الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞قَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ لَنُخۡرِجَنَّكَ يَٰشُعَيۡبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرۡيَتِنَآ أَوۡ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَاۚ قَالَ أَوَلَوۡ كُنَّا كَٰرِهِينَ} (88)

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ } : عطفٌ على الكاف ، و { يا شعيبُ } اعتراضٌ بين المتعاطفَيْن .

قوله : { أو لَتَعُودُنَّ } عَطَفَ على جواب القسم الأول ، إذ التقدير : واللهِ لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ . فالعَوْدُ مسندٌ إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه . و { عاد } لها في لسانهم استعمالان : أحدهما وهو الأصلُ أنه الرجوعُ إلى ما كان عليه من الحال الأول . والثاني استعمالُها بمعنى صار ، وحينئذ ترفعُ الاسمَ وتنصِبُ الخبر ، فلا تكتفي بمرفوعٍ وتفتقر إلى منصوب ، وهذا عند بعضهم . ومنهم مَنْ منع أن تكون بمعنى صار ، فمِنْ مجيئها بمعنى صار عند بعضهم قولُ الشاعر :

وَرَبَّيْتُه حتى إذا ما تركتُه *** أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُهْ

وبالمَحْضِ حتى عاد جَعْداً عَنَطْنَطا *** إذا قام ساوى غاربَ الفحل غاربُهْ

فرفع ب " عاد " ضميرَ الأول ونَصَبَ بها " جَعْداً " . ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً .

ولكن استشكلوا على كونِها بمعناها الأصلي أنَّ شعيباً صلى الله عليه وسلم لم يكنْ قطُّ على دينهم ولا في مِلَّتِهِمْ . فكيف يَحْسُن أن يُقال :

{ أو لتعودُنَّ } أي : لَتَرْجِعُنَّ إلى حالتكم الأولى ، والخطابُ له ولأتباعه ؟

وقد أجيب عن ذلك بثلاثة أوجه :

أحدها : أن هذا القولَ مِنْ رؤسائهم قصدوا به التلبيسَ على العوام والإِيهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ .

الثاني : أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالةِ سكوتِه قبل بعثته ؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه وهو ساكتٌ عنهم ، يَرَى مِنْ معبودهم غيرَ الله .

الثالث : تغليبُ الجماعةِ على الواحدِ ؛ لأنهم لمَّا صحبوه في الإِخراج سحبوا عليه وعليهم حكمَ العَوْد في الملَّة تغليباً لهم عليه .

وأما إذا جَعَلْناها بمعنى صيَّر فلا إشكال في ذلك ، إذ المعنى : لَتَصِيرُنَّ في ملَّتنا بعد أن لم تكونوا . ف{ في مِلَّتنا } حالٌ على الأول ، خبر على الثاني ، وعدَّى " عاد " ب " في " الظرفيةِ كأن المِلَّةَ لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم .

قوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } الاستفهامُ للإِنكار تقديره : أيوجدُ منكم أحدُ هذين الشيئين : أعني الإِخراج من القرية والعَوْد في الملَّة على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك ؟

وقال الزمخشري : " الهمزةُ للاستفهام ، والواوُ واو الحال تقديره : أتُعيدوننا في ملَّتكم في حالِ كراهتنا " .

قال الشيخ : وليست هذه واوَ الحال بل واوُ العطف ، عَطَفَتْ هذه الحالَ على حالٍ محذوفة ؛ كقوله عليه السلام : ( رُدُّوا السائل ولو بظِلْفٍ مُحْرَق ) . ليس المعنى : رُدُّوه حالَ الصدقة عليه بظِلْف مُحْرَق ، بل معناه : رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ، ولو مصحوباً بظلف محرق .

قلت : وقد تقدَّمتْ هذه المسألةُ وأنه يَصِحُّ أن تُسَمَّى واوَ الحال وواوَ العطف وتحريرُ ذلك ، ولولا تكريرُه لما كرَّرْته .

وقال أبو البقاء : " ولو هنا بمعنى " إنْ " لأنها للمستقبل ، ويجوزُ أن تكونَ على أصلها ، ويكون المعنى : لو كنَّا كارهين في هذه الحال .

قوله : " لأنها للمستقبل " ممنوع .