطيرانَ هو صَفُّ الأجنحةِ ؛ لأنَّ الطيرانَ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ ، والأصلُ في السباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها ، وأمَّا القَبْضُ فطارِىءٌ على البَسْطِ ، للاستظهارِ به على التحرُّكِ ، فجيء بما هو طارِىءٌ غيرُ أصلٍ ، بلفظِ الفعلِ على معنى أنَّهن صافاتٌ ، ويكونُ منهنَّ القَبْضُ تارةً بعد تارة ، كما يكون من السَّابح " .

قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً من الضمير في " يَقْبِضْنَ " قاله أبو البقاء ، والأولُ هو الظاهرُ . وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ .