الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثُمَّ بَدَّلۡنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلۡحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدۡ مَسَّ ءَابَآءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ وَهُمۡ لَا يَشۡعُرُونَ} (95)

قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } : في " مكان " وجهان ، أظهرهما : أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ ، والمعنى : بدَّلنا مكان الحال السيئة الحالَ الحسنة ، فالحسنةُ هي المأخوذةُ الحاصلة ، ومكان السيئة هو المتروكُ الذاهب ، وهو الذي تَصْحبه الباءُ في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره : بدَّلْتُ زيداً بعمرو ، فزيد هو المأخوذ وعمرو المتروك ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة في موضعَيْن أوَّلهما : *** { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ }

[ الأعراف : 59 ] والثاني : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ } [ الأعراف : 211 ] فمكان والحسنة مفعولان ، إلا أنَّ أحدهما وَصَلَ إليه الفعلُ بنفسه وهو الحسنة ، والآخر بحذف حرف الجر وهو " مكان " . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والتقدير : ثمَّ بَدَّلْنا في مكان السيئة الحسنة ، إلا أن هذا ينبغي أن يُرَدَّ لأن " بَدَّلَ " لا بُدَّ له من مفعولين أحدهما على إسقاط الباء .

قوله : { حَتَّى عَفَوْاْ } " حتى " هنا غاية ، وتقدير مَنْ قَدَّرها ب إلى فإنما يريد تفسير المعنى لا الإِعراب ، لأن " حتى " الجارة لا تباشرُ إلا المضارعَ المنصوبَ بإضمار " أن " لأنها في التقدير داخلةٌ على المصدرِ المنسبكِ منها ومن الفعل ، وأمَّا الماضي فلا يطَّرد حَذْفُ " أنْ " معه ، فلا يُقَدَّر معه أنها حرفُ جر داخلةٌ على " أن " المصدرية أي : حتى أَنْ عَفَوا ، وهذا الذي يَنْبغي أن يُحْمَلَ عليه قولُ/ أبي البقاء : " حتى عَفَوا : إلى أنْ عفوا " .

ومعنى " عَفَوا " هنا كَثُروا ، مِنْ عفا السِّعْر : إذا كَثُرَ ، ومنه " وأعْفُوا اللِّحى " يقال : عَفَاه وأَعْفاه ثلاثياً ورباعياً . قال زهير :

أذلك أم أَقَبُّ البطنِ جَأْبٌ *** عليه مِنْ عَقِيقته عِفاءُ

وفي الحديث : " إذا عَفا الوَبَر وبَرأ الدبر فقد حلَّت العمرة لمن اعتمر " وأنشد الزمخشري على ذلك قول الحطيئة :

بمستأسِدِ القُرْيان عافٍ نباتُه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وقول لبيد :

ولكنَّا نُعِضُّ السيفَ منها *** بأسْوُقِ عافياتِ الشحم كُومِ

وهذا المادة قد تقدَّم تحقيقُها في البقرة .

قوله : { فَأَخَذْنَاهُمْ } قال أبو البقاء : " هو عطفٌ على " عَفَوا " . يريد : وما عطف عليه أيضاً ، أعني أن الآخذ ليس متسَبِّباً عن العَفاء فقط ، بل عليه وعلى قولهم تلك المقالةَ الجاهلية ؛ لأنَّ المعنى ليس أنه لمجردِ كثرتِهم ونموّ أموالهم أَخَذهم بغتةً بل بمجموعِ الأمرين ، بل الظاهرُ أنه بقولهم ذلك فقط .

وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } حال أيضاً ، وهي في قوة المؤكدة لأن " بغتة " تفيدُ إفادتَها ، سواءً أَعْرَبْنا " بغتة " حالاً أم مصدراً .